المسرح والخيال على مائدة ملتقى المسرح العربي

أحمد بدوي: قضية المسرح والخيال قضية مهمة قديمة ومتجددة، باعتبار أن الخيال لا يسكن بل يتخالف وجوهره هو التنوع لا التكلس.
عمر الرويضي يرى أن الخيال مفهوم متجذر منذ ظهوره وظل دائما يبحث لنفسه عن مسار واضح وهو ما تجلى في مدارس مسرحية ومختلفة وتيارات متباينة
ميسرة صلاح الدين: ظهور الوسائط المتعددة" خلق بيئة متسعة غير محدودة المكان وغير مرتبطة بعوامل مكانية وزمانية

تواصلت فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان المسرح الثنائي الذي تنظمه إدارة المسرح بدائرة الثقافة في الشارقة، حيث انطلقت في اليوم الثالث مناقشات الدورة (17) من ملتقى الشارقة للمسرح العربي تحت عنوان "المسرح والخيال"، وقد ألقى د.أحمد بدوي العميد السابق للمعهد العالي للنقد الفني في أكاديمية الفنون بالقاهرة في الندوة الافتتاحية التي أدارها عبدالله راشد كلمة المشاركين من الباحثين والممارسين المسرحيين العرب مؤكدا أن الملتقى قدم العديد من الرؤى العلمية والعملية التي تدفع بالحراك المسرحي العربي نحو آفاق أكثر مواكبة وحداثة من خلال استضافة نخبة مميزة من الفاعلين في المشهد المسرحي لمناقشة العديد من القضايا التي تربط بين فن المسرح بالحياة والواقع كالهوية والتواصل والتغيير والمجايلة. 
وأشارك بدوي إلى أن قضية المسرح والخيال قضية مهمة قديمة ومتجددة، باعتبار أن الخيال لا يسكن بل يتخالف وجوهره هو التنوع لا التكلس، وشرط الإبداع الحقيقي أن يبهر ويصدم ويحرك المشاعر أو يحلق ليستحوذ على العالم. تلك هي قوته السحرية التي تجعل وعينا ذاته يتغير بل تؤججه وتفجر طاقته حتى لا نمارس وظيفة تكرار الواقع، وأيضا لنعزز لدينا الحلم بعالم مغاير ومتجدد يقاوم دائما جرثومة التجمد.
ورأى أن اغتصاب الخيال من مجتمع ما هو رهان مؤكد على يأس وضياع وخضوع هذا المجتمع، فالخيال قوة مجيء المستقبل وحرية الخيال هي الضمان الحقيقي لقدرة مجابهة المجتمع لكل قوى التزمت والقهر، وطاقة حمايته من الوهن.
أما في مداخلته المعنونة بـ "المسرح بين الواقع والخيال، من منظور الحاضر" فتطرق د.أحمد بدوي إلى عدد من الأفكار المهمة مشيرا إلى أن خيال الفنان والقدرة الفنية تمكناه من أن يستكشف وينظم ويشكل ويقيم خبراته في الحياة فيحيلها إلى أعمال أدبية. ولذلك يؤمن النقد الحديث بأن الفنان بدل أن يدين بالولاء للحياة يجب أن يدين بالولاء لفنه وللخيال، فالعمل الفني ليس مصدرا من مصادر الأخبار، وليس وثيقة تاريخية يفسر في ضوئها أحداث الماضي. وبالتالي فإن الفن: أولا لا ينقل الحياة كما هي، وإنما يضيف إليها أشياء. وثانيا أن الفن يأخذ من الحياة ليعطي ما يزيد من جمالها، أو ما يعمق من مفهومها، أي أن الفن ليس نقلاً فوتوغرافياً للحياة بل عمل الخيال والعقل معا.

 اغتصاب الخيال من مجتمع ما هو رهان مؤكد على يأس وضياع وخضوع هذا المجتمع

وقال "الفن في دور الإبتداع والخلق لا يقصد الوعظ والإرشاد وتقديم العبرة.. وإنما هو يهدف إلى أمر واحد: تفسير الحياة وتوضيح مفاهيمها، ومن هنا يجيء التوجيه النفسي والخلقي، ذلك أن تصوير الإحساس أو الفكرة بدلا من الإخبار بها يعتبر اليوم من المقومات الأساسية للبلاغة، فلو أن "أياجو" قال إنه شرير و"تارتوف" قال إنه منافق لما كان لاياجو أو تارتوف الأثر الذي يتركه كل منهما في أنفسنا، بل كان كل منهما مجرد خبر لا شخصية لها معالمها الواضحة المعروفة، فليست البلاغة في سرد الفكرة بل ترجمتها خلال عالم درامي محدد. أوديب وهاملت شخصيات خيالية، لا أصل لها في الواقع، ورغم ذلك فهي من أقوى الشخصيات في ثقافتنا. قد يكون هاملت شخصية خيالية تماما لكنه يبدو في نظر من عايشوا صراعاته وآلامه أكثر واقعية وحقيقية وحضورا من العمة دوريس العجوز التي نراها في الكريسماس مرة كل عام. 
الناقدة الجزائرية د.صورية غجاتي ناقشت ورقتها رؤية متكاملة محورها "الجسَد قُرباناً للخَلاص - جدل الواقعي والماورائي في مسرح القسوة" رأت فيها أن الجسد في مسرح القسوة هو جسدٌ مُقاوم يرتقي إلى مرتبة المُحرّض، فينفلت من عُقاله المُنظّم لسلوكاتٍ ترضى عنها الثقافة الرسمية، إلى جسدٍ يحكُمه التشظّي فيغدو جسداً مُضاداً ومقاوِماً لكُلّ منظومة أو سُلطة؛ سُلطة الذين، والسياسة، اللّغة، والعقل، مما يجعل المسرح الذي قام عليه يسعى إلى التحرّر من اللاهوت بتوصيف جاك دريدا؛ واللاهوت في فهمه ليس ذا طبيعة دينية بالضرورة، ولكنه يشمل كلّ سُلطةٍ تحكُمنا من بعيد، وتُقرّر مصيرنا في غيابنا، فجاء مسرحُ القسوة "يدٌ مرفوعة ضدّ حامل اللوغوس المُفسد، ضدّ الأب، ضد إله مسرح خاضع لسُلطة الكلام والنصّ.
وتساءلت د.صورية: هل يكون من باب الشطط أن نقول بأن مسرح القسوة لم يكُن له حظاً وافرا من التأثير في المسرح العربي كنظرية الملحمي؟ وقالت: اللافت للنظر أنّ الاهتمام به عربياً كان على صعيد الممارسة النظرية على حساب تمثّله إبداعياً، وبالقدر الذي فتح الباب موارباً بمرور بعض مقولاته التي يشترك فيها مع المسرح الملحمي دون غيرها من المقولات التي أسست لاختلافه عن باقي الاتجاهات التجريبية في المسرح المعاصر؛ فكان هذا التمثّل أقرب ما يكون إلى النظرة الجزئية والانتقائية لما يكفل للمسرح العربي عدم إحساسه بالاغتراب. فكانت مقولة "المشاركة" أو كسر الحاجز بين المؤدي والمتلقي وسيلة لغايةٍ أبعد من الغاية الجمالية الآرتوية؛ ذلك أنّ التجارب المسرحية العربية التي اقتربت من مفهوم مسرح القسوة كانت مسكونة في الأساس بهاجس البحث عن صيغة عربية أصيلة للمسرح تقترب من ذوق المتلقي العربي ولا يراها طفرة منقطعة عن موروثه الشعبي الممتد في الماضي البعيد والذي لا تزال ذاكرته الثقافية تحتفظ به في سراديبها المضيئة.
وأضافت: إذا كان مفهوم مسرح القسوة قد تجلّى في بعض تلك التجارب عبر استحضار روح الاحتفال الطقسي السحري القائم على التنكُّر، والتحوّل للشخصيات من حال إلى حال، واستحضار الأرواح، والشياطين، والجن، وتفعيل السحر، والسحر الأسود، والتعزيم والطلاسم، بهدف الربط بين الواقع وما وراءه، بالإضافة إلى استثمار طاقة الموسيقى والرقص كأسلوب علاج روحاني كرقصة "الكناوى" في المغرب، و"العيساوة" في الجزائر وتونس، كما تمثلتها عروض: "السحور عند اليهود والنصارى والمسلمين" للراحل الطيب الصديقي (المغرب)، و"فاوست والأميرة الصلعاء" للاحتفالي عبدالكريم برشيد (المغرب)، ومرتجلة "شميسا للاّ" للراحل محمد الكغاط (المغرب)، و"هرمونيا" لبوجمعة مختار (الجزائر)، و"البُعد السابع" من إبداع مسرح قسنطينة (الجزائر) فإن حضوره وما اقترب به من غيبوبة ومظاهر غير طبيعية، لم يكن سوى تناص أفقي مع التراث الشعبي المحلي واستعراض لثرائه الفرجوي، لا يُشكّل نسيجاً متداخلاً يصعب فصل خيوطه دون أن يختل العرض. ومن ثمّ اقتصرت لغة الفضاء على الإبهار البصري وضلّت وسيلة لا غاية في حدّ ذاتها؛ وسيلة فنية هدفها إثبات وجود صيغة مسرحية عربية أصيلة، وقد ترتقي أحيانا إلى مستوى الوسيلة الفكرية وغايتها نقد الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي. وهو عينه ما راهن عليه الفاضل لجعايبي (تونس) في استثماره لمقولة الجسد بوصفه محركاً فاعلاً في عروضه كلّها سيما في عرضه "خمسون" الذي كان وفيا أيضاً للسياسي والإيديولوجي، واتّخاذ الجسد أداة لعرض قضايا الحياة الاجتماعية والفيزيقية عموماً.

وأكدت صورية على إنه لا يبتغي للمسرح أن يُعالج ما هو دنيوي وذو طابع إنساني، بل إنه يرى في الإنساني مجرد معبر أو محطة انطلاق لما هو أبعد وأعمق وأصدق، للكوني الذي يغدو أمامه الإنسانيُّ نقطة سابحة ضعيفة يُمارس عليها الكونُ قسوتَه ويذكّرها بمحدودية جبروتها.
واستعرض الكاتب المغربي عمر الرويضي في مداخلته علاقة المسرح بالخيال وقبل ذلك توقف عند السياق التاريخي لكل منهما والذي يرتبط أساسا بالقرن السادس قبل الميلاد في اليونان القديمة مع أفلاطون وأرسطو، كما توقف مع الدرس الفلسفي العربي عند مفهوم الخيال للفارابي وابن سينا والغزالي وابن عربي، ما يعني أن الخيال مفهوم متجذر منذ ظهوره وظل دائما يبحث لنفسه عن مسار واضح وهو ما تجلى في مدارس مسرحية ومختلفة وتيارات متباينة.
وتساءل الكاتب عن غياب شبه مطلق ـ على حد تعبيره ـ لكتابات نقدية توضح أهمية هذه العلاقة بين المسرح والخيال، مؤكدا أن كل العناصر المشكّلة للعرض المسرحي حظيت باهتمام النقاد انطلاقا من النص الدرامي وانتهاء بالجمهور مرورا بالإضاءة والمؤثرات الصوتية والماكياج، وهو البحث الذي خلف كتب ومصادر ومراجع مختلفة تتسم بالغنى والتنوع، فلما لم يحظ الخيال بمثل هذا الاهتمام؟ هل يمكن صناعة عمل مسرحي دون الاعتماد على الخيال والمخيلة؟ ما مدى وعي صانعي الفرقة بتوظيفهم للخيال في المنجز المسرحي؟ كيف يمكن معالجة البعد الخيالي في العرض؟ من أين يبدأ الخيال في المسرح وأين ينتهي؟ كيف يتلقى الجمهور المسرحي عرضا يعج بالرموز البصرية والسمعية المعقدة؟ هل يقتضي خيال المتلقي أن يكون في مرتبة المخرج حتى يستوعب العرض؟
هذه الإشكاليات التي توقف عنها الرويضي في مداخلته بالتفكيك والشرح والتفسير مؤكدا على حضور الخيال في المسرح باستعراض مجموعة من الأسماء التي اشتغلت على جسد الممثل باعتباره بؤرة دلالية تبعض الحياة في كل المنجز المسرحي الذي يكون ميتا ومنهم: ستانيسلافسكي، مايرخولد، غروتوفسكي، أدولف ابيا، ادوارد غوردن غريك. هذه الأسماء اشتغلت على جسد الممثل باعتباره مختبرا له قدرة لا متناهية على التأثير في الجمهور، بالإضافة إلى الفضاء السيونوغرافي الذي يتحرك فيه هؤلاء.
وخلص الرويضي إلى أن البحث في موضوع الخيال في علاقته بالمسرح أصبح مستعجلا إذا أردنا فعلا أن نطور الفرقة المسرحية، ولعل البوابة الرئيسية للوصول إلى هذه الغاية هو المتلقي الذي يعشق المسرح لأنه فن الحقيقة واللحظة المباشرة. وإذا كان الخيال ظهر في الحقل الفلسفي فهذا يؤكد على أن المسرح هو بالفعل فن فلسفي ولا يعشقه إلا الفلاسفة المحبون للمسرح والعاشقون لغبار الخشبة.
أما الشاعر والمسرحي المصري ميسرة صلاح الدين فقد تتبع الرؤى الحداثية لتطور المسرح مستهدفا مفهوم "ما بعد الدراما" وعلاقته بالأداء المسرحي على عدة مستويات: "النص، والفضاء المسرحي، والوسائط المتعددة". وكذلك المرور على التطبيقات الجديدة التي ارتبطت بمسرح ما بعد الدراما، وطرحت أشكالا مسرحية جديدة أقل ارتباطا بالفعل المسرحي التقليدي، وأكثر ارتباطا بالتقنية العملية والكود البرمجي - أي "تقنية الواقع الافتراضي" - والتي تقدم في النهاية صورة غير تقليدية، وربما تكون متشظية الأجزاء ولكنها جديدة ومختلفة وتفتح مساحات جديدة من الإبداع والخيال القائم على العلم والتجريب.
وحول ما بعد الدراما وجماليات الوسائط المتعددة، رأي صلاح الدين أن ظهور "الوسائط المتعددة" خلق بيئة متسعة غير محدودة المكان وغير مرتبطة بعوامل مكانية وزمانية، بنظام عمل بسيط وفي خطوات سريعة في مزج بين فئات تعبير من طرق مختلفة، كما أنها قدمت خاصية أخرى شديدة الأهمية وهي القدرة على التفاعلية بينها وبين الجمهور في أي وقت، وكذلك قدرتها على توليد أشكال متعددة، قد تكون بشكل عشوائي وغير معروف مسبقًا. ولأن المسرح في بنائه الأساسي يستطيع استيعاب كل أشكال الفنون والتغيرات الإنسانية والتكنولوجية على حد السواء؛ فقد اندمجت تلك الوسائط المتعددة بشكل سريع ومتجانس مع الفعل المسرحي بتياراته المختلفه مستوعبا الثقافة الرقمية وتقنياتها الجديدة.
ورأى صلاح الدين أنه من الضروري لصناع المسرح الإلمام بتلك التقنيات أو على الأقل الإلمام بأفق استخدامها وطبيعة إمكانياتها، وتوظيف خبراء تقنين للتعامل معها وتطويعها في إطار العرض المسرحي، وهو ما أصبح يعرف باسم "الدراماتورجية البديلة" التي تطوع الفنون الأدائية للمسرح والفنون البصرية للتكنولوجيا لإنتاج العرض المسرحي، وهو ما يبدو جليا في إطار التطور التكنولوجي والرقمي السريع، ويعد بداية تغيرات جديدة في فن المسرح ربما تأخذه لمناطق رؤية مختلفة تحتاج في شرحها لمفاهيم ومصطلحات جديدة قد تتجاوز مرحلة ما بعد الدراما لما هو أبعد من ذلك، لتفجر الواقع بشكل مختلف أو تتجاوزه بشكل كامل.