المعادلة السورية الجديدة

التصعيد بين ايران وإسرائيل، عبر سوريا، يمكن ان تكون له عواقب وخيمة في مرحلة معيّنة.

يؤكد ما يجري في سوريا حاليا ان الحرب هناك ما زالت مستمرّة، بل دخلت مرحلة جديدة مختلفة. من يراهن على ان النظام استطاع إعادة تأهيل نفسه، انّما يراهن على وهم، فضلا عن انّه يثبت ان لا علاقة له بما يدور على الأرض وما حصل منذ العام 2011.

هناك تغيير حصل. هناك تغيير في العمق ادّى الى طرح سؤال في غاية البساطة لم يعد هناك مفرّ من طرحه. هذا السؤال هو هل يمكن إعادة تركيب سوريا، أي ما كان يسمّى الجمهورية العربية السورية في ظلّ صيغة جديدة لا يزال البحث عنها جاريا؟

ما كشفته الغارات الإسرائيلية الأخيرة في دمشق ومحيطها وما رافقها من اعلان رسمي عن هذه الغارات يعني الكثير. انهّ يعني خصوصا، في ضوء اعلان الرئيس دونالد ترامب عن انسحاب عسكري أميركي من شرق الفرات، ان اسرائيل صارت اكثر عدائية ووقاحة. تريد إسرائيل تأكيد انّها معنية مباشرة بأي ترتيبات في الجنوب السوري، مستقبلا، وان ايران لن تستطيع في الذكرى الأربعين لانتصار الثورة فيها وسقوط الشاه التبجح بان صواريخها صارت على مرمى حجر من الجولان مثلما هي موجودة في لبنان عبر "حزب الله".

اكثر من ذلك، هناك قواعد جديدة للعبة الدائرة في سوريا. هذه القواعد مبنية على تفاهمات بين إسرائيل وروسيا التي أعلنت بعد سقوط طائرة "ال- 20" في أيلول – سبتمبر الماضي عن نشر شبكة صواريخ "اس. اس – 300" للحد من هامش المناورة لدى سلاح الجوّ الإسرائيلي. ليس مستبعدا ان تكون هذه التفاهمات ثمرة اجتماعات عقدت أخيرا بين ضباط روس واسرائيليين بهدف طي صفحة الماضي القريب.

ليست شبكة الصواريخ الروسية هذه وحدها التي صارت جزءا من الماضي. يبدو انّ الإعلان عن نشر هذه الصواريخ في سوريا كان جزءا من حملة روسية ذات طابع داخلي ليس الّا. كان مطلوبا، بعد سقوط طائرة الاستطلاع والتجسس الروسية ومقتل كلّ من فيها بصاروخ سوري تسببت باطلاقه غارة إسرائيلية، التوجه الى الداخل الروسي وظهور الكرملين في مظهر الغاضب من إسرائيل.

ما صار جزءا من الماضي أيضا هو قدرة إدارة ترامب على وضع استراتيجية خاصة بسوريا. تبيّن بكل وضوح انّ لا استراتيجية أميركية في سوريا وان اللاعب الاهمّ في سوريا، بالنسبة الى إدارة ترامب، هو اللاعب الإسرائيلي، إضافة في طبيعة الحال الى كلّ من روسيا وتركيا التي وضعت يدها على جزء من الشمال السوري والتي لا تزال عينها على حلب في المدى الطويل. باختصار شديد. استراتيجية اميركا في سوريا هي استراتيجية إسرائيل.

بكلام أوضح، اين ستجد ايران مكانا لها في ظلّ المعادلة الجديدة التي تسبب فيها الاعتراف الاميركي بغياب استراتيجية في سوريا؟ الأكيد ان خلطا للأوراق حصل في سوريا. تغيّرت أمور كثيرة في الفترة الأخيرة. بين ما تغيّر عودة العلاقات الى طبيعتها بين روسيا وإسرائيل وإعلان الولايات المتحدة بطريقة غير مباشرة انّها تعطي اسرائيل الضوء الاخضر لعمل ما تريد عمله في سوريا، إضافة الى استعدادها لدعم أي خطوة تقدم عليها اسرائيل. وهذا يفسّر الى حدّ كبير مباشرة المسؤولين الإسرائيليين الإعلان رسميا عن الغارات التي تستهدف مطار دمشق ومحيطه ومناطق أخرى قريبة من العاصمة السورية. كان هناك حرص إسرائيلي في الماضي على تفادي اعلان المسؤولية عن الغارات في الداخل السوري. أصبحت إسرائيل في المرحلة الراهنة اكثر وضوحا، خصوصا عندما يتعلّق الامر بالوجود الايراني في سوريا.

تطرح المرحلة الجديدة التي دخلتها الحرب السورية نوعا مختلفا من الأسئلة. لعلّ السؤال الاهمّ هو المدى الذي ستصل اليه المناوشات الدائرة بين إسرائيل وايران في الجنوب السوري؟ هل يمكن ان تتطور الى مواجهة شاملة قد تمتد الى لبنان... ام هناك مجال لتفاهمات إيرانية – إسرائيلية؟ لا جواب واضحا حتّى الآن، لكن الثابت ان التصعيد بين ايران وإسرائيل، عبر سوريا، يمكن ان تكون له عواقب وخيمة في مرحلة معيّنة.

في كلّ الأحوال، ما لم يتغيّر في سوريا هو وضع النظام. تبيّن ان النظام صار جزءا من الماضي وانّ الهمّ الوحيد لبشّار الأسد هو البقاء في دمشق والاشراف منها على مرحلة أخرى قد لا تكون الأخيرة من عملية تفتيت سوريا. ليس امام النظام الذي لا يمتلك أي شرعية من ايّ نوع سوى لعب دور شاهد الزور في عملية القضاء على سوريا التي عرفناها والتي ذهبت ضحيّة حزب البعث وانقلاب الثامن من آذار – مارس 1963 والنظام الاقلّوي الذي أقامه حافظ الأسد، وهو نظام قائم أساسا على المحافظة على حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة... فضلا بالطبع عن ابتزاز العرب الآخرين عن طريق لعبة ممارسة الإرهاب وضبطه في الوقت ذاته.

ما لم يتغيّر أيضا وجود أطماع تركية في سوريا. ليس معروفا بعد ما الذي ستسفر عنه الاتصالات المستمرّة بين انقرة وواشنطن في شأن مستقبل الوجود التركي في سوريا وكيفية التعاطي مع الاكراد. الثابت ان تركيا صارت موجودة بشكل دائم علي جزء من الأراضي السورية وهي تنتظر الوقت المناسب كي تتمدّد اكثر، خصوصا في السنوات القليلة المقبلة. ستجد تركيا نفسها قد تحررت من قيود المعاهدات الني وقعتها بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية. تعتقد ان لديها مجالا حيويا تستطيع التحرّك في اطاره ان في سوريا او في العراق. عينها على حلب وعلى الموصل أيضا.

هناك غياب أميركي يقابله مزيد من التورط الإسرائيلي في ظلّ تفاهمات مع روسيا. هناك أيضا سياسة تركية اكثر عدائية تأخذ في الاعتبار المصالح الروسية. هناك أخيرا نظام يرفض الاعتراف بانّه افلس وان الرهان على ايران أحيانا وعلى روسيا في أحيان أخرى لن يفيده في شيء في المدى الطويل.

كلّ ما يمكن قوله انّ الحرب السورية دخلت مرحلة جديدة مختلفة كلّيا مفتوحة على كلّ الاحتمالات، بما في ذلك المواجهة الشاملة بين إسرائيل وايران في حال إصرار الأخيرة على البقاء في سوريا بحثا عن صفقة مع "الشيطان الأكبر". المشكلة ان "الشيطان الأكبر" غير مهتمّ بصفقة مع روسيا في سوريا، لماذا يقبل صفقة مع ايران هناك بعدما اوكل سوريا، اقلّه جنوبها، الى اسرائيل؟

لم يتغيّر شيء في سوريا سوى بالنسبة الى اللبنانيين السذّج الذين لا يعرفون شيئا لا عن ايران ولا عن "حزب الله" والذين اشتاقوا الى القمع الذي مارسه النظام السوري طوال سنوات طويلة في لبنان.

هؤلاء اشتاقوا الى من يسترضونه لعلّ ذلك يوصلهم الى موقع رئيس الجمهورية في السنوات القليلة المقبلة. هذه لعبة عفا عنها الزمن بعد دخول المنطقة كلّها مرحلة انتقالية لم يعد مصير سوريا وحده مطروحا خلالها.