المصالحات تعرف من ثمارها

سلسلة مصالحات لبنانية تطوي صفحات الحروب المارونية التي امتدت أربعين عاما وثنيا، وتفتح كتاب التاريخ الماروني الممتد على مدى ألف وستمائة سنة مسيحية ونضالية وإيمانية.

كانت الساعة نحو الثامنة والنصف مساء أحد أيام ربيع 1980. كان الشيخ بشير الجميل ينتظر في مكتبه في المجلس الحربي وصول جورج وفرنسوا جبر (رحمهما الله) وكانا يتوسطان للإفراج عن معتقلين مردة لدى القوات اللبنانية وعن قواتيين لدى المردة. لدى وصولهما أطلعا الشيخ بشير على نتائج لقائهما بالرئيس سليمان فرنجيه في زغرتا. نتيجة العرض قال الشيخ بشير للمحامي جورج جبر: "أريد اختصار المسافات، أتعطيني رقم هاتف الرئيس فرنجيه"؟ تفاجأ جبر بالطلب وسأل مرتبكا عن السبب، أجابه الشيخ بشير: "أنوي التحدث مباشرة إلى الرئيس فرنجيه لننهي هذا الوضع المأسوي والشاذ الموجود بيننا. أنا مستعد لكل تضحية في سبيل ذلك، وأتكل على فروسية الرئيس فرنجيه وشجاعته". ارتباك الـ"جبرين" زاد، وظنا أن بشير يمازحهما.

أخذ الشيخ بشير الرقم وطلب شخصيا الرئيس فرنجيه. ردت السيدة لمياء، كريمة فخامته. حياها الشيخ بشير باللغة الفرنسية وعرف عن نفسه، فبادلته التحية بالمثل وبتهذيب فائق ميز آل فرنجية عموما. قال لها: "أرغب في التحدث إلى الرئيس فرنجيه إذا كان ذلك ممكنا". ساد سكون هاتفي، إذ تفاجأت السيدة لمياء باسم بشير وبصوته وبطلبه. لحظات دهرية وقالت له: "دقيقة شيخ بشير، سأرى إذا كان الرئيس لم ينم بعد". غابت نحو دقيقتين ثم عادت وقالت له: " أعتذر منك شيخ بشير، الرئيس ليس حاضرا بعد" (le président n’est pas encore prêt). ما إن أغلق الشيخ بشير السماعة، حتى اقترب منه المحامي جبر وربت على رأسه وهنأه على شجاعته.

التفت الشيخ بشير إلى صورة طفلته الشهيدة مايا الساكنة في وسط المكتبة. حدق فيها بحنان وحزن لافتين كأنه يرى أيضا طوني فرنجيه وزوجته فيرا وطفلته جيهان وسائر الشهداء. ألقى يديه على منكبي الكرسي وقال متألما: "ما كان يجب أن يموت أحد. متى سننتهي من هذه المآسي؟ بين الفلسطيني والسوري والإسرائيلي لن يبقى مسيحي على أرض لبنان. لو اطلع الرئيس فرنجيه على الملابسات الحقيقية لعملية إهدن لأدرك أن مقتل طوني مأساة غير مخطط لها".

بعد خروج الـ"جبرين" من الاجتماع سألني الشيخ بشير رأيي، فأجبته: "قيمة الاتصال هي بحصوله، وبنتائجه اللاحقة لا الفورية، وأظن أنه يمكن البناء عليه. أولا لأن السيدة لمياء لم تقفل الهاتف، ثانيا لأن جواب الرئيس فرنجيه أتى، على ما يبدو، بعد تشاور قصير، وثالثا لأن قول الرئيس إنه ليس حاضرا الآن يعني أنه قد يكون حاضرا مستقبلا".

في قرارة نفسه كان الشيخ بشير يراهن على تجاوب الرئيس فرنجيه مع مبادرته لثلاثة أسباب على الأقل. الأول: اطلاع الرئيس فرنجيه على معلومات رسمية تؤكد أن عملية إهدن جرت على مرأى من الاستخبارات الإسرائيلية والقوات السورية، وتاليا قد يكون حصل فيها خرق استخباراتي أدى إلى الكارثة الكبرى. الثاني: اعتقاد الشيخ بشير بأن الرئيس فرنجيه يبادله الشعور بأن عدد الضحايا والشهداء بعد "عملية إهدن" أصبح كبيرا في المجتمع المسيحي، ولا بد من وضع حد لهذا النزف ولموجة التهجير المتبادل من خلال اتفاق سياسي/أمني. والثالث: ظن الشيخ بشير أن الرئيس فرنجيه يعاني مثله من مدى استغلال قوى داخلية وخارجية التداعيات الشخصية للعملية من أجل زيادة الشرخ بين المسيحيين بشكل يؤدي إلى إضعافهم جماعيا.

حالت التطورات العسكرية في لبنان والمنطقة دون تقدم مساعي المصالحة، فرحل الرئيسان بشير الجميل فسليمان فرنجيه من دون أن يلتقيا هنا؛ لكنهما كانا وكل الشهداء حاضرين لقاء بكركي (15/11/2018) ولقاء بنشعي بين نديم الجميل وسليمان فرنجيه (11/09/2018).

هكذا، بعد سلسلة مصالحات، آخرها بين النائب سليمان فرنجيه والدكتور سمير جعجع، طويت صفحات الحروب المارونية التي امتدت أربعين عاما وثنيا، وفتح كتاب التاريخ الماروني الممتد على مدى ألف وستمائة سنة مسيحية ونضالية وإيمانية.

يكفي أن يفكر الموارنة بتضحياتهم في سبيل بقائهم الحر والآمن ليكفوا عن ارتكاب الأخطاء بحق بعضهم البعض. إن إنجازات الشعب الماروني تفوق عثراته، وفضائله الوطنية تفوق خطاياه السياسية. حول الموارنة الرهبان جماعة، والجماعة كنيسة، والكنيسة شعبا، والشعب وطنا، والوطن دولة. مع الحفاظ على إيمانهم وخصوصيتهم، تعايشوا مع أباطرة الرومان وملوك بيزنطيا وخلفاء المسلمين وأمراء الصليبيين وسلاطين العثمانيين. ناصروا الدروز في مشروع إمارة الجبل وتواثقوا مع السنة والشيعة في دولة لبنان. زرعوا روح الحرية في الشرق ومفهوم الشراكة في لبنان، فلا الحرية نبتت في الشرق ولا الشراكة أثمرت في لبنان. ماذا حصل بالتقدمية العربية؟ وماذا حصل بصيغة التعايش اللبناني؟ ورغم ذلك ما زال الموارنة يرفدون الشرق بنسائم الحرية والتطور، ولبنان بإرادة السيادة والاستقلال.

لذلك، قدر الموارنة اليوم أن يستحدثوا لبنان أكبر من لبنان الكبير: أكبر بالفكر والحضارة والمعرفة وريادة الأجيال وقدرة الصمود. لا تهمنا الجغرافيا بالمطلق، فنحن أبناء التاريخ. من ليس له تاريخ يفاخر بالجغرافيا. الموارنة يعتبرون الأرض مساحة وجود لممارسة إيمانهم وحرياتهم بأمن وسلام وانفتاح على محيطهم. أما غيرهم فيرون في الأرض مساحة توسع وحرب وهيمنة وفتوحات. وهذه مأساة الشرق، ولبنان استطرادا.

ولأن المارونية هي كنسية الصمود لا كنيسة العنف، فهي مدعوة إلى مشروع صمود جديد، وإلى تحويل جميع المصالحات الثنائية فعلا جماعيا يصب في استراتيجية مسيحية ولبنانية متكاملة تسمو على تعددية التموضع السياسي المرحلي لكل فريق ماروني. هكذا يوظف كل فريق ماروني علاقاته مع الآخرين أكانوا عربا أم فرسا أم دوليين في الخط الماروني التاريخي الذي يرفد حتما مصلحة لبنان السيد والمستقل.