تجسيد الأنبياء قضية تستحق النظر لقيمة المقاصد

تمثيل قصص الرسل والصحابة له وقع جيد على المتابع وفائدة كبيرة لترسيخ ما نريده من فضائل ومبادئ جاء الدين لترسيخها.
الخوف من الخلط بين الممثل ودوره يتوقف على وعي الجمهور ولا يبرر تحريم تجسيد الرسل
غياب الدراما العربية عن تجسيد الرسل يمثل خصما من التعبير الحقيقي عن الإسلام
لا يمكن للدراما العربية أن تنعزل عمّا يحدث حولها

تطرح مقاصد تجسيد الرسل والأنبياء عند المجتمعات الغربية والصحابة عند العرب وما حققته من إفادات وتحفيزها الباحث والمتابع  لمعرفة حقيقة الإسلام وقيمه، على رجال الدين ضرورة إعادة النظر في تحريمهم لتجسيد رموز القداسة في الأعمال الدرامية وعلى الشاشات وتشجيع الآراء والفتاوى التي تجيز المسألة لما لها من أهمية في تحقيق أهداف نبيلة وبعث رسائل قيّمة.

ويدفع التطور الفني والتكنولوجي بعض المتابعين والمعنيين بالفن في العالم العربي إلى الدعوة لتشجيع اجتهادات دينية تُعيد بحث المسألة استنادا إلى مبدأ المنافع المرجوة وانطلاقا من فكرة عدم وجود نص قاطع يُحرّم تجسيد الأنبياء والصحابة على الشاشات.

كما أن قيام بعض الفضائيات وشركات الإنتاج العربية خلال السنوات الأخيرة بإنتاج مسلسلات تلفزيونية عن بعض الصحابة وتفاعل الجمهور معها باعتبارها أمرا غير جارح للعقيدة الدينية يُمهّد الطريق لتقديم مسلسلات وأفلام يظهر فيها باقي الصحابة بلا استثناء، ثم الأنبياء أنفسهم.

وإذا كانت المؤسسات الدينية في العالم العربي مثل مؤسسة الأزهر الشريف في القاهرة والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في مكة، قد حرّمتا تجسيد الأنبياء والصحابة تحريما قطعيّا، فإن ذلك ينطلق من تصور أن ظهور الأنبياء والصحابة مدعاة إلى انتقاصهم والحطّ من قدرهم والسخرية منهم.

ووفقا لفتوى للمجمع الفقهي في مكة، فإنه "لا مُبرّر لمن يدّعي أن في تلك المسلسلات التمثيلية والأفلام السينمائية يتم التعرّف على الرسل والأنبياء وسيرهم، لأن في القرآن الكريم ما يفي بذلك الغرض".

لا حجة للمنع أو الكراهة أو التحريم في مسألة تجسيد الأنبياء إلا بعلة عقلية أو بنص صريح من الثوابت النقلية

الاجتهاد متاح لمن يريده

تبرير ذلك يرجع إلى أن الأنبياء والرسل مفضلون على باقي الناس، وهذا التفضيل يقتضي التوقير والاحترام، وتمثيل الأنبياء يفتح أبواب التشكيك في أحوالهم والكذب عليهم، فلا يمكن أن يتطابق ما يقدمه الممثلون حال الأنبياء في أحوالهم وتصرفاتهم، وقد يؤدي هؤلاء الممثلون أدوارا غير مناسبة، سابقا أو لاحقا، فتنطبع في ذهن المتلقي تصورات ذهنية مناقضة للنبي وفق الشخصيات الأخرى التي قدمها الممثل.

وتعتمد الفتوى على أن قواعد الشريعة، تشير إلى أن المصلحة المتوهّمة لا تعتبر والمصلحة إذا عارضتها مفسدة مساوية لها لا تعتبر، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فكيف إذا كانت المفسدة أعظم من المصلحة وأرجح كما هو الشأن في تمثيل الأنبياء والصحابة؟

ورغم ذلك الموقف القطعي المتكرر فهناك مَن يرون أنه يُمثل وجهة نظر غير ملزمة تستند إلى مبررات واهية يُمكن تجاوزها تماما، ما يعني أن الأمر ليس حراما في حد ذاته إنما هو حرام لأنه يؤدي، وفق ظنّ البعض، إلى تصورات مناقضة للدين مثل التشكيك في الأنبياء أو السخرية من أي من أفعالهم.

وقال عصمت نصار أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة فرع الخرطوم لـصحيفة 'العرب اللندنية'، إن هناك حاجة ماسة لإعمال العقل والاجتهاد في الأمر بما يفتح مجالات استفادة حقيقية لصورة الإسلام والمسلمين في العقلية العالمية من خلال الفن.

وأثيرت هذه القضية مبكرا منذ النصف الأول من القرن العشرين، عندما فكّر الفنان المصري يوسف وهبي في تقديم شخصية النبي محمد على خشبة المسرح، لكن مؤسسة الأزهر اعترضت وحرّمت تجسيد النبي تماما، ثم توالت بعد ذلك فتاوى التحريم لتشمل باقي الأنبياء والصحابة وقَصَر البعض الأمر على الصحابة المبشّرين بالجنة ورأى آخرون ضرورة أن يشمل التجسيد الفنّي كافة الصحابة.

ومع ذلك هناك آراء لعلماء دين مستنيرين مثل الشيخ مصطفى عبدالرزاق وعبدالمتعال الصعيدي وبعض تلاميذ محمد عبده، ذهبت إلى إمكانية تشخيص الأنبياء والصالحين.

لا شك في أن الأعمال التي تصاغ فيها قصص الأنبياء يراعى فيها قداستهم وطهارتهم ستظهر ما كان لهم من أغراض شريفة في رسالتهم
لا شك في أن الأعمال التي تصاغ فيها قصص الأنبياء يراعى فيها قداستهم وطهارتهم ستظهر ما كان لهم من أغراض شريفة في رسالتهم

أوضح نصار أن هؤلاء يرون أن جميع الفنون مباحة ولا حجة للمنع أو الكراهة أو التحريم إلا بعلة عقلية أو بنص صريح من الثوابت النقلية، وذهبوا إلى أنه لا غضاضة في أن يقوم أحد الممثلين بتشخيص شخصية واحدة من هؤلاء، بل إن تمثيل القصص له وقع جيّد وفائدة كبيرة لترسيخ ما نريده من فضائل.

وأكد أن طروحات مثل هؤلاء العلماء تدفع إلى ضرورة الاجتهاد وإعادة طرح الأمر بحرية وتحكيم حقيقي للعقل، فالخوف من الخلط بين شخصية الممثل والدور الذي يؤديه يتوقف على وعي الجمهور من جهة، وقدرة الممثل على الإقناع من جهة أخرى.

وقال الشيخ عبدالمتعال الصعيدي في كتابه المعنون 'في ميدان التجديد' عن ذلك "لا شك أن التمثيليات التي تصاغ فيها قصص الأنبياء، عليهم السلام، سيراعى فيها ما لهم من كريم منزلة وما لهم من القداسة والعصمة والطهارة، وسيكون الغرض منها إظهار ما كان لهم من أغراض شريفة في قصصهم وما كان لهم من مقاصد نبيلة في رسالاتهم، ولا شيء مع هذا يخلّ بقداستهم، وإذا قام شخص في تمثيله مقام نبيّ فإنه يقوم به صورة فقط، وللنبي عليه السلام مقامه الكريم، ولا يمكن أن يتوهّم شخص أنه حلّ في التمثيلية مقامه في كل شيء حتى يكون فيها امتهان له".

أما الفقه الشيعي فلا يرى تحريما أو كراهة للتمثيل بل يجد ترحابا من العلماء بنشر سير الأنبياء والمعصومين من الأولياء، شريطة أن تقوم بذلك مؤسسات لها دراية بآداب هذا الفن ومقصد العمل الدرامي.

وأشار نصار إلى أن التجربة أثبتت خطأ توقعات الرافضين لتمثيل القَصَص القرآني أو محاكاة الأنبياء والصالحين في الأعمال التمثيلية، وليس أدلّ على ذلك من الأثر الطيّب للأعمال المصورة والممثلة في البرامج التعليمية والتربوية وسهولة التواصل بين المرسل والمتلقي لاستيعاب الأخير ما تحويه القصص القرآنية والأحداث التاريخية ذات الصلة بالأديان من فضائل.

التدرج يجنّب الصدمة

يشير نقاد الفن والإبداع إلى أن غياب العالم العربي عن تجسيد الرموز الدينية يمثل خصما من التعبير الحقيقي عن الإسلام وقصصه وتاريخه، وقيام شركات الإنتاج الفني في العالم الغربي بإنتاج أفلام ومسلسلات عن أنبياء مثل عيسى وموسى ونوح وغيرهم، وطرحها على المنصات التلفزيونية لتدخل إلى كل بيت في العالم بما فيها المجتمعات العربية يُحتّم على المعنيين بالفن في العالم العربي تقديم رؤى وتصورات مُقابلة.

ويتصور هؤلاء أن أي شخص صار بوسعه بضغطة زر واحدة أن يُشاهد تصورات بشرية متنوعة عن بعض الأنبياء، ويعي جيدا أن ذلك لا يعني الإساءة، بل هو طرح فكري وإبداعي لقصة من قصص البشرية.

وذهب كثيرون إلى ضرورة أن يبدأ الأمر أولا بتجسيد الصحابة باعتبارهم بشرا أقل تقديسا من الأنبياء، ثُم يتم بعد ذلك تقديم دراما وسينما الأنبياء وفق اشتراطات معيّنة تضمن عدم الإساءة لأي منهم والحفاظ على سمات الوقار المفترض.

وذكرت أماني فؤاد، أستاذة النقد الأدبي بأكاديمية الفنون المصرية، أن بعض الأعمال الفنية النادرة التي جسّدت بعض الصحابة مثل فيلم 'الرسالة' للمخرج مصطفى العقاد، كانت لها ردود أفعال إيجابية على صورة الإسلام في العالم.

وقالت لـ”العرب”، إن هذا الفيلم الذي جسّد فيه الفنان عبدالله غيث شخصية حمزة بن عبدالمطلب عم الرسول (ص) دفع الكثير من الباحثين إلى المعرفة، والذين شاهدوا الفيلم بدأوا يقرأون عن الإسلام لمعرفة قيمه، مضيفة “أصبحنا في عصر الصورة والمشاهدة والاستماع الاختياري”.

وقد يدفع ذلك رجال الدين إلى أن يعيدوا النظر في تحريمهم لتجسيد الأنبياء والصحابة في الأعمال الدرامية والبودكاست لأن الأخير يعتمد على الصوت فقط تحت مجموعة من المعطيات أولها أن الرسل والصحابة كانوا بشرا وامتدت حياتهم ضمن صراعات متعدّدة مع مجتمعاتهم ومثلوا لحظات مهمّة وفارقة في تطور الحياة البشرية ومنظومة الأخلاق التي تحكمنا، لذلك فإنه من الأهمية بمكان أن يتعرّف عليهم الجميع والصورة والاستماع يمثلان أكبر قدر من التلقي لدى الجماهير.

شيخ أزهري كان قد أجاز تجسيد فيلما يقدم النبي عيسى ابن مريم
شيخ أزهري كان قد أجاز تجسيد فيلما يقدم النبي عيسى ابن مريم

ولفتت فؤاد إلى أنه في ما يتعلق بتجسيد الأنبياء يمكن الاشتراط على من يقوم بتقديم شخصية النبي أن يوقّع على عقد بأنه لن يمثل شخصية أخرى كما فعلت الكنيسة في فيلم "آلام المسيح".

وأوضحت الناقدة الفنية حنان أبوالضياء، أنها مع تقديم الرموز الدينية فنيا لأن العالم العربي لا يُمكن أن ينعزل عمّا يحدث حوله، وثمة ضرورة لتقديم القراءة العربية لتاريخ الأنبياء والرسل في الفن من خلال اشتراطات تحافظ على تقدير واحترام كافة الرموز الدينية.

ويلجأ بعض المخرجين إلى إظهار طاقة نور على وجه من يقدم شخصية أي من الأنبياء أو الصحابة غير أن ذلك صار مُناقضا للواقعية.

وأكدت أبوالضياء أن هناك أجيالا جديدة من الشباب قد لا تقبل القراءة أو التعرّف على قصص الأنبياء عبر الأساليب التقليدية المعتادة، وأن هؤلاء يجلسون لأوقات طويلة أمام الشاشات للتعرّف على كل شيء حولهم، ولا يُمكن الوصول إلى أذهانهم وإضاءة عتمة المعرفة لدى بعضهم إلا من خلال الفن.

وأجاز الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق في عام 1938 فيلما يقدم حياة السيد المسيح كتبه أحد القساوسة وراجعه طه حسين وأخرجه محمد عبدالجواد، وكان يقوم بدور المسيح فيه الممثل المصري أحمد علام.

وقال البعض من رجال الدين الذين شاهدوا مسلسل النبي يوسف إنه رغم اتفاقهم مع فكرة تحريم تجسيد الأنبياء لكن العمل لم يحمل إساءة له.

وكشفت أبوالضياء أنها تناقشت كناقدة فنية مع رجال الدين وسألتهم عن رأيهم في ما كان عليه ظهور عمر بن الخطاب في مسلسل يحمل اسمه، فأجابوا بأنه قدّم صورة جيّدة وحسنة ولم ير أحدهم ضررا على صورة الإسلام.

مسألة جواز تجسيد الرسل تكتسي بعدا هاما في نشر ثقافة الاعتدال ومواجهة التفسيرات المتشددة للنصوص الدينية

ضدّ التسامح والانفتاح

تحتوي القضية على مجموعة من التحديات التي تواجه تجسيد الرموز الدينية، تكمن في أهمية التوافق مع وقائع التاريخ وعدم تقديم تصورات وطروحات لا تتفق مع قواعد المنطق.

وضربت أبوالضياء مثلا ببعض الأخطاء الواردة في مسلسل 'عمر' مثل إظهاره يقرأ آيات مدنية من القرآن الكريم وهو في مكة، قائلة إنّ "هناك بعض المرويات تحتاج إلى تمحيص ومراجعات مع التأكيد على أن ما يهم الحفاظ عليه هو الخطوط العريضة للقصص النبوي وسير الصحابة وفتح مجال للتخييل الدرامي في ما يخص التفاصيل الصغيرة".

وهناك مشكلة تخص حجم التمويل اللاّزم، فالدراما الخاصة بالأنبياء والصحابة تستلزم ميزانيات ضخمة قد تعجز عنها شركات الإنتاج، ما يدفع إلى ضرورة عمل تحالفات فنية لتوفير الميزانيات اللاّزمة لمثل هذه الأعمال.

وبعيدا عن الجوانب الفنيّة يظل الجدل المثار حول قضيّة جواز تجسيد الرسل والأنبياء والصحابة والأئمة المعصومين في نظر أتباعهم، ذا صلة بنشر ثقافة الاعتدال والتسامح، ومواجهة التفسيرات المتشدّدة للنصوص الدينية التي تحوّلت إلى عبء على الدين على عكس ما يعتقده أصحابها الذين يقدّمون أنفسهم كحرّاس للعقيدة مؤتمنون على نشرها وترغيب الناس فيها بينما هم ينفّرون الأجيال الصاعدة منها عبر إصرارهم على مواجهة التطوّر والتجديد اللذين لا يعنيان بالضرورة التشويه والتحريف كما يدّعي هؤلاء.