المغرب.. من السّلفية الوطنية إلى السّلفية التّكفيرية

الإصلاح الديني تجاوز سؤال النّهضة والتخلّف إلى الإصلاح السّياسي بما فيه الجواب عن سؤال السّلطة في الإسلام وإصلاح نظم الحكم المستبدة التي تعد عاملا من العوامل المؤثرة حينذاك في الوضعية التي وصل لها العالم العربي.

 بقلم:  يوسف هريمة 

 مشكلة هذا الإنسان أنّه دوماً يبحث عن شروط تخلّفه وانحطاطه بعيداً عن ذاتيته، ربّما لأنّ القداسة التي يحيط بها ثقافته، أو مرجعياته الفكرية تمنعه من إحداث أيّ جروح نرجسية يصرّ الإنسان على سترها مهما استطاع لذلك سبيلا. وربّما لأنّنا مهووسون بالغير والآخر إلى الحدّ الذي يتحوّل فيه "الآخر" إلى صُداعٍ أبدي يستحيل التخلّص منه. إنّه ذلك الجحيم الذي نعيش فيه، ولأجله غير آبهين بما تسقطنا فيه أحكامه ورؤاه وتصوّراته. ربّما هذا أو ذاك من الأسباب العديدة لمظاهر تخلّفنا تجعلنا نقف أو نستوعب لماذا نهتمّ ونتجرّأ على مقارعة الآخرين وتتبّع عيوبهم ومظاهر تخلّفهم، دون أنْ تكون لنا الحماسة نفسها في قراءة ذواتنا، أو الإشارة إلى ما يمكن أنْ يكون سبباً في قتل مسيرتنا، أو توقّفها، أو انحراف مساراتها، إلى حيث يستوجب أنْ نفتح عيوننا بدل إغماضها.

يرى إدريس هاني بأنّ دراسة دور علماء الدّين باعتبارهم مسؤولين على التخلّف والانحطاط، لا ينفي أنّ هناك عوامل أخرى تخفي الطّبيعة البنيوية لمجتمعنا المغربي. وهذا يحيلنا إلى ما أشار إليه مصطفى حجازي، إذ التخلّف هو خصائص وشروط موضوعية تبدأ من الإنسان، وتنتهي إليه لخّصها مصطفى حجازي في جانين اثنين: اضطراب منهجية التّفكير من جهة، وقصور الفكر الجدلي من جهة أخرى. وبالجمع بين الخللين، يمكننا أنْ نخلُص أنّ هناك عجزا تامّا للكائن الإنساني على الإمساك بواقعه، وهنا ينزع إلى سحرية العالم، عبر تفسيرات وتأويلات تنحو إلى فهم كلّ شيء متعلّق بالطبيعة بطريقة تضفي على تلك الظّواهر طابع السّحرية، أو ما يسمّيه داوكينز بالسحر الخارق ومثاله ما نجده في روايات الأساطير والجانّ.

لم يقف الإصلاح الديني عند هذا الحد، بل تجاوز سؤال النّهضة والتخلّف ومواكبة التطوّر العلمي، إلى الإصلاح السّياسي بما فيه الجواب عن سؤال السّلطة في الإسلام، وإصلاح نظم الحكم المستبدة التي تعد عاملا من العوامل المؤثرة حينذاك في الوضعية التي وصل لها العالم العربي.

مثَّل الإصلاح السياسي رديفا للإصلاح الديني نتيجة عاملين أساسيين: الأول: السلطة الاستبدادية التي كانت تمثلها الدولة العثمانية، والثاني: نموذج السّلطة الذي أفرزه الإصلاح السياسي بالعالم الغربي. شكَّل هذا العنوان الإصلاحي بداية لثورة على مجموعة من المفاهيم المرتبطة بالجانب السياسي، لهذا فالبحث في قضية الدولة ظل ولا زال مثيرا للجدل، خاصة في مجتمعاتنا. من جهة، لأنه موضوع حساس في دراسته. وأيضا لتركيبة المجتمع الإسلامي المعقدة من جهة أخرى. هنا بدأت المقارنة بين أنظمة الحكم الغربية وما تحتويه من قيم موجودة في الإسلام، حيث تمت مقارنة نظام الشّورى الإسلامي مثلا بديمقراطية الغرب، وإن اختلفت الأشكال والأوجه، ولم يخفِ الكثير من رواد النّهضة العربية تحمّسهم لهذا النموذج. فهذا جمال الدين الأفغاني يقول: "انظروا إلى العالم الغربي ترونه على تقسيماته الحاضرة واستقلال عناصره بمميزاتهم القومية، لما تساووا على الوجه النسبي بالفضيلة وأهمها العلم بالواجبات، سواء كانت لهم ومعرفة وجوه المطالبة بها أو عليهم والمسارعة لأدائها انتفى من بين ظهرانيهم أمد التفرد بالسلطة وسوق الأمة على هدى السلطان".

لا بدّ من الإشارة هنا أيضاً إلى أنّ موت جمال الدّين الأفغاني مثل النّقطة المركزية في تراجع الفكرة النّهضوية، حيث تمّ التراجع على كلّ المكتسبات. هذا التّراجع بدأ مع محمد عبده، لكنّ ملامحه تشكّلت مع رشيد رضا، الذي انفتح بشكل كلي على التيار الوهابي. وهنا لا بدّ من استحضار ما ذكره أحمد صبحي منصور الذي عزى نشأة الإخوان المسلمين في مصر، إلى الثنائي حافظ وهبة ومحمد رشيد رضا؛ فالأول كان وسيطاً وراسماً لسياسات عبد العزيز، ومن هنا كان لا بدّ من اختراق العمق المصري، عن طريق تحويل التديُّن المصري الشعبي، من تدين سُنِّي صوفي إلى تديُّن سُنِّي وهّابي، ليكُون العمق المصري امتداداً لسياسات الدولة السعودية الثالثة. وعن طريق محمد رشيد رضا تسلَّلَتْ الوهابيّة إلى مصر عبر الطرق التالية:

لم تعد الحركة الإسلامية اليوم قادرة على إنتاج جيل من الرّواد كما تسنّى لها ذلك في ما مضى خاصة في المغرب، حيث إنّ غالبية من تربّى داخل هذه الأوساط، تأثّر بكليشهات للجيل الحركي المؤسّس، خاصّة رسائل حسن البنّا، وحياتي لزينب الغزالي، وجند الله لسعيد حوى، ومعالم في الطريق لسيد قطب. وغاب تأثير الجيل الأوّل من السّلفية الوطنية كمظاهر اليقظة للمنوني، أو النّقد الذاتي لعلال الفاسي، وغيرها من الأعمال. كان الجيل السّابق من السلفيين الوطنيين مهووسين بفكرة النّهضة. أمّا الجيل الحالي من الحركيين، فهم مهووسون بفكرة السّلطة، وهنا المفارقة. لم يكن هذا الجيل على شاكلة واحدة، فمنهم من آثر العمل مع سلطات الحماية، وساهم بكلّ ما لديه من قوة في ترسيخ التّحديث والإصلاح من داخل واقع الاحتلال كالحجوي الثعالبي، ولعلّ عمله الفكر السّامي دليل على ذلك. لكنْ رغم كلّ النواقص، وكلّ الاعتراضات يبقى جيل السّلفية الوطنية، جيلاً وفيّاً لصورة العالم الدّيني، والسياسي المحنّك، والعارف بخبايا السّلطة، قبل أنْ يتحوّل هذا المدلول الرّمزي لصورة العالم والفقيه، إلى صورة أخرى، أريد لها أنْ تنسف كلّ هذا الجهد الفكري، خاصّة إذا استحضرنا ما قاله إدريس هاني من كون دور العلماء في المغرب، كان دوما دوراً لا يفي للثّيوقراطية ولا للائكية: "والتواسط هنا من مكر الرمزي لا من مكر التاريخ". فكيف انحرفت الفكرة النهضوية من هذا الفكر المؤسّس إلى فكرٍ شعبوي أحرق كلّ هذه التراكمات؟

نُشر في صفحة مؤمنون بلا حدود

مختصر بحث:"من السّلفية الوطنية إلى السّلفية التّكفيرية: إدريس هاني قارئاً التّراجع الدراماتيكي لزمن النّبوغ المغربي"