الشطح التنويري.. حينما يتجاوز النقل شغف التأويل

الجدل حول مركز تكوين يكشف قصورا معرفيا كبيرا لدى منتقديه.

ثمة أسابيع مؤدلجة اشتعل فيها النقاش المحمود والمذموم على السواء بشأن ما عرف بتدشين مركز تكوين للدراسات بالعاصمة المصرية القاهرة، هذا المركز المعرفي أو الإعلامي الذي تصدر المشهد الثقافي والديني والإعلامي بصورة قوية غطى نسبيا على إحداثيات شديدة المعاصرة مثل تحطم طائرة الرئيس الإيراني، وكذلك يوميات غزة التي لم تنقض بعد، وتصاعد البث اليومي بخصوص هذا المركز الذي تزعمه بعض الرموز الثقافية والإعلامية الذين لا شان لنا بتقييم أمرهم وأمر زعمهم بتكوين مركز تكوين الذي طفق النقاد والمهاجمون والمعارضون له أن يكيلوا أشرس الاتهامات له بدءا من سبب التسمية انتسابا لسفر التكوين بالتوراة، مرورا بالانتقاص من شخصيات ورموز المركز الذين بالقطع لا يهمني رصد تكوينهم الثقافي أو حشد وتعبئة الرأي العام ضدهم لأن زعمهم بالفعل انقضى بسبب الولع الديني الذي يحيا به وفيه المصريون والشغف صوب التدين الذي لا يفارق شعب المحروسة. انتهاء بتفاصيل شتى تزامنت مع الاحتفال بتدشين المركز والتي سخر منها وبها المصريون لاسيما وأنهم يحملون في جيناتهم أقصى درجات السخرية منذ عصور المصريين القدماء.

الأمر بالنسبة لكثيرين من المثقفين ورجال الدين الذين يحملون مشاعل التنوير ويقتدون بفكر الإمام المجدد محمد عبده لم يكترثوا كثيرا ولم يقفوا طويلا أمام شعارات مركز تكوين لأنهم مهمومون بتنوير العقل بصورة تخدم الأوطان لا من أجل زعزعة الثوابت والرواسخ والفكر الرصينة.

ثمة سنوات من البؤس المعرفي الذي يعيشه الوطن العربي في ظل التحولات العالمية المعاصرة والتي تتمثل أبرز إحداثياتها في التوجهات المعرفية الاصطناعية التي تعبث بالعقل كيفما شاءت ولا تكترث قليلا بثقافات الشعوب والمجتمعات ذات التاريخ الضارب في القدم، ولسوء حظنا على حد توصيف الشاعر الفلسطيني محمود درويش أننا الأكثر استجابة لأية تيارات وافدة فكرية تتعلق بعف الدماغ لا من حيث إمطار الذهن بأفكار جديدة تسهم في بناء الأوطان واستثمار القوى والطاقات، بل بزواياها السلبية التي تناهض أي بناء وتقاوم أي تطور نافع.

هذا بالقطع ما يرمي إليه أنصار تفتيت البنى العقلية أو المتلاعبون بالعقول وهو مصطلح عسكري في المقام الأول تم استخدامه في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين الشعبية حيث السيطرة على العملاء بصورة يصعب على العقل إعمال طاقات التفكير والتدبر والتأمل بشكل طبيعي أو فطري، وما تم بالفعل خلال سنوات بعيدة على شاطئين متغايرين تماما هو ما أدى بالعقل العربي إلى أقصى حالات البؤس المعرفي.

فالشاطئ الأول ادعى أنصاره ولا يزالوا في هوسهم غير المحمود أنهم دعاة التنوير وإعمال العقل وأصبح واجبهم الوطني والديني حماية العقيدة من شوائب الفكر المتطرف، وإقامة سياج قوي منيع على العقول الشابة خوفا من تسلل التيارات الراديكالية إليها.

وكارثة هذا الشاطئ في الحقيقة أخطر وأفجر من أصحاب الفكر الرجعي أو الطوائف التي اعتادت الاصطباغ بالنزعات الدينية المطلقة، لأن مجمل أصحابه ليسوا من المتخصصين في علوم اللغة العربية والشريعة، بل إن مجمل انتماءاتهم المعرفية تقتصر على دراسة التاريخ وعلم الاجتماع والقانون وأحيانا كثيرة اللغة الإنجليزية، ومنهم بالضرورة من خلط بين عمله الأكاديمي بالجامعة ونقل المعلومات القاصرة المحدودة بين دفتي كتاب إلى طلابهم، وبين كونه عالما مفكرا ظنا منهم بأن وظيفتهم شديدة الصلة بتقاضي راتب نظير نقل معلومات مجردة قد تبدو قليلة الفائدة والنفع بدليل تدني الدول العربية في مؤشر الأداء المعرفي لعام 2020 والذي تصدرت فيه دول مثل سويسرا وفنلندا وسنغافورة والسويد هي ما تجعلهم ـ الوظيفة الأكاديمية ـ يقومون بدور تنويري موازٍ للمجتمع كله.

من هنا جاء ظهور هؤلاء الأكاديميين العرب إعلاميا وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بزعمهم الافتراضي بأنهم يواصلون رسالة الإمام المجدد محمد عبده أو التنويري طه حسين، لكنهم في حالة من الصخب الفكري مفادها ضرب الجذور الدينية العميقة من أساسها، وتقويض أية صلات رابطة بيننا وبين التراث المعرفي الرصين، واقتصرت محاولاتهم البائسة بل الأكثر بؤسا ويأسا في نقد الخطاب الديني.

وتبدو مشكلة نقد الخطاب الديني لدى هؤلاء مشكلة عصية، بل مستحيلة الرصد والتناول، لاسيما وأن اعتمادهم الرئيس على تناول النص بوصفه خطابا مع اختلاف التوجه والطرح والتلقي أيضا يأتي ضمن طروحات غربية نجمت في غالب الظن لا اليقين عن بعضنا عن محاولات الغرب المخالف في العقيدة الإسلامية على الطعن في ثوابت الإسلام والنبيل من رموزه بدءا من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مرورا بالصحابة الأجلاء الكرام، وانتهاء برموز وعلامات الفكر الإسلامي المضيئة.

وأصبح هؤلاء المهاجمون لكل ما هو عقائدي سواء من حيث الشخصية أو الطرح أو الوجود الديني لقمة سائغة وفريسة سهلة القنص لدى أعداء الإسلام المنتشرين تحت رايات حقوق الأقليات ومراعاة توظيف المرأة وتمكينها في المجتمعات الشرقية المحافظة، ودعاة الترويج لمنظمات المجتمع المدني. ناهيك عن المؤسسات الحقوقية غير الرسمية التي لا أعرف حد تمويلها أو نشاطاتها سوى تعكير السلم والأمن المجتمعي في الشعوب العربية التي سرعان ما تهرول وراء كل سقطات المفكرين الذين ينالون من صحيح الإسلام وأصوله، كل هؤلاء من أشخاص وجهات تبدو لي وللبعض مشبوهة التوجه هي التي تزين للعلمانيين أعمالهم وطروحاتهم الفلسفية الفقيرة في التنظير والتأويل وهم أولى بالرعاية الصحية العقلية لردهم سريعا إلى الجذور الدينية الصحيحة وتبصير عقولهم وأبصارهم بسماحة العقيدة الإسلامية.

وكم من برنامج يتم بثه عبر شاشات الفضائيات العربية أي الناطقة باللغة العربية لأن معظمها يتم بثه من خارج الديار العربية الإسلامية مثل لندن أو باريس أو الولايات المتحدة يستضيف بعض الشخصيات الأكاديمية أو الصحافية من أجل تناول الموروث الديني من كتب أو صحائف نصوصية قديمة أو وثائق ومخطوطات ضاربة في التكوين من أجل قنص نقيصة أو خطأ مطبعي أو تصحيف أو تحريف لغوي تم بشكل قصدي مشبوه، وتلك الشخصيات تذيل اسمها بالمفكر الإسلامي أو الباحث في الشئون الإسلامية أو الكاتب المعين، وهذا يأتي من جملة الألقاب التي لا ضابط لها، وتنجح إدارة البرنامج في اختيار مذيع أو محاور بليد بالضرورة بالعلوم اللغوية والدينية من أجل إشعال فتنة العقل والوصول إلى أقصى درجة لتشتت المشاهد وكل هذا يتم تحت دعاوى تجديد الخطاب الديني، فيتم الهجوم على تفاصيل سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعلى سيرة الخلفاء الراشدين الذين سيثبت الضيف والمحاور أنهم ليسوا براشدين من أجل زيادة نسبة المشاهدة من ناحية، ومن أجل إرضاء أقطاب المؤامرة الخفية للإسلام من ناحية أخرى. وهذا يسب الصحابة، وذاك يطعن في كتب الحديث والسيرة والتراجم، وآخر يكيل الاتهامات بالرجعية والتخلف والنكوص بل والارتداد الفقهي لرجال الدين المعاصرين، ثم نكتشف سريعا تفاصيل الحملة المسعورة ضد الإسلام والمسلمين في شتى بقاع الأرض.

رغم أن ما طرحه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من دعوات وطنية ودينية قويمة وصحيحة بضرورة تجديد الخطاب الديني لم يكن في مظانه ومظان رجال الدين المستنيرين من أمثال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر بهذه الصورة، لكن تلقف البعض هذه الدعوات وتم تأويلها بصورة تتنافى من العقل والمنطق وإحداثيات المجتمعات العربية بل وتتنافى من النص الأصلي نفسه، فوجدنا أقلاما وأصواتا ووجوها لا يمكن حصرها بالفعل بدأت في حملتها المسعورة ضد الإسلام وثوابته وكيف أن الإمام مسلم أخطأ في مسنده، وأن الإمام الشافعي لم يكن أبدا على صواب، وطالما أخطأ الإمام أحمد بن حنبل في طرحه الفقهي وهكذا، ثم نرى من يدافع عن أصحاب الحملات المسعورة لاسيما في الغرب أو المنظمات الحقوقية التي ربما لا تفقه شيئا من قانون الإسلام ودستوره، ويظل تجديد الخطاب تائها بين دعوة صادقة أطلقها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بوعي وطني، وبين أشخاص كل مهمتهم الراهنة اللحاق بركب العلمانية المشوهة والطعن في الدين بأية صور مزعومة ما دام هذا يضمن لهم تسيد المشهد بشكل مستدام.

وقبيل أن ننتقل إلى أصحاب الشاطئ الآخر، نجد أن رجال المؤسسة الدينية الإسلامية يتخذون أمر النيل من النص الديني والطروحات الفقهية التراثية أخذ المتساهل، هذه البساطة في التصدي سواء من حيث ترك القضية الفقهية أو العقائدية المثارة والتي قد يترتب عليها الإلحاد ليس فقط الجهل الديني بالعقيدة إنما ينتظرهم الإلحاد الكارثي. ووسط هذا يظل رجال المؤسسة الدينية لاسيما الأزهر الشريف في غفلة تامة بشأن محاولات النيل من الإسلام، تحديدا على سبيل الرصد حينما وجدنا ثمة هجوم على فضيلة الإمام الأكبر من أحد الشخصيات الإعلامية (نسبة إلى ظهوره الإعلامي فقط) غير المتخصص في الشئون الدينية الإسلامية أن رجال الأزهر تقمصوا شخصيات رواد صفحات التواصل الاجتماعي من حيث الرد والدفاع والهجوم وإعادة الصياغة وهكذا دون أن يتم الرد على إسلام بحيري الذي تطاول في حق الإمام الأكبر من زوايا ثقافية دينية. هذا هو أبلغ رد حقا، فأنا حينما أرى رجلا يهاجمني ويزيد من عداوته ويتطاول في بنيانه التهكمي من العبث والحمق أن أعتدي عليه بمثل ما نعتني به، بل الأصوب والأصح والأدق منهاجا في مثل هذه الأمور مهاجمة الشخص في أفكاره ومعارفه وكيفية توضيح غثها وبساطتها ومستوى عمقها، بل ضرب جذور هذه الأفكار من خلال صاحبها ومناطق اكتسابها.

أما المنتسبون لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية المصرية على وجه التحديد والاختصاص، فالأولى بالدولة أن تثمن جهودها المخلصة في الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني صوب هؤلاء فهم أحق بالتدريب والنهوض بمعارفهم وثقافتهم الدينية التراثية والمعاصرة على السواء، والكشف عن آليات جديدة معاصرة في تدريبهم والوصول إلى درجة فائقة من التمكن والإتقان في الدعوة وتصحيح الأفكار المغلوطة.

وهذا يعيرنا من جديد إلى مستويات التلقي الغائبة عن وعينا المعرفي لاسيما وأننا بالفعل نشهد بؤسا معرفيا على مستوى شهودنا الحضاري العربي من المحيط إلى الخليج، لأن فعالية القراءة المنتجة للنصوص الدينية تقتضي توافر شروط متعددة يتمثل بعضها في الرصيد الفكري والثقافي الذي يمتلكه القارئ، وتجاوبه مع المواضعات العامة والمفاهيم السائدة التي تحكم إنتاج النص الفقهي أو الديني بوجه عام، فضلا عن كيفية تفاعله مع النص من خلال استخدام استراتيجيات قرائية معينة تضمن سلامة التلقي والتأويل والتفسير. وهذه الشروط تجعل الداعية على وعي دائم بالمعلومات والمعارف والإشارات والتنبيهات واللطائف المقدمة له داخل النص وربطها ربطا إيجابيا مع خلفيته الثقافية وطبيعة مجتمعه المعاصر؛ ليصل إلى معان جديدة واستنتاجات يمكن تطبيقها، ومن هنا تكمن أهمية القراءة المنتجة في كونها وسيلة لتنمية تفكير المواطن، وتوسيع لقدرته العقلية.

وربما أكون مبالغا بصورة كبيرة إن أشرت بالقول إلى أن القراءة المنتجة الواعية للطروحات الدينية القديمة والمعاصرة بوصفها إحدى نواتج قوة المعرفة لا تكتفي بجعل القارئ مستوعبا فقط لما يقرأ وناقدا له فحسب، بل تتعدى ذلك صوب التعمق في النص المقروء، والسعي لإيجاد علاقات وروابط جديدة بين أفكاره ومكوناته، وإبراز حلول متنوعة للمشكلات التي يطرحها النص الديني، التراثي أو المعاصر.

أما بالنسبة لأنصار الشاطئ الآخر للبؤس المعرفي، فلا يزال الفكر التكفيري يواصل زحفه في شتى بقاع الأراضي العربية، متسلحة في ذلك بحالات التشتت العربي والصراعات السياسية بين القوى المتناحرة في العراق وسوريا ولبنان وتونس وليبيا في ظل ثبات نسبي بمصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهذا الجنوح التكفيري لم يعد الآن من المقبول رده إلى التيارات الدينية التقليدية مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الجهادية كما كان الأمر سالفا، وأيضا تنظيم القاعدة الذي كان صاحب رايات التكفير والغلو في الرأي منذ سنوات، لكن في ظل حروب الجيل الرابع والفضاءات الإلكترونية وجموح المنصات الرقمية وسط حالات مستدامة من الغياب العربي الوطني لدى الشباب المسلم بات الأمر أكثر صعوبة في المواجهة.

فكنا منذ عقد من السنوات نظن أن ظهور تنظيم الدولة (داعش) سيمثل المرحلة الأخيرة من الراديكالية المتطرفة غير الواعية والفقيرة معرفيا، لكن بمرور الوقت وفي ظل تبعات وجود أجيال طويلة تربت في أحضان تنظيمات الإخوان والسرورية والقطبية والجماعات الإسلامية والسلفيين الجدد طالعا أن مواجهة الأفكار الظلامية يمكن أن تكون مستحيلة ليس فقط لكثرة أبناء وأحفاد تلك التنظيمات السرية، لكن لأن متغيرات العصر هي التي شكلت ملامح الصعوبة والاستحالة، فالمنصات الرقمية مجهولة المصدر والتأهيل والتكوين لاسيما الخارجية تدعم حالات الجهل الديني، وتقوض أية فرص سليمة لتصحيح أمور العقيدة المغلوطة لدى الشباب من الترويج الهائل والمستمر لفئات بليدة تافهة وممسوخة لمطرب عاري الصدر أو مطربة مبتذلة الصوت والأداء والمظهر أيضا، ودعم الكتابات الروائية المنحلة التي تتناول فقه الجسد وأحاديث غرف النوم فقط دون المساس بقضايا الوطن أو تعميق الرؤى الوطنية والقومية لديهم، هذه هي التحديات الأجدر بالمواجهة.

وفي ظل وجود فقر معرفي يتصل بالمسألة الدينية بدأت المنظمات الخارجية في دعم أي تيار ديني جاهل للتغلغل والانتشار بصورة سريعة بين أوساط المجتمعات العربية التي بدت تائهة بين ترقب الأعمال الدرامية في رمضان، أو متابعة أحداث الرياضة العربية المخيبة للآمال أيضا، نجد الدور البارز للمنصات الرقمية التي تروج للأفكار الدينية المغلوطة وإثارة الفتن ضد الحكومات والأنظمة العربية الحاكمة، وتزيين الصورة لبعض الشخصيات المثيرة للفوضى سواء من الشخصيات المعاصرة أو الذين ماتوا وهم على حالة عداء واضح مع الأنظمة السياسية أو المجتمعات من أمثال سيد قطب أو حسن البنا من قبله أو غيرهما ممن اعتاد الترويج للفوضى قبل العنف عن طريق استغلال المنحى الديني.

أما الكارثة المؤججة حقا والتي لابد للأنظمة العربية الحاكمة أن تكترث كثيرا لها هي وجود مئات الأكاديميين الجامعيين بالجامعات والمعاهد العربية، وهؤلاء لا يزالون من دراويش التيارات الجهادية التكفيرية التي تكفر وتنذر بالخراب وتفتي بالقتل وتتبنى الاغتيال الفكري قبل الجسدي، فجامعاتنا العربية لاسيما الذين يقومون بتدريس العلوم الشرعية واللغوية هم بعينهم من يروج للتكفير وينطبق على مجملهم "لا تظن أنياب الليث تبتسم وهي بارزة" إنما هي على أهبة الاستعداد للقنص والفتك والنيل من الأوطان العربية، وأبالغ في حد توصيفهم بالجهل الفقهي واللغوي والعقائدي لأن تكوينهم وإعدادهم كان في ظل ظروف اقتصادية فقيرة تتوازى مع بيئاتهم المعرفية الأشد فقرا.

وكم من أستاذ جامعي يقبع داخل قاعة محاضراته بين طلابه وهو لا يخرج عن عباءة أسلافه من التكفيريين الذين يقفون ضد أي نظام حاكم، ويريدون العودة بنا إلى عصور ظلامية لا تختلف نسبيا عن محاكم التفتيش الذائعة في أوروبا وقت ظلاميتها، وهؤلاء قصروا جهدهم الفكري ـ إن وجد ـ إما عن التلميح دون التصريح على سياسات الأنظمة السياسية الحاكمة المعاصرة، أو اتهام الآخرين بالعمالة والخيانة، أو بالسعي المريض وفقا لهوسهم المعرفي بقضايا المرأة والنكاح والزواج الشرعي أم العرفي فهم لا يفطنون بعد أحكامه في الإسلام الصحيح، ويتعاملون من الدين ونصوصه بمنطق التلقي السلبي الذي لا يريد أن يعمل العقل أو الفكر.

وإذا أردنا أن نرصد البؤس المعرفي لدى الأكاديميين غلاة التكفير في العصر الحديث، فيكفينا الإبحار الإلكتروني في شبكات ومواقع ومنصات التواصل الاجتماعي لنستبين عن قصد ووضوح حالات البؤس المعرفي الديني لديهم من جهة، والمكر بالأوطان والشعوب من أجل مطامح ذاتية من جهة أخرى.

هؤلاء غلاة التكفير من أنصار البؤس المعرفي الذين ناشدوا ضحايا سورية من قبل، ودعوا إلى أنهم زاحفون إلى القدس بالملايين، هؤلاء هم الذين لا يزالون يؤيدون تظاهرات تطبيق الشريعة الإسلامية وكأنهم في سويسرا صاحبة المركز الأول في مؤشر الأداء المعرفي العالمي.

وثمة شواهد تحدد العلاقة التاريخية بين الدين والسياسة، وهذه العلاقة التي طالما شهدت حالات من الصراع الدائم بين التنوير والراديكالية المتمثلة في التطرف العقائدي المفرط، لكن قد تتجاوز حالة الصراع من سجالات الكتب والمناقشات وصراع الفضائيات بين الفريقين إلى الساحة الأكاديمية وهنا تصبح الظاهرة المستدامة أكثر شراسة لأنها تتعلق بمستقبل عقول صناع المستقبل أنفسهم ألا وهم الشباب، وهذا ما ألفيناه واضحا خلال فترة المد الإخواني بصفة خاصة والجموح المستعر لتيارات الإسلام السياسي منذ سقوط نظام مبارك في مصر وبن علي في تونس، فكان الخلط بين الديني والسياسي من ناحية، والخلط العجيب بين الديني والطرح المعرفي الأكاديمي من ناحية أخرى وهو المشهد الذي استرعى النظر والنقد ومن ثم تأويله.

 واستعلاء التقوى الذي مارسه الكثير، بل كل المنتمين لجماعات الإسلام السياسي في فترة حكم جماعة الإخوان لمصر جعلهم يتمتعون بخلفية رصينة لدى طلاب الجامعة لمعارفه ولما يقدمه لهم سواء كانت هذه المعرفة دينية أو علوما إنسانية كالتربية وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا، أو علمية محضة كالطب والهندسة والصيدلة. والتماس المنتمين لتيارات الإسلام السياسي للمرجعية الدينية في أثناء طرحهم العلمي داخل قاعات الدراسة مكنهم من السيطرة على العقول من جهة، وإيجاد فجوة من الشراكة والتفاعل مع غير المنتمين من الطلاب لفكر هذه الجماعات والتيارات، لكن ما فكرة فيه هؤلاء الأساتذة حينها وربما لايزالون يسعون بخطى وئيدة لتحقيق ذلك هو أن الجمع بين السلطتين الدينية والمعرفية يمكنهم من إحكام السيطرة على أذهان طلابهم ومن ثم تسهل عملية التوجيه والإرشاد لهم من أجل تحقيق مطامح وأطماع وأهداف جماعة بعينها تماما كما فعل الأساتذة المنتمون لجماعة الإخوان فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي فضلا عن تحقيق حلم ضامر في نصوصهم المرجعية وهو إضعاف المؤسسة العلمية بصفتها رمزا للعلمانية والمدنية التي يرفضونها جملة وتفصيلا.

وتلك الفكرة ظلت لعقود بعيدة تراود زعماء التيارات الدينية ذات المرجعيات الراديكالية وهم في صراعهم الطويل مع رموز التنوير منذ منتصف القرن العشرين على وجه التحديد، وبلغ الصراع مداه في تهميش جماعات الإسلام السياسي لأدوار أستاذ الجامعة المهموم بالنهضة الحقيقية وتنوير العقول وتبصير الأذهان والأبصار بإعمال العقل وضرورته، كذلك كان مبدأ هذا التوجس المزمن بعقول زعماء وأنصار الفكر الراديكالي هو انتفاء الربط بين الشرع والحقيقة أي الفلسفة وطروحات العقل، الأمر الذي دفع بهم إلى تكفير قاضي القضاة والفيلسوف الأول ابن رشد الذي يتبنى فكره معظم التنويريين، واستهدفوا في ذلك الدمج بين الديني والسياسي والعلمي واستحالة التقاء الفلسفة بالشرع. وهذا الأخير هو الفقيه القاضي الفيلسوف الأندلسي صاحب أشهر المقولات التي أرقت فكر جماعات الإسلام السياسي منذ قرون، ومؤسس التفجير العقلي الذي زلزل عروش تيارات التطرف والإرهاب، فهو القائل "إنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة، والأخت الرّضيعة لها، وهما المصطحبتان بالطّبع، المتحابّتان بالجوهر"، و"اللحية لا تصنع الفيلسوف"، وأيضا قال "لسبب في ورود الظاهر والباطن في الشرع هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق".

وهذا ليس بجديد، لأن تاريخنا الإسلامي القديم شهد جدلا واسعا وكبيرا بين العقل والنقل، وهذا ما دفع المتأخرون حتى وقتنا الراهن إلى الرفض المطلق لمباحث الفلسفة، كذلك الإعلان بعدم نجاح أو جدوى كافة الأيديولوجيات التي تنتمي للحداثة وأن تجلياتها الاجتماعية والاقتصادية هي محض عبث.

وليس من باب الدهشة أن يقوم أنصار تيارات الإسلام السياسي من أساتذة الجامعات العربية في مصر وتونس والجزائر الدمج بين الدين والسياسة وصولا لسدة الحكم من بوابة تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم فحسب لا من باب صحيح الشرع، لكن الدهشة الحقيقية هو تسييس العلم والمعرفة والاتجاه ببوصلة الدرس الجامعي إلى تناول قضايا وأفكار تتواصل بالضرورة مع مرجعيات تلك الجماعات تماما كما حدث في مصر أيام فترة حكم جماعة الإخوان حتى سقوطهم الشعبي في الثلاثين من يونيو 2013.

وكانت حجتهم أن التغيير الحقيقي في المعرفة هو الابتعاد عن علوم ومعارف الحداثة وكل ما ينتمي إلى فكرة المدنية التي تعد رجسا يدفع بالأمم إلى الانتحار الإنساني، وهذا الدفع المستمر من جانب الأكاديميين خلق حالات من اهتزاز المعرفة الحقيقية لدى الشباب الجامعي، وجعلهم في مقام مستدام من محاكمة المعارف التي تقدم لهم تحت قبة الجامعة. وكانت المشكلة الرئيسة وربما ظلت قائمة حتى الآن في ظل وجود خلايا نائمة لأنصار تلك التيارات وبقاء وجوه جامعية مستترة غير معلنة أنهم دون استثناء متفقون على الطرح المعرفي الذي يقدمونه إلى طلابهم لأن المرجعية لديهم ثابتة دونما تغيير أو تطوير فهي تم نقلها تحت سلطة السمع والطاعة، بخلاف الأكاديميين ذات توجه التنوير، المختلفين في طرحهم والمهمومين بنقد الواقع المعرفي بصور شتى وزوايا متباينة، صبَّ هذا الاختلاف بين الفريقين لصالح أنصار تيار الإسلام السياسي لاتفاقهم في رصد الواقع، وسرد المرجعية الخاصة بهم، والتوجه إلى هدف محدد بغير لغط.

أما المرفَّهون من أصحاب قضايا التنوير ونهضة الأمم أحفاد ابن رشد فهو في شقاق واختلاف بقدر اختلاف مشاربهم الفكرية والمذهبية، لذا فحينما ينقدون مجتمعاتهم البائدة أو الراهنة فهو يتمثلون مدنا فاضلة افتراضية قد نتلمسها فقط من خلال تغريدات إلكترونية أو منشورات يتم بثها وطرحا على مواقع التواصل الاجتماعي دونما فائدة مرجوة.

هذا من منطق البدايات المتباينة بين من زعم بالتنوير سلاحا لتطوير المجتمع، ومن سعى في خفاء تارة وعلن تارة أخرى بهدف استغلال الدين وصولا إلا أغراض ومطامح سياسية، أما عن النهايات أو بالأحرى محاولة لاستشراف نهايات الفريقين؛ التنوير والراديكالية فالمشهد يبدو واحدا بغير اختلاف.

فتيارات الإسلام السياسي لم تحقق أغراضها لأنها باختصار ضد سيرورة التجديد والتطوير، وانغلاقهم في نصوص بشرية وضعها مؤسسي تلك التيارات حتى صارت المرجعية المطلقة جعلت بمنأى عن حركة التغيير المجتمعي المتسارع والمتصارع أيضا. وفكرة ارتكان معظمهم إن لم يكن الكل إلى أفكار أبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب وعبدالله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري التي لم تخرج عن توصيف المجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات جاهلية منحرفة عن التعاليم الإسلامية هي التي أودت بأصحابها والأفكار نفسها إلى هاوية التطبيق والإجراء.

وخصوصا سيد قطب الذي ظل في كتابه الأشهر "معالم في الطريق" يؤسس لجاهلية المجتمع الإسلامي القائم وتكفير الأنظمة السياسية الحاكمة ربما لخلافات تبدو شخصية في المقام الأول، سرعان ما تحولت إلى مرجعية لمريديه من القطبيين وأنصار جماعة التكفير والهجرة لاسيما وأنه استطاع أن يقدم منهجا ثابتا لأنصاره مفاده أن الحكومات ورعاياها أيضا يقبعون في دوائر الكفر والضلال ومن ثم لابد من تغيير حالة الفسوق التي تتسم بالشيوع باستخدام العنف والقوة.

ووفقا لقاعدة السمع والطاعة في المنشط والمكره المثبتة في المرجعية المعرفية لجماعات الإسلام السياسي لاسيما المتصفة بالتكفير ومواجهة رموز التنوير بالعنف فإن كل وافد جديد لهذه الجماعات لا يجوز له الانحراف عن هذا الخط والنهج المرسوم لزمن معين ولخلافات تاريخية وسياسية بعينها ولأغراض وأطماع ذات خصوصية.

لذلك نجد المهرولين صوب فكر الجهاديين والحاكميين في حالة هجوم مستدام لمواضعات فكرية محددة مثل حقوق الإنسان وحرية العقل وإعمال الفكر والتأويل، رغم أن هذه المواضعات وغيرها حض عليها الإسلام الصحيح والشرع الواضح بغير اختلاف.

ومن هنا لا عجب في سقوط أفكار التكفيريين الجدد وانهيار أحلامهم الضاربة في القدم، كما سقطت أفكار المؤسسين الأوائل لأنهم باختزال شديد في حالة هوس بمجتمع يبدو كافرا بل هو كافر بالقطعية من وجهة نظرهم القاصرة والضعيفة لأن واقعنا الراهن والمنصرم أيضا يفي بوجود مجتمعات دينية قائمة ومؤسسات دينية بارزة ولدى الشعوب العربية بطبيعة الحالة ولع ديني لا يمكن إغفاله أو انقضاؤه أبدا. وحينما نقيِّم تاريخ الحركات الإسلامية السياسية منذ اندلاعها فيسهل استشراف نهاياتها كونها لا تزال قابعة في فكرة الخلافة الإسلامية والالتحاف بكيانات وجيوب تاريخية معلنة حدادها المستمر على الواقع.

فضلا عن أن سياسات جماعات الإسلام السياسي يمكن توقع سقوطها التاريخي بامتهار؛ لأنها تسهم في رمي الإسلام وأهله باتهامات خطيرة مثل الوحشية والتطرف والعنف والإرهاب المسلح، والأخطر والأشد فتكا اقتناص الإعلام المقروء والمرئي والمسموع لحالات الهوس المرضي لكثيرين من المنتمين لتيارات الإسلام السياسي، بل لقياداتهم بالمرأة وهذا الجنون الجنسي الذي يدفعهم إلى الحديث عن قضايا النكاح والزواج والرضاعة وأحكام المعاشرة أكثر من الفقهاء والأطباء والمصلحين الاجتماعيين.

هذا بالنسبة للفريق الأول، أما أنصار التنوير رافعي شعارات نهضة الأمم بإعمال العقل، فاستشراف نهاياتهم أيضا تبدو جلية؛ لأنه بات من الضروري ابتعاد هؤلاء عن التنظير المطلق دون رصد حركة المجتمعات القائمة بالفعل، والاقتراب المتواصل بغير انقطاع مع الجامعيين الشباب لمعرفة احتياجاتهم المعرفية وآفاق مطامحهم المستقبلية. كذلك يشكل بعض أنصار التنوير عبئا على الإسلام أيضا؛ لأن بعضهم عاقد العزم على الطعن في الدين وثوابته من باب الولوج إلى متاهات الحداثة الأكثر غموضا، ونجد بعضهم أيضا من يمارس فعل التيارات الراديكالية في الهجوم على الشخصيات الوطنية التي ساهمت في نهضة الأمة العربية وهذه قاعدة تظل راسخة لدى البعض لا يمكن الفكاك من رصدها.

وعليه، فإن تاريخ الصراع بين أنصار التنوير وأنصار الراديكالية سيظل قائما ومشهودًا، ويبدو أن كتاب السجال بين المواضعتين التنوير والراديكالية المرجعية سيبقى مفتوحا بغير انتهاء سواء في تشويه الدين بقصد أو بغير قصد، وسيظل باهتا في سطوره ما لم ينتبه كلا الفريقين إلى أن الإسلام هو أقصى وآخر درجة لإعلاء العقل وهذا ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها صلى الله عليه وسلم.