المصباحي، ناطقا باسم الحداثة الرشدية

أرجع باحث وأكاديمي مغربي، عدم استفادة العرب والمسلمين من الثروة العلمية والفلسفية، التي أنتجها الفقيه والفيلسوف ابن رشد، إلى كون "المعدة العلمية" للحضارة العربية والإسلامية، كانت عاجزة عن هضم الرشدية، بسبب هيمنة ظلام التقليد والجمود، والانكفاء على الماضي، لحظة ظهور الرشدية.
وقال الدكتور محمد المصباحي، أستاذ الفلسفة الإسلامية بالعاصمة المغربية الرباط، والمختص في دراسة ميراث ابن رشد الفلسفي، إن الطاقة الحضارية نفدت في العالم العربي، في وقت ظهور الرشدية، مما جعل تلك الثروة تنتقل إلى الغرب، ويستفيد منها، باعتبارها وافقت لحظة نهوضه وصعوده. وأضاف الدكتور المصباحي قائلا "لقد أدينا الثمن غاليا نتيجة تخلينا عن الفلسفة، أي عن العقل، عن حرية البحث العلمي، عن احترام الإنسان".
وحين ووجه برأي المعترضين عن المدرسة الرشدية، بأنها لم تكن سوى ترديد للفلسفة الأرسطية، وأنه لم يكن لها طموح ولا قدرة على استنبات فلسفة خاصة في المحيط الثقافي الإسلامي، قال الدكتور المصباحي " أن يكون المرء في عز القرون الوسطى أرسطيا ليس تهمة، بل شرف له". وأضاف "هل نتهم من يكون حداثيا الآن بتهمة الحداثة؟، هل نتهم من يعجب بنيوتين، وأنشتاين، وهيدجر، وفتجنشتين، وهابرماس، بتهمة التقليد؟"
وقال "التهمة بالتعريف فعل مشين، يسعى مقترفه أن يخفيه عن الغير، مخافة العار. لكن الانفتاح على العلم والحكمة اليونانية، هو أعظم عمل قامت به الحضارة الإسلامية، وقدمته للإنسانية".
وأضاف أن ابن رشد "أبدع بكل المقاييس، ومن لا يستطيع أن يرى الأشياء الجديدة والعظيمة في واضحة النهار بمعايير الزمن، الذي وجد فيه المعني بالأمر، فعليه أن يعرض نفسه على جالينوس، فلعل مزاج بدنه ملوث، أو لعل روحه مصابة بلوثة". وقال "إن القدرة على رؤية الجديد ليست متاحة للجميع، فمرضى عمى الألوان كثيرون".
وقال الدكتور المصباحي، وهو رجل تقمص شخصية ابن رشد متنا وروحا وأفقا، وأخلص للعقلانية الرشدية وروحها إلى أبعد حد، إن "مسألة استنبات الفلسفة في الأرض العربية الإسلامية نجحت نجاحا باهرا، وأعطت قافلة رائعة من الفلاسفة الكبار والصغار، الذين أثرَوا الثقافة العربية والعالمية في نفس الوقت، وتركت لنا نصوصا خالدة، ما زالت تعطي قطوفا يانعة لحد الآن".
وأضاف أن "ترديد عقم العقل العربي أو السامي أو الإسلامي، روايةً عن مستشرقين غارقين في نزعة عرقية مريضة، تبحث عن الإبداع المطلق، إن هذا الترديد الفجّ، صار أمرا مثيرا للشفقة"، مشددا على "أنه ليست هناك أرضا خاصة بالفلسفة لا يملكها إلا عرق خاص، أو أن هناك ثقافة معينة، أو لغة محددة هي الأقدر على إبداع المفهوم، والنص، والرؤية الفلسفية، فكل الأراضي صالحة لاستنبات الفلسفة، لسبب بسيط، وهو أن الفلسفة لغة عالمية، لغة تخاطب الإنسان بما هو إنسان، لغة تنشد الحقيقة، وليست جهازا أمنيا للدفاع عن ملة أو عقيدة أو ثقافة".
وفي ما يلي نص الحوار مع الدكتور محمد المصباحي، الأكاديمي البارز وأستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة المغربية في الرباط.
* معروف عنكم أنكم مختصون في الفكر الإسلامي عموما، وفي فكر ابن رشد على الخصوص، لماذا هذا التركيز على فيلسوف قرطبة؟
- فعلاً، لقد عاشرت ابن رشد مدة طويلة قراءة وكتابة، هل البحث عن الحق في الوجود الفلسفي بالنسبة للثقافة العربية، هو الذي دفعني إلى هذا الاهتمام?، أم الحاجة إلى العقلانية في العالم العربي?، أم الشعور بالنقص الشديد في الاهتمام بابن رشد الفيلسوف، هو الذي جعلني أعكف على إعادة قراءة المتن في نصيته، حتى نعيد لابن رشد حقيقته الفلسفية؟ لا أستطيع أن أجزم.
ولكن يمكن القول إن هناك عوامل علمية وفكرية أو إيديولوجية تضافرت في بلورة هذا الاهتمام. وبالرغم من تقديري للمعاني الإيديولوجية لدراسة فيلسوف ومفكر كابن رشد، فإنني أعتقد أن جامعاتنا العربية هي في حاجة أكثر لإعطاء الأولوية للجانب العلمي، لأن هذه المعاني الإيديولوجية قد تحرك المدينة فترة من الزمن، قد تحرك الواقع السياسي لعالمنا العربي، بإعطائه مستندات وأسساً للذهاب بعيداً في مغامرة التنوير والحداثة، لكننا نعتقد أن حاجتنا أكثر لتأسيس تقليد فلسفي، من شأنه أن يشكل جبهة فكرية مع آخرين، لقطع الطريق للعودة بإنساننا إلى انحطاط القرون الوسطى المتأخرة.
جامعاتنا مازالت في غالب الأمر تستقبل إنتاجات الجامعات الغربية في مجال الدراسات التراثية، شأنها في ذلك شأن باقي المجتمعات العربية، التي تستورد كل شيء من الغرب. فعلينا أن نحاول على الأقل في هذا المجال أن نستعيد مبادرتنا العلمية، فنكون مصدرين للمنتوج الجامعي، هذا دون أن نغلق الباب أبدا أمام الاستيراد. فالعولمة واقع لا يرتفع، وعلى جامعاتنا أن تكون في مستواها. إن اللغة العربية، والفكر العربي، والأفق الحداثي العربي، يحتاج إلى تجديد لا يمكن أن يحصل بدون بحث علمي جامعي، يؤسس لأقوال تستثمر معارفه ورؤاه الجديدة.
* كيف يمكن فهم المفارقة التاريخية الغريبة: وهي أنه في الوقت الذي ينقطع فيه تأثير الفكر الرشدي في العالم العربي الإسلامي، ينهض قويا في أوروبا العبرية واللاتينية؟
- هناك مبدأ رشدي شهير استعمله خاصة في مجال نظرية العقل، يقول بما معناه أن تأثير شيء في آخر مشروط بأن يكونا من نفس الطبيعة الواحدة، أي في حالتنا هذه، أن يكونا من نفس الكثافة الثقافية والعلمية. والحال أن معدتنا العلمية لم تكن قادرة على هضم الرشدية، بسبب هيمنة ظلام التقليد والجمود، والانكفاء على الماضي.
لقد نفذت الطاقة الحضارية في العالم العربي في ذلك الوقت، هذه الطاقة التي تولدها خاصة معامل ومختبرات الجامعة. أقصد بالجامعة تلك المؤسسة الحرة والمستقلة، نسبيا عن الدولة، وعن الشريعة.. المؤسسة التي تسعى من أجل البحث، لا من أجل خدمة مصالح معينة وآنية لهذا الحاكم أو ذاك، أو لهذه الطائفة الإيديولوجية أو تلك.
لقد أدينا الثمن غاليا نتيجة تخلينا عن الفلسفة، أي عن العقل، عن حرية البحث العلمي، عن احترام الإنسان.. وهنا يجب أن نأخذ العبرة من سلوك ابن رشد. فقد كان هذا الرجل منزها عن العبث عندما انفتح على الفلسفة والعلم اليونانيين، وهو الفقيه ابن الفقيه، والقاضي ابن القاضي، لأنه كان يؤمن بأن العلم هو في نهاية الأمر نتيجة تراكم عالمي، ولذلك لا تستطيع الأمة الواحدة في الزمن الواحد أن تنتج علما من بدايته إلى نهايته.
كما أن ابن رشد كان يؤمن باستقلال مجال العلم عن مجال للشريعة، وأنه لا يمكن اقتباس هذا من ذاك، أو مزج هذا بذاك. إن تيار معارضة العلم كان ومازال هو الأقوى في حياتنا إلى اليوم، وهذا التيار ينطلق في معارضته الضارية للعلم، بأننا نستطيع أن نحل مشاكلنا اليومية، مشاكل تحدياتنا وإهاناتنا، بالاتكال فقط على القدرة الإلهية. هذا الموقف خطير لأنه يلغي الإنسان من حسابه، يلغي المسؤولية، ويقتل الهمة العلمية في عقلنا.
نعم، كان بعض العلماء في الماضي يشاركون في هذا المسعى الرديء، ولكن في زماننا هذا صار الأميون من كل حدب وصوب يفتون بتحريم العلم، بتحريم الحرية، بتحريم الحق في المساواة من دون خجل. لكن المشكل ليس في وجود من يعارض العلم والحضارة دائما في أمتنا من الأصوليين، وإنما هو في أن من يدافع عن العلم والحضارة لا يقوم بذلك بنفس الحمية والحماس، الذي نجده عند أعداء التقدم والتجديد.
المشكلة أنه لم يحدث في حضارتنا أن كان العقلانيون يشكلون الأغلبية في المعركة الحضارية الدائرة، وكان دعاة التقليد والجمود، الخائفين من البدعة والتجديد، هم الذين يستولون على عقول الجماهير والحكام، ويحرضونهم على التضييق على العلم والعلماء. لقد حان الوقت أن يوقَفَ هؤلاء عند حدهم، لأنهم جربوا مشروعهم التاريخي بما فيه الكفاية، ولم تجن منه الأمة إلا مزيداً من الذل والهزيمة والسفه.
* هناك من يتهم الرشدية بأنها ليست سوى ترديد للفلسفة الأرسطية، بدون طموح في الإبداع، ولا قدرة على استنبات الفلسفة في المحيط الثقافي الإسلامي، ما رأيك في هذا القول؟
- أن يكون المرء في عز القرون الوسطى أرسطيا ليس تهمة، بل شرف له. هل نتهم من يكون حداثيا الآن بتهمة الحداثة؟، هل نتهم من يعجب بنيوتين، وأنشتاين، وهيدجر، وفتجنشتين، وهابرماس، بتهمة التقليد؟ إن التهمة بالتعريف فعل مشين، يسعى مقترفه أن يخفيه عن الغير مخافة العار. لكن الانفتاح على العلم والحكمة اليونانية هو أعظم عمل قامت به الحضارة الإسلامية وقدمته للإنسانية.
أما ابن رشد نفسه، فقد أبدع بكل المقاييس، ومن لا يستطيع أن يرى الأشياء الجديدة والعظيمة في واضحة النهار بمعايير الزمن، الذي وجد فيه المعني بالأمر فعليه أن يعرض نفسه على جالينوس، فلعل مزاج بدنه ملوث أو لعل روحه مصابة بلوثة. إن القدرة على رؤية الجديد ليست متاحة للجميع، فمرضى عمى الألوان كثيرون.
أما عن مسألة استنبات الفلسفة في الأرض العربية الإسلامية فليعلم الجميع أنها نجحت نجاحا باهرا، وأعطت قافلة رائعة من الفلاسفة الكبار والصغار الذين أثرَوا الثقافة العربية والعالمية في نفس الوقت، وتركت لنا نصوصا خالدة ما زالت تعطي قطوفا يانعة لحد الآن. فما زالت جامعات الشرق والغرب تبحث فيها وتعثر على منجزات مدهشة في ميادين العلم والفلسفة. إن ترديد عقم العقل العربي أو السامي أو الإسلامي روايةً عن مستشرقين غارقين في نزعة عرقية مريضة تبحث عن الإبداع المطلق، إن هذا الترديد الفج صار أمرا مثيرا للشفقة. إضافة إلى ذلك، أعتقد أنه ليست هناك أرضا خاصة بالفلسفة لا يملكها إلا عرق خاص، أو أن هناك ثقافة معينة، أو لغة محددة هي الأقدر على إبداع المفهوم، والنص، والرؤية الفلسفية، فكل الأراضي صالحة لاستنبات الفلسفة، لسبب بسيط وهو أن الفلسفة لغة عالمية، لغة تخاطب الإنسان بما هو إنسان، لغة تنشد الحقيقة، وليست جهازا أمنيا للدفاع عن ملة أو عقيدة أو ثقافة. إن الفلاسفة ليسوا جنودا مدافعين عن شيء وراءهم، إنهم باحثين لأن الحقيقة أمامهم وليست وراءهم، وهذا هو بالضبط ما يزعج الأصوليين أعداء الحضارة والثقافة. وهذا هو بالضبط الدرس الذي استوعبه ابن رشد ونشره بين الناس، وتلقفه الغرب اللاتيني بعد فهم مغزاه البعيد المدى، ولم نفهمه نحن في الماضي وما زال البعض لم يفهمه إلى حد الآن. والنتيجة، أنه بعد أن تمت تصفية ابن رشد من قبل الذين يريدون استنباتا فجا للفلسفة، قتلوا العلم والفلسفة معا، بل وقتلوا الإنسان نفسه، وقتلوا معه إلهه، فتم سبيه واستعمار أرضه وتدمير حضارته في ذل لا يقارن. باختصار لا توجد سوى أرض واحدة لاستنبات الفلسفة هي أرض العقل، وهذه متاحة للجميع. أما قتلة العقل والحقيقة، الذين ينتظرون المدد من دون عمل علمي ولا عمل للتطوير والتجديد، فهم خطر على الأمة وعلى الإنسانية.
* نلاحظ أنكم تربطون بين ابن رشد والحداثة، ما مدى مشروعية هذا الربط؟
- لا يمكنني أن أنكر أن الربط بين الحداثة وفيلسوف ينتمي إلى عمق القرون الوسطى، ينطوي على مفارقة واضحة نبهت إليها فيما سبق. لكننا لو أخذنا في الاعتبار بأن الحداثة حداثات، أي أن لكل مجتمع أو فضاء ثقافي حداثته الخاصة به، لأدركنا أن مجرد رفع شعار ابن رشد في ثقافتنا، التي خرجت للتو من جراح الاستعمار ومن انحطاط القرون الوسطى المتأخرة وجمودها، يعتبر في حد ذاته تحديا كبيرا لدعاة الجمود وطغاته. نعم، لقد كانت الحداثة بوجه ما رد فعل في وجه العقلانية من النوع الرشدي، ولكن لو أخذنا بعين الاعتبار أن الحداثة - التي هي رديف للعقلانية والتنوير - كائن تاريخي متطور ومتعدد، لأدركنا أن في ابن رشد شيء من الحداثة التي نحتاجها اليوم: كالإيمان بالعقل والمعرفة العلمية، الإيمان برؤية للعالم وللوجود قائمة على الضرورة والسببية، وكتقدير قيمة الإنسان وإعطائه المكانة التي يستحقها... كل هذا يجعل ابن رشد أقرب منا ومن حساسيتنا الفكرية المعاصرة من أي مفكر آخر. كذلك علينا أن لا ننسى أننا محتاجون في زمن العولمة الذي يجرفنا إلى أفق نتحاور فيه مع الآخر، أفق يجعل هذا الآخر ينصت إلينا، نحتاج إلى لغة مشتركة تمكّننا من إيصال رسالتنا الحقة إلى الغير، وفي هذه الحالة يمكن لرجل مثل ابن رشد أن يكون نافعا لنا. ومع ذلك، علينا ونحن نقرأ ابن رشد أن لا نجعله يملأ علينا كياننا الفكري، فيمنعنا من الحركة. إن ابن رشد نفسه ينبهنا إلى أنه إذا كان يقول حقا وجب علينا اتباعه، وإذا لم يكن يقول حقا وجب علينا إعلان ذلك والبحث عن الحق في مظانه. والحال أن مسيرة الحق تطورت في آفاق مذهلة. أن نكون رشديين الآن معناه أن ننفتح على الحق أينما كان ومن أية جهة كانت.
* هل نستطيع أن نعتبر المصباحي ناطقا باسم "حداثة رشدية"؟
- لا بد من التذكير بملاحظة حول ما صار يعرف بـ"حداثة ابن رشد". فلا يمكن أن نعتبر ابن رشد سباقا لحداثة لم تحدث، الحداثة والرشدية ينتميان إلى زمنين مختلفين تمام الاختلاف. فزمن القرون الوسطى ليس بزمننا، ولغته ليست بلغتنا، ومقاصده الفكرية والعملية ليست بمقاصدنا. لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن الفلسفة يمكن أن تنطلق من أي شيء، لأن من طبعها المباغتة، فإن هناك في النص الرشدي أطروحات فلسفية، معالم نظرية، مؤشرات منهجية، إرهاصات رؤيوية يمكن أن تكون مادة خاما لمنطلقات فكرية جديدة، علماً بأن الموقف الرشدي ككل ليس موقفا حداثيا بالمعنى الحرفي لكلمة حداثة. بهذا المعنى يمكن أن نتكلم عن حداثة تحديث الرشدية. طبعا، إن وصف الحداثة يتحدد بالنقطة التي نوجد فيها من القدامة، فكما قلت في السابق عندما أتكلم عن ابن رشد بالقياس من النقطة التي أوجد فيها مواجها للأصولي الذي يرفض أية بدعة وأي تجديد في العلم والفلسفة والثقافة والحضارة، من حقي أن أعتبر النقاط المضيئة التي يتميز بها الفكر الرشدي معالم حداثية، لكن عندما أكون في نقطة مواجها أو قريبا فيها من حداثي أو ما بعد حداثي فإن الأمر يتغير.
* نلاحظ أنكم في الفترة الأخيرة شرعتم في الاهتمام بمحيي الدين ابن عربي، هل نفهم من هذا أنكم تحولتم من ابن رشد إلى ابن عربي؟ وما دلالات هذا التحول إن كان؟
- اهتمامي بابن عربي جاء نتيجة أمرين: أولا علاقته المفترضة والمعقدة بابن رشد، والتي حكاها لنا في الفتوحات المكية على شكل مقابلات، منها المباشرة وجها لوجه، ومنها غير المباشرة من وراء حجاب. فهذه المقابلات لا يمكن أن تترك المرء غير مبال بها. لقد بدت لي وكأنها مقابلات رمزية جرت في برزخ الخيال، برزخ الماهيات المعلقة. فقد اجتمعت في هذه المقابلات ما يمكن أن نسميه بمقامات العلاقة بين الفلسفة والتصوف : الشوق، المكر، السؤال، الجواب والجواب المضاد، الحيرة، الحجاب، الرؤية... الفشل، إن هذه المقامات أو المقولات، وبخاصة مقولة الفشل، هي التي حركتني للاهتمام بالشيخ الأكبر، لأن هذا الفشل - الذي يتحمّل ابن عربي وزره الأكبر، والذي أدى من جرائه الثمن غاليا كان على شكل رفض ابن رشد لمقابلته مرة أخرى - قد يحمل في طياته عبرة عدم فائدة الخوض في عملية التوفيق والخلط بين الحكمة والتصوف، لأنهما أصلاً غير قابلان للقاء، إذ شتان بين لغة الخيال والرمز ولغة العقل والبرهان. لكن فشل اللقاء قد يحمل معنى آخر، وهو أن الفلسفة معرضة للفساد، للموت، إذا لم تغادر أرضها إلى أراض أخرى لتنعش عروقها وتجدد طعم ثمارها. فالفلسفة بالتعريف هي القدرة على الانفتاح على تجليات الوجود، والتطلع إلى ما في المجالات الأخرى من رؤى وزوايا جديدة للنظر، لكي تخصب موضوعاتها وتجدد اهتماماتها وتختبر تجارب غيرها. ولا شك أن لنص ابن عربي دورا حاسما في هذا الاهتمام، لأنه متى شرعتَ في السباحة في بحره، لا يسمح لك بالخروج منه إلى شاطئ ما، لا لأن البداية فيه والنهاية متطابقتان، ولكن أيضا لأن النص الأكبري لا غاية له، ومن يبحث عن الغاية فيه لا يعول عليه!. إن نص ابن عربي نص مهيمن، نص قوي، يحمل تجربة لغوية ووجودية، تجربة عقلية ووجدانية، تجربة استدلالية وذوقية، تجربة برهانية وخيالية لا حدود لها. إن نص ابن عربي هو كالنص الوجودي تماما، يحيط بك لا إحاطة العقل ذي النظام الصارم، بل يقذف بك في عوالم الخيال فلا ترى في مرايا الوجود سوى نفسك. إنه دوران لولبي كلما شعرت بنفسك أنك قريبا من حضرة الحقيقة ابتعدت عنها. إنه نص لا غاية له، ولا بداية له، إنه النص الخليط الذي يمسك بتلابيبك، يقهرك، يسبيك في تيه لا قرار له. إني أشعر أحيانا أمام نص ابن عربي وكأنه ينتقم من ابن رشد، من الفلسفة، بعد أن رفض أن يقابله مرة ثانية. فالفلسفة لا تسمح إلا بمقابلة واحدة، أولى وأخيرة. إن التعاطي مع نص ابن عربي تجربة فلسفية أصيلة، لأنها تختبر قدرتك على التحرر من النص، والخروج منه بعد أن يكون قد أطبق عليك انطباق الحرير على دودة القز، للطيران من جديد في أجواء الحرية.
* هل نفهم من هذا، وهذا ما قلتموه سابقا، أن الجمع بين ابن رشد وابن عربي يمكن أن يكون مدخلا للحداثة؟
- إن فكرة الجمع بين الأفقين العقلي والخيالي، العلمي والرمزي، هو كما أشرت من إلهام ابن عربي نفسه، فهو الذي حكى لنا في كتابه الكبير الفتوحات المكية قصة استدراج ابن رشد الماكر له للقاء به، للتأكد مما إذا كان طريق التصوف يوصل إلى نفس الغاية التي ينشدها الفيلسوف.
لقد بدا لي أخيراً أن الجمع بين هذين الأفقين العقلي والخيالي هو أحد مطالب "حداثة" ما بعد الحداثة.
وبالفعل، لقد أدخلت الحداثة على عقلانيتها شيئا من المرونة، باتت معها لا ترى مانعا من الجمع بين العقلانية واللاعقلانية، بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، بين العلم وما بعد العلم، بين البناء والتفكيك، بين الحضارة واللاحضارة.
إن الأخذ بهذه المقاربة المرنة للأشياء من شأنه أن يعفينا من جملة من التشنجات والخصومات التي تمتلئ بها حياتنا بين أنصار العقل وأنصار النقل والتقليد. فإذا ما حققنا هذا أمكننا أن ننجز شيئا آخر أهم بالنسبة لولوجنا باب الحداثة، وهو المصالحة بين الفريقين، من أجل إنجاز الحداثة المنشودة.
من جهة أخرى، إذا عرّفنا فكر ابن عربي بأنه فكر الصورة والرمز، فكر الوجود الافتراضي المتحرر من أية إحالة ملزمة، فإن فكر "ما بعد الحداثة" لا يختلف عن فكر ابن عربي إلا بالغاية وبوسائل الإنجاز، وإلا فإن مدارهما واحد هو الصورة والرمز، وابتداع الوجود الافتراضي. في مقابل ذلك، إذا عرفنا فكر ابن عربي بأنه فكر العقل الحاسب، فكر العقل الفعال للمعرفة العلمية القابلة للتحول إلى أدوات تقنية، وتذكرنا بأن ما بعد الحداثة لم تؤسس عصر الصورة والوجود الافتراضي إلا بالعقل القائم على فكر الواحد والعدد، لأدركنا أنه بالإمكان الجمع بين الأفقين الأكبري والرشدي.
إن ابن عربي بجرأته الخلاقة، برؤيته المذهلة، قد يجعلنا أكثر كفاءة للحوار مع الثقافة الغربية المعاصرة، إذا ما استطعنا استيعابه، لا في جانبه الطرقي (ومن حسن الحظ أنه لم يترك لنا طريقة، وإنما فتح لنا طريقا)، ولكن في الجانب الذي أظهر فيه قدرة هائلة على الانفتاح على عوالم وعقائد وثقافات ومقاربات ومناهج الآخر.
إن ما يعلمنا ابن عربي إياه هو عدم السقوط في الانغلاق والدروشة، يعلمنا أن يكون قلبنا كبيرا ليسع الوجود بكل تجلياته، يعلمنا أن يكون لنا قلب متقلب سريع التكيف مع حضرات الوجود المتغيرة في كل حين وكل مكان.. يعلمنا أن نعترف بالآخر، مهما كانت ضآلة إسهامه، مهما كانت عقيدته، لأن الجميع يؤم شيئا واحدا في نهاية الأمر.
أقول هذا دون أن أتخلى عن الطريق الملكي لكل تفكير نفاذ، ولكل حضور قوي، طريق العقل والعقلانية، طريق ابن رشد، الذي أمّ نفس الشيء، عندما خاطب كافة الإنسانية بقلب كبير، عندما قال بأن الفلسفة كائن حي معرض، كأي كائن حي آخر، للحياة والموت مرات عديدة، لكن الفلسفة لا تفسد تماماً مادام الإنسان موجودا، وإنما تنتقل من أمة إلى أخرى. لهذا على الفيلسوف في نظره أن يخاطب الإنسان في شموليته، لا إنسانا محددا بانتماء زمني وثقافي معين.(ق.ب.)
سيرة ذاتية
- الاسم: محمد المصباحي
- تاريخ ومكان الولادة: مدينة القصر الكبير المغربية عام 1945.
- حاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة.
- يشغل الآن منصب أستاذ التعليم العالي بشعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالرباط.
- درّس في التعليم الثانوي بين عامي 1967 و1977.
- عمل أستاذا مساعد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس بين عامي 1977 و1993.
- شغل منصب رئيس شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس بين عامي 1986 و1988.
- عمل أستاذا للتعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس، الرباط منذ عام 1993.
- شغل منصب رئيس وحدة البحث والتكوين: "فضاءات الفكر في الحضارة العربية الإسلامية" بين عامي 1998 و2002.
- عضو مكتب الجمعية الفلسفية المغربية.
- عضو جمعية تاريخ الفلسفة والعلم العربيين (S.I.H.S.P.I.)، في باريس (فرنسا).
- عضو الجمعية الدولية لفلسفة القرون الوسطى، بروكسيل (بلجيكا).
- عضو في الجمعية الفلسفية العربية، في عمان (الأردن).
الإنتاج الفكري
* الكتب المنشورة
1- إشكالية العقل عند ابن رشد.
2- دلالات وإشكالات.
3- بحوث في الفلسفة العربية الإسلامية.
4- من المعرفة إلى العقل: أبحاث في نظرية العقل عند العرب.
5- تحولات في تاريخ الوجود والعقل: بحوث في الفلسفة العربية الإسلامية.
6- الوجه الآخر لحداثة ابن رشد.
* تحت الطبع :
- الوحدة والوجود عند ابن رشد.
- الوحدة والماهية عند ابن رشد.
- نظرية الخيال في الحضارة العربية الإسلامية.
- له العديد من المقالات والدراسات حول موضوع اختصاصه، كما شارك في العديد الندوات في المغرب وأمريكا وتونس والجزائر وإسبانيا وإيران ولبنان والكويت والبحرين ومصر.