'المكحلة واليشمك' تحتفي بالحياة وتفضح المسكوت عنه

مسرحيات جديدة للكاتب المسرحي المصري إبراهيم الحسيني يؤكد فيها على ملامح وسمات واضحة لمشروعه في كتابة النص وهو المشروع الذي يهتم بمعالجة قضايا الإنسان في عمومه والعربي على وجه الخصوص ويدعو لتحرير الذات الإنسانية من قيودها النفسية والاجتماعية.

"المكحلة واليشمك ومسرحيات أخرى" مجموعة مسرحيات جديدة للكاتب المسرحي المصري إبراهيم الحسيني، وتشتمل على أربع مسرحيات منها "العطش، ظل الحكايات، المكحلة واليشمك،..."، وقد صدرتع ن الهيئة العربية للمسرح بالإمارات، وتقع في ثلثمائة صفحة من القطع الكبير، وهو ثاني كتاب يصدر للحسيني من الهيئة بعد كتابه "الغواية وكوميديا الأحزان" الذي صدر في عام 2013 وتم تقديمه وقتها بدراستين نقديتين أولهما لـ د.محمد سمير الخطيب والثانية للناقد أحمد خميس.

يعتبر الحسيني أحد أهم كتاب المسرح العرب المخلصين لهذا الفن طوال ما يزيد عن عشرين عاما، قدم خلالها إسهامات مسرحية متعددة في مجال النقد والتأليف المسرحي ومثل بلاده في العديد من مهرجانات المسرح العربية والأجنبية، وبهذا الكتاب الذي صدر ضمن سلسلة "نصوص" التي تهتم بنشر إنتاجات كتاب المسرح العرب، يؤكد الحسيني على ملامح وسمات واضحة لمشروعه في كتابة النص المسرحي، وهو المشروع الذي يهتم بمعالجة قضايا الإنسان في عمومه والعربي على وجه الخصوص ويدعو لتحرير الذات الإنسانية من قيودها النفسية والاجتماعية.

المكحلة واليشمك

تضمالمجموعته الجديدة "المكحلة واليشمك" أربعة مسرحيات طويلة كتبها الحسيني خلال السبعة سنوات الأخيرة، ويناقش فيها مجموعة من القضايا المختلفة منها مثلا وكما يظهر في مسرحيته التي تحمل عنوان المجموعة "المكحلة واليشمك" فكرة التحرر النفسي والتخلص من المكبوتات الإجتماعية لدى مجموعة من النساء داخل عالم يعزلهم تماما عن الرجال، حيث تمثل الرجال وجودا افتراضيا داخل هذا العالم وعبئا نفسيا ثقيلا، هذا بالرغم من عدم وجودهم المادي داخل مجتمع النص إلا أن هذا الغياب له قدرة السحر على تحريك تفاصيل هذا العالم، وفي إطار تحليله لهذا النص المسرحي يقول د.علي خليفة أستاذ الدراسات الأدبية بكلية الآداب جامعة العريش "الحسيني كاتب يحب أن يغيّر جلده من مسرحية لأخرى، فقد رأيناه يكتب مسرحيات فيها الرعب الممتزج بالقسوة والغموض كما هو الشأن في مسرحيته "نظرية العدالة الفاسدة"، ورأيناه أيضا يكتب مسرحيات تعبر عن طغيان الماضي على حياة بعض الناس حتّى أنه يشل حركتهم، ويجعلهم مقيدين بذلك الماضي كما هو الشأن في مسرحيته "بيت على البحر"، ورأيناه يكتب مسرحيات فيها أجواء الفانتازيا بتصوره لعوالم أخرى بها حياة كحياة البشر كما في مسرحيته "قضية إسكات الببغاوات" أما مسرحيته "المكحلة واليشمك" فتبدو قريبة من المسرحيات الإجتماعية وفيها نرى عرضا لمشاكل بعض النساء التي يعرضها الحسيني بشكل واقعي ويغلفه أحيانا بأجواء من القسوة والمرارة".

العطش

ويرصد الحسيني في مسرحية "العطش" وضعيات الصراع العالمي حول الماء العذب والعطش المحتمل والمتزايد داخل مناطق كثيرة من قارات العالم، والنص المسرحي يترك القارئ أمام تساؤلات كثيرة حول الحروب المحتملة داخل هذا الإطار ومحاولات إيجاد البدائل المستحيلة، وعن تلك المسرحية المكتوبة في عام 2001 والتي أعيد كتابتها مرة أخرى ـ حسب المؤلف ـ في عام 2018 كتب الكاتب والناقد الراحل د. مصطفى سليم في مقال له ضمه كتاب "مسرح إبراهيم الحسيني .. الثيمات والبنى الدرامية"، قائلا " يؤكد الحسيني في كتابته لهذا النص طوال الوقت على أنه ليس نصا مسرحيا تقليديا بل سردية تؤشر لعالم يعاني من تجليات صور "العطش، فقر الطاقة، التيه والقسوة الروحية" وهذا تؤكده مداخل النص ومشاهده التي تتخذ الأسلوب السردي الروائي، فالنص رحلة يسافر فيها القارئ عبر مجموعة من الصور الكابوسية والحالمة، وهذا السفر ينهك القاريء مثلما تنهكه رحلة الحياة في عالم يفتقد الوعي بمنابع المأساة بل ولا يملك القدرة على الفعل أصلا، وهنا تأتي أهمية النص كناقوس لتنبيه العالم من الخطر القادم".

وتعتبر "العطش" من المسرحيات القليلة للحسيني التي لم تنفذ على خشبة المسرح حتى الآن نظرا لصعوبة تجسيد خيالها الجامح داخل الفضاء المسرحي، فهي تهتم بالصور وبالإستعارات الشعرية مما يجعلها تحتاج لوعي خاص ولتجهيزات مسرحية تقنية عالية، مثلها مثل مسرحيته الأخرى "وشم العصافير" التي قال عنها الكاتب الكبير الراحل محفوظ عبد الرحمن في تقديمه لها "إنها تحمل وهجا خاصا لم يألفه المسرح المصري من قبل، وأن بها صعوبات كثيرة ستواجه المخرج عند تقديمها على خشبة المسرح بسبب خيالها الكبير وصورها المسرحية المتدفقة".

المفردات الشعرية

فكرة كتابة الصور والاستعارات الشعرية والميل للإيجاز والتكثيف والاهتمام بإدخال سمات الشعر لعالم النص المسرحي في مسرح الحسيني، أو إنجذابه لما يطلقون عليه مسرح ما بعد الحداثة ظهرت أكثر ما يكون في مسرحياته الأولى، والتي كتب فيها نصوص أخرى من مثل: سلم طالع للشمس، الكونكان، أخبار أهرام جمهورية، متحف الأعضاء البشرية،.." وفي هذا الصدد يرى الحسيني بأن عالم مابعد الحداثه كان يستهويه جدا في مراحل كتابته الأولى التي بدأت عام 1988 وظلت حتي عام 2005، ومنها انتقل لنوعية أخرى من الكتابات التي تهتم بقضايا الإنسان، وبتحليل وضعه بين القوى المتصارعه داخل مجتمعه الصغير وأيضا داخل مجتمعه العالمي الكبير.

ظل الحكايات

أما مسرحيته "ظل الحكايات" ضمن هذه المجموعة فتحاول تقديم تفسيرا نفسيا للواقع الراهن الممتلئ بالصراعات الحادة، وكذا العنف المتزايد من خلال تشابك الكثير من الكوابيس والأحلام التي تنتاب شخص واحد، لتقوم بتحريكه وإزاحته تدريجيا بفعل مجموعة معقدة من الممارسات الواقعة عليه من عالمه الواقعي لعالم آخر يصنعه خياله علّه يجد فيه راحته، وتجمع المسرحية ما بين السرد الروائي عبر المونولوجات المتقاطعة التي تؤديها الشخصيات الدرامية وما بين الحوار المسرحي، فالمسرحية تقدم رحلة اسطورية لا يمكن توصيفها على أنها تنتمي للواقع ولا حتّى لعالم الأحلام فهي مزيج منهما ومن عوالم أخرى متخيّلة ينسج عبرها الكاتب نصه ببراعة كبيرة.

"ظل الحكايات" تم تقديمها على مسرح الغد عام 2021 من إخراج عادل بركات وحصل العرض على عدة جوائز في المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته الـ 13 ومنها جائزة أفضل نص مسرحي وحقق العرض نجاحا نقديا كبيرا فقد كتب عنه الناقد يسري حسان "لا منطق يحكم سياقات العرض المسرحي "ظل الحكايات" لأنه عبارة عن حلم مزعج يتعرض له بطله، وبالتالي كان على أجوائه وعوالمه أن تتداخل بشكل مربك، وإن كان ذلك محسوبا ومتعمدا وإلا فقد العرض مبرر وجوده وفقدت الحكاية ظلها، فلكل حكاية ظلال كثيفة تأخذنا إلى عوالم غريبة لا أحد يعرف متى بدأت وإلى أين تنتهي، وفي هذا السياق حفل العرض بتداخلات وبرموز كان على المشاهد فك شفراتها لاستيعاب ما يدور أمامه كل حسب قدرته وفهمه لطبيعة الحلم".

رؤى إخراجية متعددة

حظيت مسرحيات الحسيني الأخرى برؤى إخراجية متعددة على خشبات المسارح المصرية ومعظمها تم تقديمها من قبل جهات إنتاجية مختلفة منها مثلا: "الغواية"، "أيام إخناتون"، "مذكرات سنوحي المصري"، "سلم طالع للشمس"، "الكونكان"، "عشرة بلدي"، "جنة الحشاشين"، "وشم الغياب"، "تجربة العدالة الفاسدة"، "أخبار أهرام جمهورية"، "زنزانة لكل مواطن"، "هلاهوطة العظيم"، "عشرة بلدي".

وكانت آخر العروض له المسرحية قد قدمها البيت الفني للمسرح هذا العام 2023 مسرحية "باب عشق" والتي ظلت تعرض لأربعة مواسم مسرحية، وهي مسرحية كانت قد حصلت في العام 2021 على جائزة أفضل نص مسرحي لكبار الكتاب من مؤسسة ساويرس للتنمية الإجتماعية.

وعن جديد الحسيني يقول أنه يقوم بكتابة نص مسرحي جديد بعنوان "مدن لا تسكنها الملائكة" هذا في حين يستعد مسرح الغد بالبيت الفني للمسرح في العمل على بروفات عرض جديد له يحمل عنوان "حكايات الشتاء" ومن إخراج محمد عشري، وهو عن نص قصير تدور فكرته حول سيدة عجوز تعيش بمفردها في وحدة قاسية مما يجعلها تلجأ لحيلة غريبة من أجل كسر هذه الوحدة، هذه الحيلة توفر لها بعض الأمان لكنه أمانا مصحوبا ببعض الإهانه فهل تستمر في حيلتها أم تتراجع عنها؟!.

ويؤكد أنه في كتاباته الأخيرة يسعى للعمل على تحرير الذات الفردية من كل المعوقات التي ترتد بها للخلف ويحاول تخليصها من إشكاليات وعقد أصيلة في تكوينها من مثل : العنف بكل أشكاله، الخوف، الإضطرابات والمتلازمات النفسية، فالكتابة المسرحية، والمسرحية بالذات تخفف من آلام الواقع لدى كاتبها وقرائها ومتفرجيها،كما يحارب الحسيني في الكثير من مسرحياته إستغلال الدين للوصول لأهداف إجتماعية أو سياسية، فالدين أكبر من كل الأفكار التي تعمل على تسييسه وتحويله من معتقد روحي وفكري إلى أداة يتم استخدامها للصعود بها.