المفكر الذي قال لا كهنوت في الإسلام فقتلوه

محمود طه: إن عصور انحطاط المسلمين هي وحدها من شهدت ظاهرة من يسمون أنفسهم رجال الدين التي تقترب من الكهنوت وهي ظاهرة ماتزال قائمة تحت دعوى حماية الدين.

 بقلم: أمينة النَّقاش
في الثامن عشر من شهر يناير الماضي، مرت الذكرى الرابعة والثلاثون لإعدام المفكر الإسلامي الصوفي محمود محمد طه 1909 -1985الذى يعد واحدا من أبرز المجددين في الفكر الديني، ومن أكثرهم اهتماما بقضية تطوير التشريع الإسلامي، ليتوافق مع تطورات العصر، وبما يجعله قادرا على مواجهة المشكلات الطارئة التي تواجه المسلمين في حياتهم المعاصرة. وربما من أجل ذلك تم إعدامه، بعد أن مثل نقيضا لحالة الدروشة الدينية التي تلبست الرئيس السوداني الأسبق «جعفر نميري» في آخر أيام حكمه، وقادته إلى رفض كل المناشدات الحقوقية العربية، لوقف تنفيذ حكم الإعدام في المفكر الكبير.

وفي كتابه البديع «القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري» فند ملاحظات عابرة كان يكتبها في مجلة صباح الخير مصطفى محمود، ثم جمعها في كتاب تحت عنوان «القرآن محاولة لفهم عصري». وفيه وصف الكتاب بأنه يؤرخ لتحول في الفكر الإسلامي في الشرق العربي، لا لأنه كما يقول «كتاب جيد» ولكن لأنه كتاب جريء، وليست الجرأة على الخوض في أمر من أمور الدين بمحمودة على كل حال، ولكنها إنما حمدت في هذا المقام، لأنها تمثل ثورة على الجمود الفكري، والعقم العاطفي الذي ضربه حول الدين، من يطيب لهم أن يسموا أنفسهم رجال دين. فقد جمد هؤلاء الدين، وحجروه، في عصر اتسم بالسيولة، واحتشد بالحركة والحيوية والتجديد، فلم يبق سبيل إلى الانعتاق من أسر جمودهم غير الثورة، فلا كهنوت في الإسلام.

ويشير محمود طه إلى أن عصور انحطاط المسلمين، هي وحدها من شهدت ظاهرة من يسمون أنفسهم رجال الدين التي تقترب من الكهنوت، وهي ظاهرة لاتزال قائمة تحت دعوى حماية الدين، وهو هنا يدعو إلى أن المسلم الحق الذي يجسد قيم الدين السامية والفاضلة هو وحده من يحمي الدين، بما ينطق به لسانه قبل لسان غيره.

وبرغم من أن المفكر محمود طه قد وصف كتاب مصطفى محمود بأنه مجرد خواطر عابرة فجة، وينطوي على شطط الإفراط في القول بغير علم في أدق أمور الدين، هذا فضلا عن أن البشرية لا تحتاج إلى تفسير القرآن، بل تحتاج إلى تأويله، إلا أنه ثمن عاليا بضمير عالم، اجتهاد المؤلف، وشجاعته التي تصل إلى حد الثورة على التزمت والجمود.

في عام 1967 أصدر محمود طه كتابه الهام «الرسالة الثانية من الإسلام». والكتاب المذكور ينطوي على رؤية شديدة الاستنارة لخدمة تطوير التشريع الإسلامي. فهو يذهب في الكتاب إلى أن الإسلام قد جاء برسالتين، الأولى أوحى بها إلى الرسول في المدينة وتتضمن فروع القرآن الكريم، التي يتوجه بها النص إلى المؤمنين والمنافقين، مثل «يا أيها الذين آمنوا» و «وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض» وغير ذلك. وكانت الثانية في مكة، ويتوجه فيها النص إلى البشر جميعا في أنحاء الكون، كما في «يا أيها الناس» وفى «يا بنى آدم». وينتهي محمود طه إلى القول، أن التشريع الذي استند إلى الرسالة الأولى لم يعد صالحا لعالم اليوم، لأنه كان مُنَزَّلًا في الظروف التاريخية والاجتماعية التي سادت المدينة في القرن السابع الميلادي.

يأتي الكتاب إلى جوهر دعوته الحداثية والتجديدية، حين يؤكد المؤلف بالبرهنة من النصوص، أن الإسلام الصحيح هو في الآيات المكية التي تستند إلى أصول القرآن، وبها يكمن جوهر الدين الإسلامي وروحه وقيمه العليا التي تدعو إلى حفظ كرامة الإنسان وصون حياته، وإلى الرحمة والتسامح، وإلى المساواة بين المؤمن وغير المؤمن، إلى الحرية والعدالة، ومنها ينبغي التشريع بما يتوافق مع مقتضيات التطور في القرن العشرين.

تربصت قوى من سماهم «محمود طه» بجماعات الهوس الديني بكتبه، أفكاره وحياته نفسها ومبادئ الحزب الجمهوري الذى أسسه، وتصدى لدعوته تلك، جبهة الميثاق الإسلامي- جناح حركة الإخوان المسلمين في السودان- بقيادة حسن الترابي، ورهط من مشايخ الأزهر في طليعتهم شيخه أنذاك «حسن مأمون» وتم حبسه واتهامه بالردة والكفر، وهى نفس التهمة التي قادته إلى الموت شنقا، لنقده الحاد لقوانين سبتمبر التي نفذت تطبيق الحدود على السودانيين، ووصفها طه بأنها تنسب زورا إلى الشريعة، ودعا إلى إلغائها لأنها تشوه الإسلام، وتذل الشعب السوداني وتهدد وحدته الوطنية، فأقيمت محاكمة هزلية حكمت عليه بالإعدام شنقا بمبررات صاغتها حركة الإخوان السودانية بقيادة حسن الترابي.

كاتبة مصرية