المسرحيات القصيرة أما أن تكتب جيدا أو لا تكتب

أولى جلسات اليوم الأول للملتقى الفكري الذي يقام في إطار الدورة السابعة لمهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة شهدت جدلا واسعا بين النقاد والمخرجين والممثلين المسرحيين.
الحليان: عصف عقل المسرحي بالثوابت وهدم كل جدران الأعراف والتقاليد ليصل إلى الدهشة الجمالية
هاتف: العرض المسرحي الما بعد حداثي استثمر النصوص القصيرة التي تتواءم مع روح العصر وسرعته ومميزاته التكنولوجية

شهدت أولى جلسات اليوم الأول للملتقى الفكري الذي يقام في إطار الدورة السابعة لمهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة، والمتمحور حول "المسرحيات القصيرة بين النص والعرض"، جدلا واسعا بين النقاد والمخرجين والممثلين المسرحيين حول مصطلح المسرحية القصيرة وتقنياتها وخصائصها وأدوات تنفيذها، حيث طرح العديد من التساؤلات حول موقعها من الحداثة وما بعد الحداثة، وعلاقاتها بالقصيدة والقصة القصيرة.
تساءل الفنان والكاتب الإماراتي مرعي الحليان: هل هناك توصيف لما نسميه بالمسرحية القصيرة سوى أنها قصيرة في زمن عرضها؟ ما الذي يجعل مسرحية طويلة تعتمد محرك الفعل ذاته تختلف عن مسرحية لها ذات المحرك وذات التضاد المنتج لدراميتها؟ لا شيء يختلف سوى زمن العرض، أما ثنائية المكان والزمان في العرض المسرحي فإن المسرحة قادرة على أن تعبر الأزمنة والأمكنة في المتخيل الإبداعي، حيث تفتح العملية المسرحية تلك المساحة الشاسعة في الكون، لكي يعيد هندستها وفق متواليات لا تنتهي من أجل تحقيق الفرجة وتجاوز الزمان والمكان.
وأضاف الحليان أنه في تنويعات المسرحة ذهب المسرحيون في مسألة النص إلى ما ذهبوا إليه عبر التطوير ليصار إلى مسائل إبداعية عديدة مثلما حدث ذلك في القصة والرواية. وقال: "لا أتفق مع من يدفع بالقول إن المسرحية القصيرة هي مسرحية قائمة على حبكة درامية واحدة، ولها خط درامي واحد، فقد استفاد المسرح من تطور جميع أشكال الفنون، ولأن المسرح فن جامع فهو مسير بالتراتبية والتبعية لا مخير في هذا التطور، لقد عصف عقل المسرحي بالثوابت وهدم كل جدران الأعراف والتقاليد ليصل إلى الدهشة الجمالية".

لا شيء يختلف سوى زمن العرض
مرعي الحليان

وشبه الحليان المسرحية القصيرة بشعر الهايكو الياباني، ولفت إلى أنه لا يمكن أن نتخيل استحالة أن نشاهد مسرحية تمتد على مدى ربع الساعة من الزمن، إنها لا تتكئ في محركها الدرامي على حبكتين أو ثلاث حبكات، فما الضير؟ ما المانع؟ ما الصعوبة؟ إن ساحة الابداع حرة وخيال المبدع حصان جامح ومن الخطر أن نؤصل لثوابت هي ليست بأيدينا كأن نضع مواصفات لمسرحية قصيرة مثلما لا نستطيع التحكم في طول مسرحية أخرى، فالحالة الإبداعية تنطلق من سؤالها الحساس الملح ومن شرارة الفعل في المسرح ولا شيء سواه. 
ومن جانبه رأى المخرج المسرحي العراقي حليم هاتف أن المسرحية منذ بداياتها الأولى حتى الآن يمكن التأشير لها على أنها تابو مقدس لا يمكن المساس بآلية تشكيله وهيكليته ومضمونه، وقد تعرض الكتاب المحدثون الذين حاولوا العبور على البنية الأرسطية لتمرير محاولاتهم الساعية إلى ضرب تلك البنية إلى الكثير من المسائلة وإخضاعهم للعودة إلى الأصول الأرسطية الواجبة، وأفضل الأمثلة على ذلك ما فعله ألبير كورنيه في مسرحية "السيد" قبل الأكاديمية الفرنسية، ثم ما تعرض له فيكتور هيجو في مسرحيته "هرناني" في موجة من النقد الفرنسي ثم ما تعرض له ابسن النرويجي في مسرحية بيت "الدمية" إلا أن كل تلك المحاولات كانت مفتاحا مهما لكل ما حدث لاحقا من ترتيب أفق النص المسرحي المعاصر. 
وقال إن كتاب المسرح المحدثين وهم يستغلون وحدة المسرحيات القصيرة وما فيها من اقتصاد ورسم دقيق للشخصيات مازالوا مستمرين على استنباط الأشكال المختلفة لهذا الفن المسرحي الجديد وكتابة المسرحيات القصيرة ابتداء من الفودفيل التقليدي الهزلي الذي تمثله مسرحية "عرض زواج" لتشيخوف، و"الراكبون إلى البحر" التراجيدية المعروفة التي أبدعها سنج وإيحائية بكت "فصل بلا كلمات" أو مسرحية أونيسكو "الصلعاء". ليس عسيرا أن تميز المسرحية القصيرة كي يعرف محتواها من خلال ما فيها من إيجاز وما تتركه من أثر معين على المتلقي أو من خلال مرونتها في علاج الموضوعات المطروحة. لاسيما بعد موت الحداثة، وظهور ما بعد الحداثة التي تتموقع ضمن فضاء العولمة والسوق والاقتصاد، والتي أحالت كل الأشياء الى ممكنات سلعية خاضعة للعرض والطلب حالها حال أي سلعة.

بحاجة إلى مخرج بارع
حليم هاتف

وأشار هاتف أن العرض المسرحي الما بعد حداثي قد استثمر تلك النصوص القصيرة التي تتواءم مع روح العصر وسرعته ومميزاته التكنولوجية والانفتاح الحضاري الراهن عبر منتجات تلك التكنولوجيا المتمثلة في تشكيل تلك العروض وزمنها العرضي. إن طول النص وقصره تابع لأهمية المتوافر من تكنولوجيا وهي عملية ما بين النص والعرض. إن المسرحيات القصيرة مثل القصيدة والقصة القصيرة أما أن تكتب جيدا أو لا تكتب لأنها ترصد جانبا يشف عن الجوانب الأخرى، وتعالج موقفا نعرف منه حياة أو عالما أراد الكاتب أن يدل عليه، فإن لم تكن الكتابة بارعة تعذر ذلك الكشف وينعكس الموضوع ليس فقط على كتابتها بل على الإخراج أيضا فهي بحاجة إلى مخرج بارع يعي ويدرك ما يريد أن يقدمه وغالبا تعتمد في يومنا هذا على التقنية التي هي أساس إخراجها.
ورأت الناقدة هبة بركات أن اللجوء إلى المسرحيات القصيرة أصبح من الأمور التقليدية بين أبناء تيارات الحداثة، الذين تخلوا عن خشبات المسارح الكبيرة وما تقدمه من دعم وإمكانيات إنتاجية، وتوجهوا بعروضهم إلى فضاءات بديلة لفضاء المسرح "كدار عرض"، وهو ما يعكس وعي تلك التيارات بأهمية إعادة تشكيل العلاقة بفضاء صالة المتفرجين، لتحقيق مجموعة الأهداف التي تندرج في معظمها ضمن خطاب ثوري ومتمرد على تقاليد وأعراف وسلطات الطبقة البرجوازية، التي كانت تهيمن بأفكارها وذوقها الجمالي على المسارح السائدة والتي تمثل النموذج التقليدي لها في المسرحيات الطويلة ذات الفصول ومسرحيات الفصل الواحد والفواصل الكوميدية الخفيفة التي كانت تقدم على هامش تلك العروض لتحقيق التنوع وزيادة المتعة للمتفرج.
وأوضحت بركات أن أهم سمات الدراماتورجية المميزة للمسرحيات القصيرة التي أنتجتها تيارات الحداثة ربما يكون الإعداد الدرامي من الوسائط الفنية الأخرى (الشعر، الرواية، القصة، الفن التشكيلي.. الخ) أحد المصادر الأساسية التي يعمل عليها المسرح الحداثي بالإضافة إلى العمل الدراماتورجي لتحويل النصوص المسرحية إلى مشاريع أدائية.

مجموعة من التقنيات الأساسية حاضرة أكثر من غيرها
هبة بركات

وأضافت أن هناك مجموعة من التقنيات الأساسية حاضرة أكثر من غيرها في المسرحية القصيرة، منها التحديد: حيث يتم الانطلاق نحو الموضوع الأساسي، فلا مكان للحبكات الفرعية أو سلاسل الأفكار المترابطة أو شبكات العلاقات المعقدة أو حتى الشخصيات الكثيرة. مثل نص جاك (أو الامتثال) ليونسكو الذي يطارد طوال الوقت تنامي تلك العلاقة بين جاك ومحيطه العائلي الذي يرغب في إخضاعه وتطويعه. التكثيف: حيث إن المسرحية القصيرة تنطلق من تبني تراث طويل للمسارح الحداثية وجماليتها التي تنظر للمسرح نظرة اقتصادية بوصفه فنا يتخلى عن كل ما هو زائد عن الحاجة. فكل سطر درامي لا يسهم في بناء الفعل هو سطر زائد عن الحاجة يمثل التخلص منه واجبا وليس خيارا من ضمن خيارات. 
عملية التحويل: وهي تقوم بالأساس على التخلي عن اللغة المنطوقة لصالح الصورة البصرية، التي تحل بوصفها مجموع اللغات المسرحية البصرية التي تقوم بالمساهمة في تفسير وتأكيد الفعل والصراع، فالزمن والفضاء في المسرح عناصر شديدة الواقعية والحضور وبالتالي فإن اللغة لا تستطيع أن تعمل بذات الكفاءة التي تعمل بها في السرديات على سبيل المثال لاختزال الزمن أو الانتقال بين الأماكن، ولعل العروض التي تعتمد على الرقص المسرحي الحديث نموذج مثالي على كيفية التكثيف والتحويل البصري. وأخيرا القدرة على التواصل بأكبر قدر من الدقة وفي أقصر وقت مع المتفرج، وهو ما يمثل الرهان الأكبر، لذلك فهي لا تمتلك رفاهية تقديم مشاهد افتتاحية أو مشاهد ختامية كبيرة.
وأكد الناقد العراقي د. عبدالرضا جاسم أن نجاح كاتب المسرحيات القصيرة يتوقف في قدرته على الإمساك بزمام النص المقترن بموهبته وخبراته عند توظيفه لكل العناصر التي تخدم عمله الذي قد بني على شخصية واحدة أو يندفع وراء فكرة تلح عليه ليحقق توازن ما بين الشكل والمضمون بوجود عنصري الإقناع والإثارة على خشبة المسرح من خلال ما يـأتي: لا بد أن تحتوي المسرحية على وحدة مكان أو أمكنة محددة ومناظر يسهل إعدادها من حيث الوقت والتكاليف.  صياغة نص مسرحي يتلائم مع وجدان المجتمع وذائقته. اختلاف طبيعة استجابة الجمهور للنصوص القصيرة التي لا بد أن تضع حلا للمشكلة المثارة. ـمباشرة الشخصيات مقالها بالقول والفعل المكثف للتعبير عن نفسها دون وسيط سردي. تبتعد المسرحية القصيرة عن لغة السرد أو الوسيط التعبيري السردي (الراوي) والتركيز على لغة الحوار وفعل الشخصيات. أن يكون للحوار دور أساسي في كشف الأحداث والعلافات والدوافع والشخصيات والمشاعر وتنمية الصراع والشخصية. أن تكون المسرحية مشتملة على أحداث غير متفرعة بشكل يبعد المتلقي عن التلقي المباشر للمغزى المنشود والابتعاد عن حقائق الحياة والاستغراق في الخيال.  يجب أن يتميز كاتب المسرحيات القصيرة بالملاحظة والتحليل النفسي وخبرة واضحة بفلسفة الشخصية. الابتعاد عن الوصف وتجميل الطبيعة وتقريب المسرحية القصيرة من بيئة المؤلف المحلية وتجنب التعقيد في بناء الاحداث. تعميق الشخصيات ودوافعها وخلق تشابك يوصل للإثارة في بعض الأحداث المسرحية القصيرة.

لا بد أن تحتوي المسرحية على وحدة مكان أو أمكنة محددة
عبدالرضا جاسم

وأشار إلى أن الفضاء  التجريبي للمسرحيات القصيرة لا يقتصر على اللغة وصوت الممثل بل يتعداه ليشمل كل المؤثرات الصورية والصوتية، فالموسيقى مثلا في العرض المسرحي تشغل فضاء مهما في عالم العلامات والرموز والتاويل، وأن التمتع بعوالم العرض المسرحي القصير وضروب صنعته هي عبارة عن رغبة مشتركة من ثلاثة أقطاب مهمة تشكل صلب العملية المسرحي هما (المؤلف والمخرج والممثل) في الاستحواذ على انتباه المتلقي ونيل اهتمامه من خلال تأكيد وسائلهم النفسية لإمتاع المتلقي واثارته. 
وعليه فإن جمالية الخطاب الدرامي في النص الذي يتحول في العرض إلى خطاب مسرحي، تقوم على ثنائية أساسية هي (نص، عرض) باعتبارها ثنائية متكاملة لا تتجزأ ولا يمكن فصل أحدهما عن الاخر أو عمله دون الآخر ضمن فنون العرض المسرحي التي تقوم على فن الأداء والتعبير، وأن عدم تجانس هذين المكونين من مكونات الخطاب المسرحي يدفعنا إلى اعتبار النص المسرحي القصير شيئا مختلفا عن كل الأشكال والأنماط النصية الأخرى ذات الاستعمال اللغوي كما يدفعنا إلى التعامل مع العرض المسرحي القصير باعتباره إنجازا لا يكتمل إلا بتوفر مجموعة من الأنظمة والعلامات والدلائل المتقابلة والمتنافرة، ويعني هذا إذا كان النص المسرحي القصير عبارة عن كتابة إبداعية تتجسد ماديا في كتب مطبوعة يستطيع القاريء أن يتعامل معها بالكيفية التي يتعامل بها مع الأجناس الأدبية الأخرى، فإن هذا النص المسرحي القصير يتسم بخصوصية تتمثل في طبيعته الإنتاجية التي لا يكتمل إلا بواسطة عملية إبداعية أخرى تعمد إلى تشغيل مجموعة من الوسائل التعبيرية غير اللغوية وهذه العملية الأخيرة هي ما يسمى بالعرض المسرحي الذي يشمل على لغات سمعية ويصرية وعلى دلائل ورموز تجعل منه فنا يرتبط اأكثر من غيره بفنون العرض المسرحي.