المزاد الفلسطيني لا يزال مفتوحا
ما معنى أن يدعو خامنئي إلى مقاطعة إسرائيل فيما لا تساهم بلاده في البحث عن حل للخروج من المأزق الذي اخترعته حركة حماس التي انحرفت بطريقة أو بأخرى بغزة إلى الخندق الإيراني وتحول إلى كارثة إنسانية يدفع ثمنها أهل غزة موتا وجوعا وتشردا؟
خامنئي الإيراني مثله في ذلك مثل أردوغان التركي لا يُخفى عليه أن الكارثة أكبر من أن تُحل بالتظاهرات المليونية التي لم تخرج والهتافات التي ظلت حبيسة الحناجر والخطابات الرنانة البلهاء التي تنتمي إلى قائمة المأكولات الفاسدة التي سبق لها وأن سممت شعوب المنطقة عقودا طويلة في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تتوسع على حساب الحق الفلسطيني وتبني ترسانتها العسكرية في مواجهة شعب يزداد بؤسا وتخلفا وفقرا وجهلا بسبب هيمنة بعض المنتفعين من القضية عليه والمتاجرة بعذاباته.
يوما ما كانت هناك حركة تحرير وطني فلسطيني وكان لتلك الحركة وقعها على المجتمع الدولي الذي وجد نفسه مضطرا بسببها للإنصات إلى الصوت الفلسطيني والاعتراف بالحق الفلسطيني الذي اعتبره العرب قضيتهم الأولى، بل وقضيتهم المركزية. غير أن الفلسطينيين اقتنعوا أنهم لن يُخرجوا الصراع من عنق الزجاجة إلا إذا سايروا العالم في قناعة، مفادها أن الحق الفلسطيني بات منحصرا في فلسطين السياسية التي رسمت خرائطها القوانين الدولية وليس في فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر.
وحين وقع الفلسطينيون اتفاقية أوسلو عام 1993 صار عليهم أن يديروا الصراع بأسلحة جديدة مستندين أصلا إلى امتدادهم العربي الرسمي والشعبي وإلى الدعم الذي لم ينقطع عنهم سواء من الدول التي طبعت مع إسرائيل أو الدول التي لم تقم بذلك. كان اختيارهم للحل السلمي والانتهاء من مسألة الكفاح المسلح يوجب عليهم أن ينتقلوا إلى لغة حوار مع العالم تكون منسجمة مع حقيقة الطريق التي قرروا أن يستأنفوا نضالهم من خلاله.
ما كان صادما لإسرائيل ومقلقا لخططها أن يتخلى الفلسطينيون عن العنف من خلال استعمال لغة السياسة الهادئة، رفيعة المستوى، مرتفعين بقضيتهم إلى مستوى الخطاب الدبلوماسي متخلين عن التهديد والوعيد الفارغين. ففي ذلك يكمن تحول حضاري لا ترغب إسرائيل في أن يكون الفلسطينيون جزءا منه.
ما حدث بعد ذلك كان نافعا للدولة العبرية.
عمليا فقد أدار الفلسطينيون ظهورهم إلى العرب وصاروا يديرون الحوار بأنفسهم من غير أن ينقطع الدعم المالي العربي عنهم. غير أنهم كما يبدو لم يكونوا مؤهلين لمواجهة عدوهم ودفعه إلى أن ينتقل إلى واقع جديد، ولم يحدث ذلك إلا لأن جبهتهم الداخلية متصدعة ومنخورة وغير آمنة ومُخترقة من قبل قوى إقليمية فكان أن تحولت قضيتهم من قضية وطن إلى قضية دين ومن قضية إنسان إلى قضية جامع.
أدى اضطراب الفلسطينيين وهم يتفاعلون مع تحولات قضيتهم إلى اضطراب علاقتهم بالعالم العربي. ذلك ما كان مطلوبا إسرائيليا. فبعد أن ظهرت حركة حماس وهي تنظيم ديني متشعب الصلات تشظى الخطاب الفلسطيني ما بين العودة إلى العنف يأسا وتنفيذا لأجندات خارجية وبين الاستمرار في مفاوضات غير مجدية مع عدو عرف أن الطرف الآخر قد استضعف نفسه من خلال تخليه عن الغطاء العربي. بالنسبة لفلسطينيي السياسة الرسمية فإن دور العرب ينبغي أن ينحصر في تقديم الدعم المادي من غير أن يتدخلوا في خططهم التي تبين فيما بعد انها تقوم على الفساد.
ما حدث ويحدث في غزة مؤخرا وهو الذي صنع الكارثة التي يدفع ثمنها الآن أهل تلك المدينة المبتلاة بحركة حماس، المحاصرة إسرائيليا منذ سنوات طويلة هو انعكاس لانتقال القضية الفلسطينية من إطارها العربي إلى إطار فضفاض سمته حركة حماس بالإسلامي. ذلك ما سمح بعودة فلسطين إلى المزاد المليء بضجيج المزايدين من أمثال خامنئي وأردوغان وحسن نصرالله وسواه من المقاومين الذين لا يهمهم مصير القضية ولا مصير الشعب الفلسطيني بقدر ما يهمهم أن تظل الشعارات والهتافات والخطابات حية في شارع، يذهب المارون فيه إلى النوم من غير أن يتذكروا أن أهل غزة يعيشون تحت القصف الذي لا يفرق بين مسلح ومدني. فإسرائيل كما حركة حماس لا تنظر إلى الفلسطيني إلا باعتباره مشروعا لقتيل.
كل الحديث المنافق عن النصر لفلسطيني في غزة إنما يشير إلى أن المزاد الفلسطيني لا يزال مفتوحا. خامنئي وأردوغان يقولان ما لا يفعلان. وحسن نصرالله قد خبأ رأسه ووضع اللبنانيين على شفرة سكين غير أنه لن يفعل شيئا سوى المزايدة على بضاعة، يعرف جيدا أنه لن يحصل عليها. كلهم يكذبون فيما القضية الفلسطينية تُذبح مرة أخرى.