المقدس الشرير في "جهاد ناعم"

محمد عيسى المؤدب ينصرف في روايته إلى تفكيك طبيعة المجتمع المخترق ومدى تبعيته للآخر في الضفة الأخرى.
البحر ليس مجرد طريق نحو الحلم للضفة الأخرى
عالم تغيب عنه القداسة يجر خيباته الى أجيال متعاقبة

بقلم: هيام الفرشيشي
"جهاد ناعم" رواية لمحمد عيسى المؤدب صدرت في 2017 عن دار زينب للنشر، وحازت على جائزة الكومار الذهبي. ومحمد عيسى المؤدب هو من مواليد صاحب الجبل (الهوارية) بالوطن القبلي تونس. صدرت له مجموعة "عرس النار" في 1995 عن الدار العربية للكتاب، وحازت على الجائزة الوطنية للقصة القصيرة. تلتها المجموعة القصصية "أية امراة أكون؟!" عن الاطلسية للنشر في 1999. 
وبعد الثورة التونسية انتقل إلى كتابة الرواية، فنشر رواية "في المعتقل" في 2013 عن الاطلسية للنشر، ثم رواية "جهاد ناعم" في 2017. ومحمد عيسى المؤدب ناقد ألقى محاضرات عديدة حول الأدب التونسي في تونس وخارجها، وتعامل مع الإعلام الثقافي في الإذاعة الثقافية والوطنية بتونس وبمجلة الإذاعة والتلفزة التونسية، وفضاءات إعلامية أخرى.
اذن انشغل المؤدب بكتابة الرواية بعد الثورة باعتبارها جنسا أدبيا مفتوحا على الأسئلة الكبرى، وعلى التمثلات الوجودية، وعلى منظومة أساطير وخرافات وحكايات الماضي، وكونها تحمل هموما سياسية واجتماعية حارقة لا يمكن فك شفراتها دون العودة الى طلاسمها التي تتراكم وتجرفها تيارات الذاكرة إلى مستنقع الحاضر. 
ولئن حلل لنا في روايته "في المعتقل" رواسب المجتمع الأبوي دون تحليل وتفكيك بنيته المتحجرة عبر شخصيات إشكالية لا يعنيها من الثورة غير القصاص والانتقام وإشاعة العنف، فإنه انصرف في "جهاد ناعم" إلى تفكيك طبيعة المجتمع المخترق ومدى تبعيته للآخر في الضفة الأخرى، يصارع البحر فيقذفه الموج إلى عصابات تجنده وتفرض عليه عبودية وسلب هويته وكنوزه التاريخية والإتجار بجسده في حملات دينية من أجل  الاستيلاء على ثروات وطنه، فالبحر ليس مجرد طريق نحو الحلم للضفة الأخرى، أو الزج بالشباب المهمش إلى المجهول. إن المهربين يتاجرون بتلك الأجساد بالتواطؤ مع مجموعات مافيوزية كبرى. مواضيع شائكة تكشف عن خفايا الهجرة السرية للضفة الأخرى، ولكن الرواية تطرح وقائع الخيانات، وانتهاك قدسية الأوطان.
تمثل الرواية سيرة ذاتية لنضال في فضاء مكاني يتوزع بين ضفتين يحدهما البحر شمالا وجنوبا، الهوارية وبلارمو ليرصد أوجه الصراع والخضوع بين الشمال والجنوب. الجنوب كفضاء للمطامع عبر الهجرة السرية لاستقطاب الشباب المهمش والسيطرة عليه لاستخدامه في مساعدة "المافيا" على نهب كنوز بلدانهم وتهريب الآثار وترويج المخدرات، ثم تحويل أجساد هؤلاء إلى كتل مأجورة دون عقل في الجهاد وجهاد النكاح تحت ذريعة مؤسسات تدعي العمل الخيري مثل مؤسسة فرناندو للأعمال الخيرية. تنتهك الذات البشرية وتحكم السيطرة عليها بامتلاك جسدها.
يلوذ السارد إلى تصوير هذا الواقع الدموي، اذ يضعنا في عالم تغيب عنه القداسة يجر خيباته الى أجيال متعاقبة، عبر التمثيل الرمزي تنزف فيه حمامة. ففي ذاكرة الجبل خطف القراصنة الايطاليون حليمة ليلة عرسها "ولم تر في السماء إلا طيورا تسيل على وجهها قطرات الدم" ص 158. انه لون الخوف والخضوع والهزيمة وتقديس هذا الاخر  الذي تحول إلى قوة مرعبة تستحوذ على أسرارها الخفية، يتواصل اللون في رسومات الطفلة وهي ترى تونس حمامة حمراء تحلق خارج القفص:
 "اتطلع الى رسومات مريم على اللوح المهترئ، على اليمين حمامة حمراء لا بيضاء". ص 52.
فاللون لم يعد ظاهرة فيزيائية مصدرها الضوء والعين إنه يتغلف بالانفعال، يقول ماتيس: "إنني استخدم اللون كوسائط للتعبير عن انفعالي وليس لنسخ الطبيعة". ويتحول الى طاقة تعبيرية للتعبير عن الألم ونزيف الماضي الذي يغمر الحاضر. فحقيقة اللون في حقيقة الدم وتمثلاته الرمزية، له جذور دينية وأسطورية في تقديم الذبائح كقرابين، هذا ما تقوله الرموز، هو تعبير عن اللاوعي الجماعي، عن جذور الوعي أيضا. 

غلاف الكتاب
خيانة فلسطين والتفويت فيها للصهاينة 

ولا يقتصر اللون على تحويل المحسوس بل يلطخ الواقع بقوة مدنسة تكبر وتلتهم هؤلاء الذين وقع تصفيتهم في درنة ليبيا من طرف الجماعات الدينية لخياناتهم مع أطراف أخرى "تقدمت المرأة المنقبة نحو كاراس، ببرودة دم أطلقت رصاصة على الرأس المنتفض، اريانا لم تصرخ ولم تستغث انطلقت تلك الرصاصة ناتئة ومسمومة، ونز الدم بغزارة من مؤخرة راسها وسط صمت أخرس" ص 230.
لعب اللون على تأشير لواقع وإظهار حقيقته، ليس فقط عن طريق الصورة الرمزية بل الواقعية ولكن له جذور دينية يتحرك ضمن فضائها. هذا ما يوحي به لون الدم وهو يتخفى في النفس الإنسانية وهي تستطيب إسالة الدماء كنوع من التطهر الديني للتعبير عن المقدس الشرير الذي يتماهى مع المدنس الدنيوي. فهل إسالة الدم فعل إجرامي أم طقس ديني متجدد؟  
يرزح نضال تحت سيطرة اللاشعور الجماعي حيث القصر القديم وصورة الأب والتاريخ الذي يحرس الحاضر ويستحثه على تضميد نزيفه وترميم الذات. فالقصر والحجرة والأب رموز للانتماء، تبقى مقدسة تمارس علويتها. 
"احتمي بالقصر، احتمي بأبي مثل طائر جريح اضاع السرب" ص14.
"الحجرة الناعمة هي عرش أبي، كان يجلس معزولا عن العالم يصير مثل العتمة في زمن القرف، ويصير مثل الضوء عندما يستعيد القمر مجده" ص14.
هي رمز للانتماء والانفصال والخصاء الرمزي لمن يخرج من منظومتها "وصلني صوت أمي غاضبا: لا تذهب إلى قصر النوبة، لا تذهب يا وجه الحصان، القصر قلعة الرجال وأنت لست رجلا كأبيك" ص  112.
أمكنة  مدنسة 
تكتسي الأمكنة قداسة حين تتخذ بعدا دينيا وتعتبر أمكنة لملاقاة المقدس الإله أو إقامة الطقوس الدينية، لذلك اكتست بعض الأمكنة قداسة في كل الأديان لأنها مرتبطة بالإله القدوس يجعل أي مكان مقدس إذا لامسه وهو يرتبط بفيض ديني وروحي.
وتكتسي الجبال قداسة في كل الأديان، مثل جبل صهيون في مدينة اورشليم وجبل جرزيم عند الساميريين، وفي السفر 3 قال الله لموسى: "هنا مكان مقدس اخلع نعليك من رجليك"، وشعائر الحج التي تقام في جبل عرفات، ورغم أن الجبال عامة مثلت فضاء لحلول المقدس وتجليه باعتبارها أمكنة علوية عمودية روحية ملهمة مثل جبل حراء فقد تدنست وفقدت قدسيتها في "جهاد ناعم" وشكلت فضاء للخيبات والغزوات خاصة إذا كانت منفتحة على البحر يسرد التاريخ الموثق والشفوي حكايات القراصنة يهاجمون الجبل"تدور، تدور الطواحين ويشحن الجبل بحالة خوف، تند الصرخات والاستغاثات، الغرباء أشهروا سيوفهم وسكاكينهم وتصايح الخلق" ص 156 وذعر وارتباك ويفتكون بأجمل النساء لتعرض في سوق العبيد والجواري في والذخائر "ساروا بين الأشجار نحو عين الماء واقتلعوا الحجرة الفضية" ص 156.
بل إن هؤلاء يحصلون على أسرار ومواقع الكنوز التي كانت تقدم لبعض الكائنات للتبرك، مثل ارنا العضد الأيمن لزعيم العصابة وقد ادعت أنها تندرج من سلالة إحدى المخطوفات  وهي تتجه إلى مكان الكنز مع زوجها المجند لخدمة مطامعهم "ظهر الصندوق يا عزيزي، ظهر بالفعل، جدتي تلك الالهة لم تكذب على أحفادها، نساء البلد كن يطمرن الذهب في هذا الصندوق، في رأس عين الماء، كما كن يقلن.. أتدري يا عزيزي؟ كن يهدين العين ذهبهن تبركا بالماء وخوفا أيضا إن تجف العين. ويقول آخرون إن أهل البلد يهربون كنوزهم إلى هذه العين لكي لا ينهبها القراصنة" ص174.
كنوز كانت تذهب لهؤلاء عن طريق هدايا الباي وعبر المهربين (قيس تاجر المخدرات أنموذج). مجرد صخور صماء تنفتح على مغاور ومخابئ يعشس فيها المدنس بل تنفتح على عالم سفلي تغيب عنه الروح. سيما وان حضرت فيها المخدرات وكل ما يغيب العقل ويطلق اللاوعي. في الجبل المدنس المنهوب المسروق الذي تدفن فيه الكنوز. 
خيانة فلسطين والتفويت فيها للصهاينة بدت واضحة وجلية في الرواية فأب الراوي لا يخفي غضبه على من خانوا القضية على أرض المعركة" سحقونا كالنمل في ظرف ستة أيام، لا أدري ماذا جرى بالضبط؟ أنا على يقين أن العرب خونة، الخيانة تجري في دمهم ولن يصلح الله أمرهم.. نجوت وكنت أفضل أن اموت، ما أبشع العار! ما أبشعه! إن كنت أنسى فلن أنسى صديقي الفلسطيني، صبري خليل البنا.. كنا نناديه أبا نضال.. أنقذني من شظية قاتلة وأصر على أن لا أموت في حرب خاسرة، كان يصرخ ويبكي: لقد غدروا بنا، غدر بنا العرب.." ص250.
ولعل ذلك يعود إلى تصورات دينية عربية، إذ يرى العرب أن فلسطين وعاصمتها القدس لا تحتل قداسة كبيرة، فالقدس لم تعد قبلة المسلمين بعد ما نص القران على تغيير القبلة إلى مسجد الله الحرام، وعلى الرغم من أنها تحظى بالبركة والقداسة في القرآن، لارتباطها بالإسراء، وبناء قبة الصخرة من طرف عبدالملك ابن مروان وهو خصم عبدالله ابن الزبير الذي كان يسيطر على الكعبة، كان هدفه بناء مكان يحج إليه المسلمون الذين لا يستطيعون أداء مناسك الحج في الكعبة، ولكن ظلت الكعبة أكثر قدسية عند العرب. ولم يعرج  السارد محمد عيسى المؤدب على الأسباب الدينية الروحية ولكنها بدت ضمنية حيث ارتبط تقديس المكان بالشعور الديني.