المسارات الأولى لجدلية التنوير والجمود الفكري

الهاربون من النص الديني هم أنفسهم يسعون إلى اعتقاله وحبسه بعيدا عن أنفسهم.

جدلية الديني والسياسي

ثمة شواهد تحدد العلاقة التاريخية بين الدين والسياسة، وهذه العلاقة التي طالما شهدت حالات من الصراع الدائم بين التنوير والراديكالية المتمثلة في التطرف العقائدي المفرط، لكن قد تتجاوز حالة الصراع من سجالات الكتب والمناقشات وصراع الفضائيات بين الفريقين إلى الساحة الأكاديمية وهنا تصبح الظاهرة المستدامة أكثر شراسة لأنها تتعلق بمستقبل عقول صناع المستقبل أنفسهم ألا وهم الشباب، وهذا ما ألفيناه واضحا خلال فترة المد الإخواني بصفة خاصة والجموح المستعر لتيارات الإسلام السياسي منذ سقوط نظام مبارك في مصر وبن علي في تونس، فكان الخلط بين الديني والسياسي من ناحية، والخلط العجيب بين الديني والطرح المعرفي الأكاديمي من ناحية أخرى وهو المشهد الذي استرعى النظر والنقد ومن ثم تأويله.

واستعلاء التقوى الذي مارسه الكثير، بل كل المنتمين لجماعات الإسلام السياسي جعلهم يتمتعون بخلفية رصينة لدى طلاب الجامعة لمعارفه ولما يقدمه لهم سواء كانت هذه المعرفة دينية أو علوما إنسانية كالتربية وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا، أو علمية محضة كالطب والهندسة والصيدلة. والتماس المنتمين لتيارات الإسلام السياسي للمرجعية الدينية في أثناء طرحهم العلمي داخل قاعات الدراسة مكنهم من السيطرة على العقول من جهة، وإيجاد فجوة من الشراكة والتفاعل مع غير المنتمين من الطلاب لفكر هذه الجماعات والتيارات، لكن ما فكر فيه هؤلاء الأساتذة حينها وربما لايزالون يسعون بخطى وئيدة لتحقيق ذلك هو أن الجمع بين السلطتين الدينية والمعرفية يمكنهم من إحكام السيطرة على أذهان طلابهم ومن ثم تسهل عملية التوجيه والإرشاد لهم من أجل تحقيق مطامح وأطماع وأهداف جماعة بعينها.

التنوير والراديكالية.. وجها لوجه

وتلك الفكرة ظلت لعقود بعيدة تراود زعماء التيارات الدينية ذات المرجعيات الراديكالية وهم في صراعهم الطويل مع رموز التنوير منذ منتصف القرن العشرين على وجه التحديد، وبلغ الصراع مداه في تهميش جماعات الإسلام السياسي لأدوار أستاذ الجامعة المهموم بالنهضة الحقيقية وتنوير العقول وتبصير الأذهان والأبصار بإعمال العقل وضرورته، كذلك كان مبدأ هذا التوجس المزمن بعقول زعماء وأنصار الفكر الراديكالي هو انتفاء الربط بين الشرع والحقيقة أي الفلسفة وطروحات العقل، الأمر الذي دفع بهم إلى تكفير قاضي القضاة والفيلسوف الأول ابن رشد الذي يتبنى فكره معظم التنويريين، واستهدفوا في ذلك الدمج بين الديني والسياسي والعلمي واستحالة التقاء الفلسفة بالشرع. وهذا الأخير هو الفقيه القاضي الفيلسوف الأندلسي صاحب أشهر المقولات التي أرقت فكر جماعات الإسلام السياسي منذ قرون، ومؤسس التفجير العقلي الذي زلزل عروش تيارات التطرف والإرهاب، فهو القائل "إنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر"، و"اللحية لا تصنع الفيلسوف"، وأيضا قال "لسبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق".

وهذا ليس بجديد، لأن تاريخنا الإسلامي القديم شهد جدلا واسعا وكبيرا بين العقل والنقل، وهذا ما دفع المتأخرون حتى وقتنا الراهن إلى الرفض المطلق لمباحث الفلسفة، كذلك الإعلان بعدم نجاح أو جدوى كافة الأيديولوجيات التي تنتمي للحداثة وأن تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية هي محض عبث.

وليس من باب الدهشة أن يقوم أنصار تيارات الإسلام السياسي من أساتذة الجامعات العربية في مصر وتونس والجزائر الدمج بين الدين والسياسة وصولا لسدة الحكم من بوابة تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم فحسب لا من باب صحيح الشرع، لكن الدهشة الحقيقية هو تسييس العلم والمعرفة والاتجاه ببوصلة الدرس الجامعي إلى تناول قضايا وأفكار تتواصل بالضرورة مع مرجعيات تلك الجماعات تماما كما حدث في مصر أيام فترة حكم جماعة الإخوان حتى سقوطهم الشعبي في الثلاثين من يونيو 2013.

وكانت حجتهم أن التغيير الحقيقي في المعرفة هو الابتعاد عن علوم ومعارف الحداثة وكل ما ينتمي إلى فكرة المدنية التي تعد رجسا يدفع بالأمم إلى الانتحار الإنساني، وهذا الدفع المستمر من جانب الأكاديميين خلق حالات من اهتزاز المعرفة الحقيقية لدى الشباب الجامعي، وجعلهم في مقام مستدام من محاكمة المعارف التي تقدم لهم تحت قبة الجامعة. وكانت المشكلة الرئيسة وربما ظلت قائمة حتى الآن في ظل وجود خلايا نائمة لأنصار تلك التيارات وبقاء وجوه جامعية مستترة غير معلنة أنهم دون استثناء متفقون على الطرح المعرفي الذي يقدمونه إلى طلابهم لأن المرجعية لديهم ثابتة دونما تغيير أو تطوير فهي تم نقلها تحت سلطة السمع والطاعة، بخلاف الأكاديميين ذات توجه التنوير، المختلفين في طرحهم والمهمومين بنقد الواقع المعرفي بصور شتى وزوايا متباينة، صبَّ هذا الاختلاف بين الفريقين لصالح أنصار تيار الإسلام السياسي لاتفاقهم في رصد الواقع، وسرد المرجعية الخاصة بهم، والتوجه إلى هدف محدد بغير لغط.

أما المرفَّهون من أصحاب قضايا التنوير ونهضة الأمم أحفاد ابن رشد فهو في شقاق واختلاف بقدر اختلاف مشاربهم الفكرية والمذهبية، لذا فحينما ينقدون مجتمعاتهم البائدة أو الراهنة فهو يتمثلون مدنا فاضلة افتراضية قد نتلمسها فقط من خلال تغريدات إلكترونية أو منشورات يتم بثها وطرحا على مواقع التواصل الاجتماعي دونما فائدة مرجوة.

هذا من منطق البدايات المتباينة بين من زعم بالتنوير سلاحا لتطوير المجتمع، ومن سعى في خفاء تارة وعلن تارة أخرى بهدف استغلال الدين وصولا إلا أغراض ومطامح سياسية، أما عن النهايات أو بالأحرى محاولة لاستشراف نهايات الفريقين؛ التنوير والراديكالية فالمشهد يبدو واحدا بغير اختلاف.

مشهد رأسي على كُنْه التنوير

أما أنصار التنوير رافعي شعارات نهضة الأمم بإعمال العقل، فاستشراف نهاياتهم أيضا تبدو جلية؛ لأنه بات من الضروري ابتعاد هؤلاء عن التنظير المطلق دون رصد حركة المجتمعات القائمة بالفعل، والاقتراب المتواصل بغير انقطاع مع الجامعيين الشباب لمعرفة احتياجاتهم المعرفية وآفاق مطامحهم المستقبلية. كذلك يشكل بعض أنصار التنوير عبئا على الإسلام أيضا؛ لأن بعضهم عاقد العزم على الطعن في الدين وثوابته من باب الولوج إلى متاهات الحداثة الأكثر غموضا، ونجد بعضهم أيضا من يمارس فعل التيارات الراديكالية في الهجوم على الشخصيات الوطنية التي ساهمت في نهضة الأمة العربية وهذه قاعدة تظل راسخة لدى البعض لا يمكن الفكاك من رصدها.

وعليه، فإن تاريخ الصراع بين أنصار التنوير وأنصار الراديكالية سيظل قائما ومشهودًا، ويبدو أن كتاب السجال بين المواضعتين التنوير والراديكالية المرجعية سيبقى مفتوحا بغير انتهاء سواء في تشويه الدين بقصد أو بغير قصد، وسيظل باهتا في سطوره ما لم ينتبه كلا الفريقين إلى أن الإسلام هو أقصى وآخر درجة لإعلاء العقل وهذا ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها صلى الله عليه وسلم.

وتبدو مشكلة تحقيق الأمن الفكري عصية بل ربما مستحيلة في بعض الأحايين؛ لاسيما وأنه ـ الأمن الفكري ـ يعني تحقيق الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد، كذلك إحساس المجتمع بأن أفكاره الرصينة الضاربة في القدم ليست مهددة، وهو الأمر الذي بات صعبا أيضا بسبب تسارع المنصات الرقمية وتصارعها بغير رقابة أو ضوابط رسمية تحكم حركتها المضطربة.

مثل هذه الإحداثيات التي تتوافد على كوكب الأرض المشحون بالتنازع والتصارع والاحتراب كانت فرصة سانحة بحق لأولئك المتلاعبين بالعقول الذين باتوا يجيدون فعل المراوغة العقلية والعبث بأفكار الشباب العربي، وأصبح الصراع الحقيقي اليوم ليس صراع الجيل الرابع أو الخامس المهموم بالتكنولوجيا الرقمية، بل بالأدمغة من خلال منابر مباشرة وأخرى إلكترونية تسعى إلى اعتقال النص الديني وتقويضه إن كان في الاستطاعة من أجل صناعة خطاب آخر موازٍ.

وهؤلاء لا يزالوا دونما مهل أو تراخٍ يخططون لثمة سيناريوهات أشبه بالمؤامرات سعيا للوصول إلى سدة الحكم بمناطق عربية شتى، مستخدمين في ذلك أقصى أنواع التواصل المسموع والمرئي أو المقروء فهم يعلمون أن حال الثقافة ومقامها في الوطن العربي يدعو إلى البؤس والإحباط، وهذا شكل لديهم حلما واسعا في السيطرة على أدمغة الشباب المسكين الذي لا يقرأ سوى كتبه الدراسية والجامعية فقط. لذا فإن مسألة اعتقال النص واعتناق نصوص مغايرة للمألوف هي الهدف الراهن لكافة التيارات والجماعات الراديكالية المتطرفة؛ هذا الهدف يرتكز على فكرة الثنائيات التي لا تقبل مساحات أخرى بين الإباحة والتحريم.

هذه الثنائيات الراهنة هي التي تجسد شكل العلاقة ثلاثية الأبعاد بين الأنظمة الحاكمة الرسمية والشباب وأخيرا الجماعات والطوائف التي أبغي تسميتها بالمتطرفة إن لم تكن الأشد تطرفا وشراسة، فبين حكومات تسعى لتحقيق رؤيتها الاستشرافية كجمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ضمن أجندة التنمية 2030 والتي تستهدف الارتقاء بالشباب في شتى المجالات وصولا إلى حالة مرضية وجيدة من الأمن الفكري عن طريق إعمال العقل واتباع الوسطية والرهان على الشباب أنفسهم باعتبارهم مصدر قوة وصلابة وحيوية للدولة، نجد على الشاطئ الآخر من يريد أن يأخذ الشباب إلى زوايا أخرى مناوئة مستخدمة في ذلك النص الديني بوجه عام، والنصوص الثقافية على وجه الاختصاص من حيث تأويلها وتحريفها وفق ضوابط تعكس أيديولوجية تلك الجماعات فنجدهم مستخدمين سلاح احتلال العقل بدلا من إعماله، وبأن المرشد أو الإمام أو قائد الجماعة التكفيرية الأولى بالتفكير والتدبير والتخطيط لا أكثر لا أقل.

فضلا عن الولع بالتحريم، الأمر الذي أكاد أشاهده على كافة المنصات الرقمية المتزايدة في الانتشار والتي تنتمي لفكر الخوارج أو الطوائف الساعية إلى الحكم تحت مظلات دينية سياسية، والتحريم بات أمرا خطيرا بل هو الملمح الأخطر في هذا العصر. ورغم أن إثم التكفير أمر عظيم وقتل المخالف أمر أعظم إلا أن إطلاق التحريم، بل والولع به صار المشهد الأبرز لدى أنصار وأقطاب وأمراء الفكر المتشدد، وأصبح استغلال النص الديني وفقا للتفسير الظاهري هو الحاكم في حدة التحريم.

وإذا بحثنا على عَجَلٍ عن أبرز روافد التطرف لوجدناها في شيوع ثقافة اللاتفكير، وغلو التحريم وتناسي الكراهية والندب والمباح من الأساس، حتى بات التحريم بفضل أمراء الفتنة وشيوخ جبر الخواطر شهوة لها سطوتها وسحرها سيطرت على عقول الآلاف من الشباب العربي. علاوة على أن المتربصين بالنص الديني أكاد أجزم قولا بإنهم لا يفقهون الفرق بين منطوق النص صفة وشرطا واستثناء وغاية وعددا!

التنوير.. بعيدا عن المقصد

ولا شك أن الهاربين من النص الديني هم أنفسهم يسعون إلى اعتقاله وحبسه بعيدا عن أنفسهم أولا، وهي مغبة نكراء تعصف بطمأنينة المجتمعات العربية صاحبة التقاليد الثابتة، وإذا استقرأنا طبيعة الفلسفات الإلحادية المعاصرة لاكتشفنا أنها في مضمونها عبارة عن تيارات فلسفية ترتكز على مجموعة من المبادئ الدينية ذات الطبيعة الذهنية المحضة تتخللها أفكار وثنية شرقية وغربية. وتتناول هذه الفلسفات ـ في العادة ـ قضايا غيبية كمصير الإنسان بعد الموت، أو قضايا ذهنية حياتية كوجود الإنسان وماهية هذا الوجود، والأدوار الحياتية للإنسان كدور الخير والشر والتسامح، بالإضافة إلى الطبائع البشرية غير الثابتة كالقلق والتوتر والخوف من المجهول وهكذا.

وأغلب اليقين لا الظن في هذه الفلسفات التي انتشرت بقوة وسطوة في أوروبا منذ بزوغ نظرية النشوء والارتقاء والتي كان من بين ضحاياها ملايين الشباب في الدول الغربية اهتمت جل اهتمامها بالروحانيات، لكن للأسف الشديد لم ينتبهوا إلى عظمة الإسلام وطبيعة القرآن الكريم بوجه خاص في معالجة الجانب الروحي للإنسان، ولأنهم أرادوا بأنفسهم سوءاً طفقوا يجربون كل شئ على سبيل القلق الوجودي فكانت النتيجة انتحار الملايين وانتشار البغي والفساد وشيوع الزنا لاسيما زنا المحارم، انتهاء بالشرك والعياذ بالله. إن هؤلاء مرضى بحق لاسيما وانهم ضحايا الجهل المركب؛ جهل العقيدة، وجهل الحياة!

وما أشبه تلك الفلسفات بمرض السرطان الذي يدخل جسد الإنسان في خلسة غير مرئية أو مسموعة، وسرعان من تتحول الخلايا السرطانية إلى وحش كاسر فاتك يدمر الإنسان نفسه، والتشبيه هنا يتقابل في مبدأ السرية والتخدير الكاذب، فمعظم المبشرين للفلسفات الإلحادية أوهموا الشباب التائه لاسيما بعد وقائع الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا بالكامل من وجهيها الحضاري النفسي والمادي المحسوس، وأوقعوهم في شرك الهدوء النفسي والبحث عن سبب لوجودهم، وهدف يأملون إليه، ناهيك عن المزاعم التي فرضوها على أولئك الشباب قسراً وقهراً حول إعادة التوازن النفسي لهم إزاء الآثار الناجمة عن الحرب.

محمد عبده.. الملكية الفكرية للتنوير

وتعد طروحات المجدد الإمام محمد عبده المنطلق الرئيس لكل من سعى إلى تكريس مشروع نهضوي عربي، تحديدا منذ وفاته وحتى وقتنا الراهن، المشهد الذي يدفعنا إلى استدعاء كل مشاعر الحسرة دون اليقظة إلى غياب مشروع ناهض بالوطن العربي الذي لا يزال محفوفا بمخاطر التطرف والإرهاب والتيارات الراديكالية المتعصبة. وهذا الاستدعاء يفرض على الرائي أن يقفز خطوات للوراء لمراجعة مشروع النهضة الحضارية الذي بدأه الخديوي إسماعيل والذي نجح في اجتهاده الثقافي بقدر متزامن ومتوازٍ في إخفاقه الاقتصادي بنفس الدرجة والمساحة، بل والمسافة الزمنية أيضا.

وفكرة أن تبدأ مصر عصرها الحديث بالمدرسة السنية لتعليم الفتيات في الوقت الذي نتباكى ونمارس طقوسا جنائزية بشأن تفشي الأمية الهجائية بين النساء لهي دليل دامغ على الهوة والفجوة بين ما هو ثقافي واجتماعي وتنويري وبين ما هو اقتصادي. كذلك كل الإحداثيات الثقافية التي تعلقت بمشروع التنوير الإسماعيلي ـ نسبة للخديوي إسماعيل ـ من تشييد الأوبرا وتكوين الفرق المسرحية وظهور الفرق الموسيقية كفيلة برصد بدايات قوية للتنوير، وما تخلله هذا المشروع الثقافي من ظاهرة الصالونات الثقافية وثورة الشيخ سيد درويش الموسيقية ومحاولة التصدي المحمود للتوفيق بين التراث الديني والحداثوية في وقتها.

لكن هذا المشروع النهضوي ظل معرضا للتأرجح تارة، وللنقد نارة أخرى لاسيما من أصحاب العقول غير المتفجرة بالإبداع أو هذه الأذهان غير المؤهلة لمواجهة تحديات الحاضر، وربما تقاعس صمود مشروع النهضة الذي يمكن تحديد قوته ومتانته وجودة مضمونه على يد الشيخ الإمام محمد عبده، يذكرنا بالهوس الكلامي والورقي الذي صاحب وزامن أساتذة العلوم الأساسية في الوطن العربي وهذا الافتراء والزيف بل والخداع الذي مارسوه بحق مجتمعاتهم وهم يؤكدون في كل محفل علمي ساخر أو مؤتمر دولي باهت بأن أبحاثهم كفيلة بالبقاء العربي العلمي لكن الحقيقة لقد سقطوا بامتهار في اختبار جائحة كورونا ومنذ هذا السقوط أعتقد أن لا رجعة لهم في الأوساط العلمية الصادقة اللهم من صدق وأخلص منهم للعلم ولأوطانهم.

من صدام الحضارات إلى صدمة التنوير

ومن الصعوبة أن نتلمس تجليات التنوير في عصرنا الحاضر لاسيما وأن هناك ثمة أزمة مع التنوير بات يشبه حالة من الصدام حتى وصل الطرح التنويري والاجتهاد الفكري وكافة محاولات التجديد في قبضة التكفير لا التفكير، ومارست السلطة الدينية الشعبوية غير الرسمية قمع بذور الاجتهاد مستخدمة في ذلك الفتاوى الجاهزة أو بصورة أخرى فلحوا في توظيف الفتوى لوأد أي مشروع تنويري عن طريق تكفير النخبة أو المجددين أنفسهم.

ومن الحسرة، بل من خيبة الحاضر أن المرأة التي أنشأ من أجلها الخديوي إسماعيل مدرسة تعليمية برسالة تربوية رصينة تحولت على أيدي حفنة الراديكاليين إلى وسيلة للترفيه عن ما يعرف عنهم بالمجاهدين تحت مسمى نكاح الجهاد، وما أقبح أن نرى المرأة كائنا مساهما في بدايات النهضة العربية الحقيقية ثم تتحول بفعل سياسات دينية مغلوطة إلى قطعة لحم ساكنة من أجل لحى وعمائم وأمراء استهدفوا استغلال الدين ونصوص بعض المتهوكين والمضطربين عقائديا من أجل إشباع غرائز ليست مستدامة.

حتى الصالونات الثقافية التي تفجرت بأفكار الإمام محمد عبده وبراعات قاسم أمين تهاوت بفضل غلبة النزعة السياسية الوطنية عليها وتحولها ـ الصالونات ـ إلى ساحة معارك بين الأحزاب والتيارات والفرق السياسية المتناحرة. وتعددت أقنعة التنوير بعد ذلك من محاولات تجديد الخطاب الديني إلى الحراك الحزبي إلى ظاهرة مثقفي السلطة.

ووصل بنا مشهد تنوير الإمام المجدد محمد عبده ومن خلفه من مجددي القرن العشرين حتى صوب نهايته إلى بزوغ حصانة أهل السلف، لا المقصود بهم حماة العقيدة والدين المحفوظ بمقتضى العناية الإلهية أساسا، والجهود الدينية العظيمة والصحيحة للأوائل، لكن المقصود والمعني بهم هنا هم المدعون لامتلاك الحقيقة المطلقة الذين جاهدوا من ظهور تنظيم حسن البنا وصولا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في تقليص سلطة الثقافة وشيوع الإحباط ومشاعر اليأس للمواطن وهو يواجه نظامه السياسي.

واليوم ونحن نرصد مسارات التنوير الذي بدأه الإمام محمد عبده مرورا بأسماء كثيرة وقوائم وطوابير طويلة ساهموا في صناعة الرصيد الثقافي العربي مثل طه حسين والأستاذ العقاد والمازني وأحمد شوقي وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ونصر أبو زيد وفرج فودة والشيخ الشعراوي والشيخ محمد الغزالي وفؤاد زكريا وعابد الجابري ومحمد أركون انتهاء بالشاعر والمفكر الشاهق أدونيس، فإن ثمة علامات بارزة تربط بين الخطاب الديني ومشروع التنوير منها صراع تقليد التراث وإعادة إنتاج نصوص السلف في الوقت الذي يتبارى فيه المجددون لبيان اجتهاداتهم الفكرية والدينية والاجتماعية، هذا الصراع انتهى بإنجاب ثقافات ظلامية قوضت المشهد التنويري ذاته.

وبدلا من البحث طويلا عن عوائق استمرار المشروع التنويري للعرب الذي تم تشييده على يد الخديوي إسماعيل في مصر، أصبح السؤال الأكثر دهشة هو: أين المنجز الحضاري لتيارات الإسلام السياسي ذلك الضلع الثاني في صراع التجديد والتقليد؟

الإجابة تبدو سهلة وبسيطة ولا تحتاج بالفعل إلى إرهاق للعقل أو استدعاء متعب للذاكرة، مجموعة من التسجيلات الصوتية التي تتحدث عن الجنة والنار ومقاومة الحاكم وتكفير المجتمع وتبيين فتنة المرأة وفساد وجودها في مؤسسات الدولة، ومئات الكتب التي تتناول الجهاد والحاكمية وتكفير كل مخالف لفكر المؤلف الراديكالي ضيق الأفق، وأخيرا عشرات القنوات الفضائية الموتورة التي لم تنجح من الفكاك من أسر نكاح الجهاد وإرضاع الكبير والزواج من الفتيات الصغيرات.

والفارق كبير وجوهري بين القرآن الكريم النص السماوي المقدس الذي يحرض على تفجر العقل وإعماله وإطلاق العنان إلى التجديد في ظل ثوابت وركائز أصيلة تنفع الفرد والمجتمع على السواء، وبين نصوص تراثية جامدة لا تقبل منطق التطور ولا منطق الطير أيضا، فإذا كان القرآن الكريم يحرر العقل في دعوته ويحرر المرء من هيمنة رجل الدين، ويحرر المجتمع أيضا من سلطة النصوص الظلامية، فإن أنصار التيارات الراديكالية المتطرفة تمثل عدوا للعقل وإعماله،

والمستقرئ لتاريخ العداء الموجه من التيارات والفرق والتنظيمات العقائدية المتطرفة لكافة مشروعات النهضة الثقافية العربية، يفطن حجم الوصاية على التأويل والتحليل التي مارسها أمراء هذه التيارات الظلامية، ويستنتج العلاقة الوثيقة بين شيوع الأمية والتنوير.

ومما عمَّق كارثة العرب الثقافية المرتبطة بالتنوير هو غياب الفقيه المجدد، فضلا عن نمطية الدعاة لاسيما الجدد الذين تاهوا طواعية بين الشكل الظاهري والتزام خطوط الموضة المعاصرة وبين مضمون الطرح الديني.

ولعل ما طرحه المفكر المغربي المتميز رشيد جرموني في مقالته المعنونة بـ "أي نموذج تنموي لما بعد جائحة كورونا؟ " يونيو 2020، لهو منطق المشهد الراهن من حيث إن جائحة كورونا لم تلق بظلالها فقط على الأبعاد الاقتصادية والصحية والسياسية فحسب، بل إنها كشفت عن حقيقة المشهد التنموي بالوطن العربي وفضحت الأبعاد الحقوقية والفكرية والوضع التعليمي بمؤسساتنا التعليمية، وأن المشكلة ليست فقط في نقص الإمكانات الطبية والصحية والكوادر العلمية ـ رغم أنني في الأصل لا أعترف بوجود كوادر علمية أكاديمية عربية في مجالات شتى ـ بل إن الجائحة أبرزت النقص في مشروعات التنمية الثقافية التي ظننا أنها قائمة بالفعل وأن تلك الجائحة فرصة طيبة وعظيمة أيضا لإعادة التأمل في مشهدنا الثقافي والتنويري.