المعركة الحاسمة في ليبيا

لن تصل ليبيا إلى الهدوء والاستقرار من دون مؤسسة عسكرية موحدة قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية على جميع الجبهات.

لم أستطع مقاومة إغراء الكتابة عن العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي في طرابلس، فقد هالني حجم المغالطات التي يرتكبها بعض السياسيين لتعويم الميلشيات ومحاولة منحها شرعية جديدة، وقد تصوروا أن الدفاع عن الإرهابيين ووضعهم في كفة مقابل مؤسسة عسكرية نظامية يحفظ لهم مصالحهم مستقبلا.

الرسائل التي بعث بها لقاء الرئيس عبدالفتاح السيسي مع المشير خليفة حفتر قائد القوات المسلحة الليبية، الأحد الماضي، أصابت أهدافها مباشرة، وأكدت على ضرورة التعجيل بالتخلص من الميلشيات، لأنها تعرقل الوصول إلى دولة مدنية، وتمثل خطرا على الأمن الإقليمي. كما أن تمترس عناصرهم في طرابلس سوف يجذب إليهم أقرانهم في بعض دول الجوار التي تريد قياداتها التخلص من متشدديها.

التجاهل المتعمد لأغراض المعارك التي يخوضها المتطرفون، وتوجيه الانتقادات للمشير خليفة حفتر، يرمي إلى التغطية على حقيقة الدور الذي يقوم به هؤلاء لصالح بعض الأطراف الإقليمية والدولية، ويمنح الإرهابيين فرصة لاستعادة زمام المبادرة بعد وصول شحنات من الأسلحة إليهم، من تركيا وقطر، تحمل معدات مختلفة، بينها صواريخ ستينجر الأميركية المحظورة، وسفينة محملة بالألغام مؤخرا، لنشرها على بعض الطرق الرئيسية لمنع المزيد من تقدم الجيش الليبي.

عملية طرابلس فرضتها ظروف أمنية ملحة، ولو تأخرت القوات الوطنية قليلا في مواجهة الإرهابيين لكان الليبيون يجدون أنفسهم أمام واقع أشد ضراوة، فقد تحولت العاصمة إلى قبلة لكثير من القيادات القادمة من سوريا، على أمل أن تصبح مركزا بديلا لجمع فلول المطاردين وتنظيمهم بما يعيد الاعتبار لمشروعهم الذي فقد جانبا من بريقه لدى قوى دولية احتضنتهم ووفرت لهم ملاذات آمنة.

عندما يتمكن هؤلاء من إحكام سيطرتهم لن يصفحوا عن الشخصيات التي تتصدر مشهد الدفاع عنهم حاليا، وتجهد نفسها في البحث عن مخرج سياسي، وسوف يتحولون إلى هدف سهل للمتشددين، لأنهم ينظرون إليهم كعملاء من الضروري محاسبتهم على أفعالهم، ولن تشفع لهم التضحيات التي قدموها من أجل رعايتهم في طرابلس والاغدقاء عليهم بسخاء.

التعويم السياسي يأخذ أشكالا ملتوية في ليبيا، أبرزها تصوير الأمر على أن هناك عملية عسكرية في طرابلس تدور رحاها بين قوات تابعة لحفتر وأخرى تابعة لحكومة الوفاق، لصرف الأنظار عن طبيعة الدور المحوري الذي تقوم به العصابات المسلحة، والتفرقة بين الجيش الوطني الليبي والمشير حفتر لنزع الغطاء الشرعي عنه لصالح الإرهابيين.

القوات المسلحة الليبية تقدمت على جبهات كثيرة وأصبحت تحظى بشرعية دولية، وقائدها يتم التعامل معه في وضح النهار من قبل رؤساء وزعماء دول عدة، ولها الآن هيكل مؤسسي معروف، وقيادة عامة ورؤساء أفرع، وتضم أطيافا مختلفة من أبناء الشعب، وينضوي تحتها ضباط وجنود من جميع المناطق الليبية، ولا تريد إهدار الفرصة المواتية لتكوين جيش قوي قادر على الدفاع عن الأمن القومي للبلاد، وصد المخاطر التي يجلبها تكاثر خلايا داعش والقاعدة ومن يلتحفون ثيابا سياسية من التنظيمات المؤدلجة.

التفاصيل الرئيسية للتطورات العسكرية تؤكد أن المتطرفين والدول التي تدعمهم يعلمون أنهم يخوضون معركتهم الأخيرة في المنطقة، فإما النصر أو المقصلة، بعد أن جرى فضحهم وتتعثر عملية تسللهم عبر المؤسسات الرسمية، ويقاتلون بشراسة ويتصدرون الصفوف الأمامية، لأن خسارتهم في طرابلس تعني طي صفحتهم لعقود قادمة، ولذلك ربما يحتاج الجيش الليبي بعض الوقت لتخليص العاصمة من قبضة الإرهابيين وجيوبهم الخفية.

التجاوزات التي ارتكبتها غالبية القوى السياسية والبعثة الأممية لم تترك للجيش فرصة للتعامل بمزيد من الليونة بعدما ضجر الناس من حكم الميلشات، الذي أفقدهم المقومات الأساسية للدولة. فقد أدى التلكؤ في تنفيذ الترتيبات الأمنية التي أقرت في سبتمبر الماضي إلى تصاعد خطر المسلحين، حيث فهموا أن عدم تخصيص المساعدات المادية اللازمة لوزارة الداخلية لحل قواعدهم يعني بقاء الاعتماد عليهم. وقاد التلكؤ في تغيير محافظ المصرف المركزي ورئيس المؤسسة الليبية للنفط إلى ضمان تدفق الأموال إليهم بلا هوادة.

التركيز على الملتقى الجامع المجمد حاليا بدا كأنه مشروع شخصي للمبعوث الأممي غسان سلامة، الذي نجح بإمتياز في تفريغه من مضامينه الوطنية، وحاول جره إلى مكونات إسلامية طاغية، وكان الإصرار على انعقاده دون توافر الشروط الموضوعية دافعا قويا لتحرك الجيش الوطني للحسم وكي لا تفضي هذه الخطوة إلى واقع يشرعن وضع الميلشيات، فلا يمكن لدولة أن تقوم على أكتاف إرهابيين وقطاع طرق وتجار مخدرات وذوي مصالح آنية.

تفاهمات أبوظبي بين حفتر والسراج، في فبراير الماضي، قدمت هدية جيدة للخروج من عنق الزجاجة، لكن مماطلات بعض الأطراف حالت دون ذلك، وفوتت عملية دمج التفاهمات في الملتقى الجامع الفرصة على جني ثمار هذا التحرك، ثم يأتي المتسببون في الضياع للبكاء عليها للتغطية على تقاعسهم ومراوغاتهم السياسية، وتحميل جهة واحدة المسئولية.

الجيش الليبي يقوم بخطوة جادة الآن لتطهير البلاد من الفوضى، فلن تستقيم الأمور السياسية مع خضوع الجهات المدنية لتعليمات تأتي إليها من قادة كتائب مسلحة وجماعات مؤدلجة. ولن تصل ليبيا إلى الهدوء والاستقرار من دون مؤسسة عسكرية موحدة قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية على جميع الجبهات.

المثير أن بعض الشخصيات تتحدث الآن عن هدنة إنسانية، أو بمعنى أدق هدنة لالتقاط الأنفاس عقب الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها العصابات الإرهابية. أين كان هؤلاء عندما احتجزت الميلشيات أعدادا كبيرة من الناس؟ ولماذا صمتوا عن الانتهاكات التي ارتكبت على مدار السنوات الماضية؟ وهو ما تشهد به تقارير منظمات حقوقية دولية محايدة تحدثت عن عنف ممنهج ومجازر واسعة طالت الكثير من المواطنين.

تبسيط الأزمة ومحاولة اختزالها في البعد الإنساني وكفى دغدغة لمشاعر المجتمع الدولي من قبل البعثة الأممية، وحرفها عن السبيل الصحيح، ويدخل ليبيا في دروب ودهاليز جديدة، ويمنح الجناة وقتا لإعادة ترتيب أوراقهم، بينما المطلوب من جميع الأطراف الدولية أن تقف على مسافة واحدة من القوى المتباينة، وتعيد النظر في توجهاتها المرتبكة لأنها قد تكون مقدمة لحرب أهلية تضر بمصالحها لاحقا، وعليها أن تتكاتف لمساعدة القوات المسلحة الليبية لتخليص المنطقة من كابوس مرعب.