التخلص من إرث التشدد يستدعي أفكار السلف المستنيرة

إخراج الفكر الديني العالق في التطرف يتطلب البحث عن علماء السلف المستنير الأكثر قدرة على صد نظرائهم من المتعصبين والرد على خطاباتهم المائلة إلى العنف والإقصاء.
أفكار الصعيدي غير المتداولة تفتت أسس الخطاب الديني المتطرف
استدعاء رجال دين متصالحين مع العلمانية يساعد على إزالة العقبات أمام الإصلاح

يستدعي الخروج من قوقعة الصراع الجدلي بين الفكر الديني المتصالح مع العقل والعلم والمتكيف مع متطلبات العصر الحديث وتطوراته، والخطاب الديني المتطرف والمنغلق والإقصائي الذي يدعو للعنف ومعاداة الحداثة ورفض الآخر، إلى مشروع ديني إصلاحي معتدل يفند التشدد ويقطع الطريق على أصحاب الفكر الإرهابي، ضرورة الرجوع إلى كتابات رجال دين متصالحين مع العلمانية والبحث عن علماء السلف المستنير الأكثر قدرة على صد نظرائهم من المتعصبين لتحرير الإسلام من الأفكار المعادية للعقل والواقع المتغير، لتحقيق أسس الإسلام  المناوئة للإرهاب والداعية للسلام وقبول الآخر  على اختلاف تصوراته ومعتقداته.

قبل أيام قليلة أثار كتاب صدر مؤخرا بالقاهرة تحت عنوان "العمامة المستنيرة.. تجديد الفكر الديني عند عبدالمتعال الصعيدي" للدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا في شمال القاهرة، جدلا ساخرا في أوساط المهتمين بالفكر الديني، نظرا إلى ما تضمنه من دعوة إلى إحياء واستعادة أفكار إصلاحية لعالم دين مصري رحل عام 1966، وهو عبدالمتعال الصعيدي.

كان من الغريب لدى الكثير من المتابعين أن يجدوا أفكار الصعيدي غير المتداولة تفتت أسس الخطاب الديني السائد حاليا، والمائل إلى التشدد والتعصب وإقصاء الآخر، وتفند تصوراته.

وبدا طرح الكتاب لافتا للانتباه، خاصة بعد أن اعتبره البعض ضربة قاصمة لاستلاب الإسلاميين حق الحديث باسم الدين وتأسيسهم لحواجز نفور وتضاد خادعة بين الإسلام والعلمانية.

وأثار الكثير من نقاط الاستفهام، التي يبدو أنها تتجدد مرارا وتكرارا مع كل مناسبة تطرح فيها مشروعات الإصلاح الديني، التي قام بها مفكرون ورجال دين من جيل الرواد السابقين، وتتمحور هذه الأسئلة حول مدى قدرة الماضوية الإصلاحية والمستنيرة على أن تقف في مواجهة الماضوية المتشددة والمنغلقة، وهل يُمكن صدّ تغوّل المتشددين بخطاب آخر رحب مستنير، متقبل للآخر، ومتصالح مع العلم والعقل؟

إذا كانت جماعات الإسلام السياسي تلجأ إلى نصوص وأفكار لشيوخ ورجال سابقين من أمثال الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، والشيخ محمد ابن عبدالوهاب، وربما سيّد قطب، وأبوالأعلى المودودي في العصر الحديث لتبرير ظواهر العنف ومعاداة الحداثة ورفض الآخر، فهل يُمكن اللجوء إلى أطروحات ورؤى مشائخ ومفكرين سابقين من أمثال محمد عبده، ومالك بن نبي، ومحمد إقبال، وعبدالمتعال الصعيدي، وأمين الخولي، ومحمد عابد الجابري، وغيرهم لتفنيد الخطاب المعادي للمدنية؟

جماعات الإسلام السياسي تلجأ إلى نصوص دعاة الإرهاب لتبرير ممارسات العنف
جماعات الإسلام السياسي تلجأ إلى نصوص دعاة الإرهاب لتبرير ممارسات العنف

جدل محتدم

يبدو أن هناك صيحات رفض متعجلة للفكرة، استنادا إلى التصوّر الذي يرى بأن الماضوية رجعية محضة، وهي بمثابة ارتداد نحو الزمن الفائت، وتكاسل عن إنتاج جديد.

ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن إعادة طرح فكرة أو مشروع ماضوي لن يفيد في شيء، عملا بالمقولة الشهيرة للفيلسوف الألماني فريدريش هيغل، "لو كان شيئا من الممكن أن يحدث لكان حدث"، ما يعني أنه إذا كانت أفكار السابقين لم تُغير شيئا في الناس وقتها، فإن إعادة طرحها الآن بالضرورة لن تُغيّر شيئا وأن الفكر المتشدد سوف يبقى هو الأعلى والأكثر جذبا وتأثيرا.

فضلا عن تصور آخر يرى أن تغير الزمن وملابساته وظروفه من العوامل التي تجعل ما يُمكن طرحه في الماضي لا يتلاءم مع العصر الآني.

ويرى أصحاب هذا التصور أن الطرح الماضوي له جاذبيته لدى الجمهور، وربما من باب الحنين إلى زمن آخر يتصوّر البعض أنه أفضل وأنقى، ودافعه التشبث بأناس رحلوا منذ فترة طويلة ولم يحوزوا ما يستحقونه من تقدير.رغم ذلك، هناك من يرى أن فكرة "وداوني بالتي كانت هي الداء" المستخدمة هنا لها ما يبررها وفيها شيء من الصحة والمعقولية، لكن التحدي الذي يعدّ تجاوزه إحدى الإشكاليات التي تؤرق الكثيرين، هو أن الخطاب السلفي لا يُجابه إلا بخطاب سلفي، وأقوال السابقين يمكن الرد عليها بأقوال سابقين آخرين.

علاوة على أن الاعتقاد الشائع في المجتمعات العربية والإسلامية بأن الأفكار المطروحة للمرة الأولى هي تجديف أو خروج عن التفكير المعتاد، ما يعني إمكانية قبول الفكرة الإصلاحية ولو قد سبق طرحها من قبل، بشرط أن تكون دعوات الإصلاح والتجديد مألوفة كي لا تثير الريبة.

وهناك بالفعل طروحات إصلاحية تقدمية، مستنيرة، ومتفقة مع العلم الحديث والمدنية في مشروعات ومبادرات الكثير من المفكرين السابقين والرواد، حتى أن البعض يتشكك من نسبتها إليهم في بعض الأحيان، ويندهش كيف كانت رحابة الفكر تصل بهم إلى ذلك الحد.

لا تعارض في الجوهر بين الإسلام والعلمانية
لا تعارض في الجوهر بين الإسلام والعلمانية

مثال نموذجي

ينطبق هذا المثال على طروحات عبدالمتعال الصعيدي، العالم الأزهري المصري، المولود بمدينة أجا في محافظة الدقهلية، شمال القاهرة، عام 1894، وقدم مشروعا متكاملا، لم يأخذ حظه من الشيوع، للإصلاح الديني بما يقطع الطريق تماما على اجتهادات الإسلاميين الآنية وتتسم غالبيتها بالرجعية والتخلف.

وفي كتابه الحديث "العمامة المستنيرة.. تجديد الفكر الديني عند عبدالمتعال الصعيدي"، فتح أحمد سالم، أفقا رحبا لقراءة مشروع الصعيدي المناوئ للفكر المتشدد وكيفية صده.

فالرجل هنا لا يرى أن ثمة تعارضا في الجوهر بين الإسلام والعلمانية، بل إنه يؤكد أن الفكر الديني يمكنه ببعض الاجتهاد أن ينفتح على كل ما هو علمي، وما هو دنيوي.

ورغم كون عبدالمتعال الصعيدي عالما أزهريا، نشأ وتربى ودرس في مؤسسة الأزهر في بدايات القرن العشرين، إلا أنه حمل روحا وثابة متحمسة لإصلاح مؤسسة الأزهر كأساس مبدئي لإصلاح الفكر الديني ككل، ورأى أن تقيد الأزهر بالمذهب الأشعري أول أسباب الجمود الذي يعاني منه، كما أن تقيده بتدريس المذاهب الأربعة فقط، ثاني أسباب الجمود، وآفة الآفات عدم الانفتاح على باقي المذاهب، واجتهادات كافة الفرق الفقهية.

هناك حاجة لإحياء طروحات ماضوية في الفكر الديني مثلت جسرا فريدا يلاقي العلمانية والإسلام

أخذ الصعيدي على رجال الدين، وعلى مؤسسة الأزهر تحديدا، تقديس السلف وتقديس أفكارهم، وعدم مجاراة ومتابعة حركة الزمن وتغيرات المجتمع ومستجداته، وقال في هذا الشأن "من أسباب جمود الفكر الديني، تلك المبالغة في تقديس الأسلاف وعلومهم، فالأسلاف عند أهل الأزهر أعلى من أن يتعرضوا لنقد، ولا يمكن أن يسمح الزمان بمثلهم وبمثل علومهم".

ودعا إلى ضرورة تحريك الأزهر ليتخارج من المتون التقليدية، وتحرير عقول رجاله وطلابه من أسر التقليد ليبدعوا في تفكيرهم، مشددا على ضرورة "أن نطلق العنان لأفكار الطلاب ولا نقيدهم بحفظ ألفاظ كتاب فنرى فيهم قوة النبوغ في العلوم، والقدرة على ابتكار الجديد فيها، والحصول من درسها على عقل واسع، وفكر ثاقب لا يكون أسير التقليد، ولا يتعثر إذا سير به نحو شيء غريب أو جديد".

وأكد أحمد سالم، أن هناك حاجة إلى إحياء تراث مفكرين ومصلحين ماضويين في الفكر الديني، لأنهم مثلوا جسرا فريدا للتلاقي بين العلمانية والإسلام.

وفي تصور، هناك انفصام تام بين النخبة العلمانية ورجال الدين، فالأولى تريد للمجتمع أن يعيش في حاضره، ويتمتع بمنجزات الحضارة الحديثة، ويتخلى عن موروثه القديم، الذي يعتبر سببا للجمود والتخلف.

وصار الشغل الشاغل للعلمانيين هو إخراج الروايات الشاذة من كتب التراث وطرحها على العامة والجمهور وتشكيك الناس في ماضيهم وتراثهم، والتأكيد على أن هذا التراث سبب تخلفهم وجمود أوضاعهم الاجتماعية، فكان الخطاب العلماني يدين الماضي، ويحض على القطيعة معه، والسخرية منه.

ولم يقف أصحاب التوجه الديني الإسلامي مكتوفي الأيدي، بل قاموا بكيل الاتهامات لرموز العلمانية واتهامهم وتجريحهم والقول بأنهم عملاء للغرب، ويريدون هدم قواعد الدين الثابتة ويتطاولون على رموزه، بل إنهم يرفضون الدين كلية.

المجتمع الإسلامي يعاني من تداعيات ممارسات الجماعات الإرهابية
المجتمع الإسلامي يعاني من تداعيات ممارسات الجماعات الإرهابية

معركة حامية

بدلا من أن يتحول ضغط الخطاب العلماني على الخطاب الإسلامي إلى طريق للإصلاح، وتحرير خطاب ديني جديد يخاطب الواقع المعيش، تحول الأمر إلى معركة حامية الوطيس لا منتصر فيها ولا مهزوم.

في ظل مثل ذلك الصراع، فإن استدعاء رجال دين متصالحين مع العلمانية، ومؤمنين بالعقل والعلم الحديث، ويدعون إلى إصلاحات ضرورية مُلحة، من شأنه أن يزيل واحدة من العقبات التي تقف عائقا أمام الإصلاح.

ويتسع نطاق هذه الفكرة، ليفتح المجال للاستفادة من تجارب مصلحين كثر كانت لهم شعبيتهم، وكان لهم حضورهم في الفكر الديني الحديث، ومن أبرز من يراهم البعض جديرين بالاستدعاء مفكرا ومصلحا كبيرا، مثل الإمام محمد عبده (1849ـ 1905)، وقد وصفه الكاتب الراحل عباس محمود العقاد بـ"عبقري التنوير."

ويقوم المشروع الإصلاحي للرجل على مقاومة الجهل والتخلف والتأقلم مع المدنية الحديثة ونشر العلوم، وإبعاد رجال الدين تماما عن السياسة، وسعى الرجل من خلال مقالاته وكتبه ودروسه إلى نبذ التعصب وتقبل التعددية والاهتمام بالفنون والآداب والفلسفة والإصلاح، وإحالة كتب وتراث القرون الوسطى إلى الاستيداع.

ويتفق متخصصون في دراسة فكر محمد عبده، على وصف خطابه بالإصلاحي والتجديدي الشامل، وعلى قدرته العالية على محاورة الآخر، ولو من باب السجال، مع طرح خطاب حضاري إنساني مستمد من الدين وتعاليمه ونصوصه الأصلية بما يؤكد قيم الحرية والمساواة والعدل، ويسهم في استنهاض الشعوب لاسترداد مجدها والسيطرة على مصيرها.

كما أن كثيرين ينظرون بعناية إلى مشروع المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905ـ 1973) الذي عُني بشكل كبير بالنهضة الحضارية ودعا إلى تنقية الفكر الديني ممّا علق به من ترهات وشوائب تتنافى مع الحضارة، وكانت له مؤلفات عدة تطالب بالتركيز في العلوم الحديثة والنبوغ فيها.

ومن الأمثلة الجديرة بالاستدعاء المفكر الإيراني علي شريعتي (1933 - 1977)، حيث رأى أن الإصلاح الديني يستوجب إعادة بناء العلوم الإنسانية والخروج من أسر وسيطرة رجال الدين وإعادة اكتشاف الإسلام مرة أخرى والتوسع في الفلسفة والاستنباط وترجيح العقل.

القائمة تطول بما يطرح تحديا يستحق البحث حول قدرة السلف المستنير على صدّ السلف المتعصب، الأمر الذي بشر به باحث مغربي مخضرم مثل محمد المصباحي، حيث أكد في دراسة حديثة له ضرورة العودة إلى ما يسمى بـ"السلفية المستنيرة" والمؤسسة على القرآن والسنة، بعيدا عن أقوال المفسرين، لتحرير الإسلام من معاداته للعقل ورفضه لحرية الإرادة، سعيا وراء استقلال البلاد وتحريرها من تبعيتها الخارجية.

في هذا السياق يصبح العقل والحرية هما مدار "السلفية المستنيرة" التي جابهت الاستعمار الغربي للعالم العربي، إيمانا منها بأن الانتصار في معركة التحرر التام من الاستعمار لا يمكن أن يتحقق من دون عقل مستنير ومنفتح على مكتسبات الحداثة العلمية والحضارية، ومن دون إرادة مستقلة بذاتها عن قيود الماضي وإملاءات الحاضر الذي يهيمن عليه المستعمر.