الملائكة لا تحلق فوق أنطاكية
رواية لينا هويان الحسن "أنطاكية وملوك الخفاء"، هي من بين الكتابات التي تجعل قارئها يعيش نوعا من الصيرورة، حيث لا يشبه فيها الما قبل ما بعد الانتهاء من قراءتها. تورط قراء تكفي عوالمها وتصير معنيا بوضوحها وصراعاتها والتباساتها، بتحولاتها المؤلمة والعنيفة، بمقدسها ومدنسها. وبشجاعة نسائها في اختراق، القيود والتصورات والمعتقدات والثوابت، وانتهاك رعب الصمت والطابوالمحرم الممنوع من القول والفعل، والتخييل والتفكير والممارسة. تصير طرفا مستهدفا ومعنيا، ومتهما ومذنبا بعدوى اللوثة الفيروسية التي تتلبس جميع مفاصل استراتيجية الكتابة في معانيها الشديدة العمق والاتساع. والروايةتجعلك من صفحة لأخرى، إنسانا آخر ولّده تمرير السائل المخصب بين شغف جنون سيرورة القراءة في مطاردة خبث العلامات، وسحر السرد المفعم بشجاعة المرأة في تحدي لغة الثوابت والقدر المزعوم للأدوار والوظائف والقيمة الإنسانية (دادا، فهرية، فجر أوفايزة، مجيدة الطبيبة...). دون أن ننسى قدرة النساء على التحايل على الواقع بامتلاك متخيل الأسرار بالحكايا والخرافات. يحدث هذا التفاعل الخلاق مع شقوق وفتحات النص، ليس فقط من خلال اللمس بالعين الثالثة التي تتكاثف فيها كل الحواس الجهنمية في امتطاء صهوة فرضيات التأويل، وهي تفك أزرار النص بحثا في طياته العميقة الأقرب الى حفرة الغزال، أو مستنقعات سهل العمق الموحلة، التي خلفها نزيف نهر العاصي، بعد أن داست الملكة تيخا، حقدا وكراهية، على عنقه، رفضا لسطوة الذكورة في احتقاره والتهامه للنساء.
مستنقعات ضحلة تخلت عن حيادها الطبيعي، لتتحول الى آلة للقتل يمكن في أي لحظة، أن تجذب القارئ الى جوفها العميق.إذا لم ينتبه الى ما يتستر عليه السارد من تطبيع مرعب وهمجي للقهر والتسلط الذكوري، جاعلا من ذلك الوضع المأساوي الذي يعيش تحت عنف وطأته المروعة أهالي المنطقة، خاصة النساء والفلاحين البسطاء، حالة طبيعية مفارقة للتاريخ البشري، ومتنصلة من مبدأ التناقض المجتمعي، كالقدر المحتوم، الذي لامفر منه. حيث السيطرة الخرافية لملوك الخفاء على مصائر البشر. فيبدو القهر والظلم، والفقر والذل والمهانة قسمة ونصيب خارج إرادة الناس. والشيطان الكافر، والمتمرد المخادع، والذئبة الملعونة الماكرة من تتجرأ على خلخلة هذا التطبيع في الأفكار والرؤى والمعتقدات، وزحزحة القيم الثقافية والاجتماعية الأبوية الذكورية، المهيكلة والمشكلة للتصورات والرؤى، والتراتبات والعلاقات الاجتماعية الظالمة. خاصة على مستوى علاقة التملك الأقرب الى الاسترقاق الذي فرضه الاقطاعيون، البكواتوالبشوات، على نسائهم، وبصورة أكثر بشاعة ولا إنسانية على الفلاحين.
واقع كانت فيه الخرافة والأساطير سيفا ذا حدين تسبّح وتذبّح. فهي الآلية الدفاعية التي يتمسك بها البسطاء والنساء المقهورات، وقد أنتجتها شدة القهر والطغيان التسلطي البطريركي الاقطاعي. فبقدر ما تكون الخرافة ممتعة في تسكين عذبات آلام الظلم والتسلط والهدر، فإنها تعمل على معاودة إنتاج الواقع المأساوي نفسه في البنى المادية والرمزية.
ومع صفحات الرواية تتناسل العشرات من الأسئلة، وتضغط بثقلها الرهيب، كتضاريس وعرة خلقها جدل تفاعل لالتحام شغف القراءة بالرواية، فتنفتح الأسئلة على عسر ولادة التحولات الرهيبة التي عرفتها المنطقة سياسيا واجتماعيا وثقافيا وجغرافيا وأخلاقيا في العلاقة القهرية بين الأهالي والطبقة الاقطاعية المحلية، وفي العلاقة أيضا بالمحتل الأجنبي العثماني والفرنسي. وفي خضم هذه التحولات تحضر النساء ليس كضحايا فقط ، بل كذوات مستقلة فاعلة، تمتلك حريتها وإرادتها في تقرير مسارها ومصيرها، بعيدا عن وصاية سطوة تسلط الذكورة، ولوأدى الاختيار بهن الى الموت.
الملائكة لا تحلق فوق أنطاكية
" كلها خرافات، كل هؤلاء الملوك والآلهة لا وجود لهم. الحقيقة الوحيدة يصنعها من يملك السلطة. لذلك أنا لا أواجه هذه الخرافات، فهي تعزز سلطتي. أنا أستفيد من انقسام الفلاحين الى شمسيين وقمريين، تخدمني انقساماتهم الدينية، أنتعش من خوف كل فئة من الأخرى. هذا يجعلهم يلجأون إلينا كما لجأوا إلى أهلنا وأجدادنا."111
غالبا في صراع المقهور مع الطبيعة والسلطة المستبدة تولد الحكايا والخرافات والأساطير كآلية نفسية اجتماعية تحمي الانسان من عنف شعوره بالغبن والعجز، ورهاب فقدان المعنى المهدد لحياته بالفناء والموت. هكذا يتجاوز أويتغلب المرء على ضعفه وانسحاقه الوجودي من خلال الخيال باعتماد توسط الخرافة والحكايا نافذة للأمل واكتساب القوة والمناعة والقيمة. وهذا يعني أن الفئات الاجتماعية المقهورة والمغبونة، خاصة المرأة في قهرها المزدوج والمكثف نفيا ونبذا وتبخيسا لقيمتها الإنسانية، تعيش على وهم تحسن وضعها الاجتماعي والقيمي والعاطفي الإنساني، من خلال توسل رضى لذة ومتعة خيال الخرافات بأرواحها الغيبية الخارقة للقوانين الطبيعية والاجتماعية. والقادرة على إعادة الخلق من جديد، والتحكم في المسارات والمصائر الكونية والبشرية. من هذا الظل المعتم لشر العجز والقهر الاستبدادي ولدت خرافات أنطاكية، وهي تفسح المجال لملوك الخفاء للتحكم في مصائر الطبيعة والبشر. وذلك لجعل حياة الغبن والمذلة أكثر معقولية في نظر البؤساء والمقهورين، وتسويغ الظلم والتسلط والاسترقاق، وشرعنة مختلف أشكال همجية التراتب والتفاوت، والاقصاء والنبذ. في ظل هذه الشفرة النفسية للاشعور الاجتماعي الثقافي الجمعي سيّد وسوّغ الاقطاع الظلم والقهر والتسلط والاستغلال البشع، الى حد سلخ القيمة الإنسانية، والاعتداء على كرامة الفلاحين واغتصاب نسائهم. كما منح هؤلاء الاقطاعيون لأنفسهم حق ممارسة كل المحرمات والرذائل، دون أن ينال ذلك من اعتبارهم وقيمتهم ومكانتهم الأسرية والعائلية والاجتماعية.فكان الخرق والانتهاك من طرفهم لكل القيم والمعايير الدينية والاجتماعية والقيمية، ممارسة عادية مألوفة. هكذا عاش صادق باشا وكيوان والعوني.
كما قاموا بتجريم وتحريم أي خطوة تنضح بالتمرد والعصيان، أوالتشكيك والتساؤل حول شرعية سيطرتهم وقهرهم للناس. بل أكثر من ذلك اعتبروا نساءهم ونساء الفلاحين ملكا لهم في الاستغلال والاغتصاب الجنسي. وقد تم تعذيب واغتصاب وقتل كل من تجرأت على الرفض والتمردوإظهار العصيان: روزا، فهرية، بيرق.
تعري الرواية هذا الواقع الاقطاعي الموبوء، والمسكون بالنفاق الاجتماعي والأخلاقي، في الحرص على مشهدية المكانة والوجاهة الاجتماعية، مع التستر على العري القيمي والأخلاقي الإنساني داخل غرف القصور، بتواطؤ صامت مشحون بالألم والعذاب، تدركه قلوب وعقول نساء لا يملكن ما يكفي من قوة اجتماعية، غيبتها هيمنة البنى الثقافية والاجتماعية والدينية، لقلب الطاولة في وجه بشاعة قسوة الذكورة القهرية للاستبداد الاقطاعي. تعري الرواية سطوة القيم الكاذبة والعادات والتقاليد الرهيبة التي تحاصر الانسان، وبصورة مضاعفة وأكثر وضوحا المرأة في القهر والعنف والنبذ والنفي الى حد القتل. وأيضا فيسلب حريتها، والمس بكرامتها واستقلالها الذاتي في أن تكون وتصير كما تريد، تبعا لقرارها الفردي النابع من اختياراتها ورغباتها الخاصة. كما مارست ذلك كل من فهرية وفايزة وعدوية المعروفة بدادا.
فلا شيء ملائكي في هذا الوسط الاجتماعي التاريخي لمدينة أنطاكية، في هذه الفترة الزمنية التاريخية التي تأتي عليها الرواية. لا شيء خارج منطق حركة التاريخ في تناقضاتها الاجتماعية يمكن أن يدعي البراءة والشفافية ومكارم الأخلاق وسطوة القدر الغيبي والخرافي في التحكم في مصير حياة الناس، وفي تحديد قيمهم وسلوكاتهم وتصرفاتهم وتصوراتهم ومعتقداتهم. هذا ما عرته بجرأة كل من الزنبق وابنتها عدوية، وفهرية وفجر. وتحملت مواجهته بيرق وفجر ومجيدة.
فبرز الوجه البشع للمصالح الاقطاعية والاستعمارية من وراء حكايات وخرافات الأسرار والتنبؤات، وتحكم ملوك الخفاء في الترابطات المعقدة والصراعات المتداخلة بين ما تولده بنى الاقطاع ، والمصالح الاستعمارية من تناقضات ونزاعات سياسية واجتماعية واقتصادية. هذا ما كانت تخفيه طيات النص حول الكثير من الوقائع التي كانت وراء الاغتيالات وتصفية الحسابات، كما حدث مثلا لأب مريم الهدهدية بعيدا عن حجية التنبؤات الرهيبة التي طالت القيصر وسلاطين ال عثمان.
هكذا تضعنا الرواية أمام الوجه الآخر القذر لملوك الخفاء الآخرين، والحقيقيين (الاقطاع المحلي، الأتراك، الفرنسيون) الذين قاموا بتغييرات عنيفة طبيعية وديمغرافية بشرية، الى حد سلخ وبتر جزء حي ونابض من سوريا له عمق متجذر في التاريخ والحضارة الإنسانية.
نساء في مستنقعات الذكورة والاقطاع والاستعمار
الجميل في هذه الرواية أنها تقدم لنا مأساة بتر مدينة بكاملها، مكوناتها الطبيعية والبشرية، من جسدها الحي سوريا، من خلال الترابط العضوي مع مآسي وآلام ومعاناة سيرة نساء المدينة. كما لوأننا إزاء القلب ونبضه/المدينة والنساء.هكذا نتعرف على التحولات الرهيبة التي عاشتها المدينة، والتناقضات الاجتماعية التي تولدت عن البنى الاجتماعية والاقتصادية الاقطاعية والتحديثية. كما تنفتح الرواية على الصراعات التاريخية التي فرضتها المصالح المحلية أوالأجنبية الاستعمارية في سياق التكالب على البلدان الضعيفة باعتبارها مناطق نفوذ ونهب ومصالح حيوية جيوسياسية. نتعرف على كل هذا من خلال علاقات السيطرة والاستغلال التي تربط هؤلاء بأهالي المدينة. وكانت سيرة النساء المؤلمة النافذة المشرعة التي سمحت لنا برؤية الواقع المأساوي الذي عاش في سياقاته المرعبة الفلاحون، كأشياء ومتاع يمتلكه الاقطاع، كما يمتلك المدينة بكاملها في إطار علاقة حيادية لا يحكمها أي انتماء وطني، جغرافي وثقافي. هذا يعني أن الاقطاعيين مستعدون للهروب(العوني، كيوان) في أي لحظة تبعا لمصالحهم الآنية، حتى لوأدى ذلك الى التخلي عن كل الارتباطات ومختلف أشكال الهوية والانتماء. بل كان عندهم استعداد لبيع وتفويت المدينة للاحتلالات الأجنبية، كما يحدث اليوم، بشعار مستحدث أنا أولا أحد.
تضعنا الرواية في كل هذه الدروب المظلمة للإقطاع والاستعمار من خلال منارات مضيئة بعنف الألم والعذاب، أي من خلال سيرة مجموعة من النساء صمدن وكافحن طويلا بأرواحهن وأجسادهن ضد التحكم القهري للإقطاع في بنياته الاجتماعية والثقافية والدينية والقيمي، وعانين في سراديب مستنقعات الحياة الذكورية من مختلف أشكال القهر والعنف النفسي والأخلاقي والثقافي والجسدي، قتلا واغتصابا وبيعا للكرامة في المزاد السري والعلني للشهوة واللذة على قارعة الطريق.
وكانت دائما التهمة جاهزة للإخضاع والمهانة والمذلة، في وجه كل من سولت لها نفسها الرفض والتحدي لعلاقات التحكم القهري السائدة والمهيمنة معرفة ووعيا وأخلاقا وعلاقات اجتماعية. هذا ما عانت من ويلاته كل من الزنبق وابنتها عدوية، وبيرق وابنتها فجر، روزا، فهرية...
رواية تعري الواقع الاقطاعي الموبوء والمسكون بالنفاق الاجتماعي والأخلاقي
لكن بقدر ما كانت المعاناة رهيبة في الدفاع عن اختياراتهن في العيش كذوات وأرواح وأجساد حرة مستقلة وفاعلة، بقدر ما اكتسبن الخبرة والمعرفة والذكاء وانفتاح الرؤية وحسن التصرف والاختيار الواعي، تجنبا للسقوط في فخاخ سطوة الذكورة كما حصل مع فهرية التي كان يستغلها كيوان، أوفجر مع الخوري. في ظل مستنقعات الذكورة هذه لم يكن غريبا أن توصف المرأة ي حريتها واستقلالها النفسي والفكري والجسدي والعاطفي والجنسي بأبشع الألفاظ القدحية، كالشيطانة، الأفعى ، الماكرة، الساحرة، الذئبة.
كل هذا لتسويغ حق التهجم عليها وشيطنتها وأسطرتها لجعلها خارج الدائرة الإنسانية، حتى يسهل استغلالها أبشع استغلال. ويمكن أيضا التخلص منها كشيء غير مرغوب فيه. كما حدث مع بيرق، روزا، وفهرية.
هكذا كانت نساء المدينة عرضة لمختلف أنواع العنف الرمزي والجسدي. قصد إخضاعهن ومنعا لبروز عدوى التمرد والوعي الذاتي بضرورة الحرية والتحرر من تسلط واستبداد القيم الذكورية المانعة للقيمة الشخصية والكرامة الإنسانية للمرأة، المهمشة والمعزولة من دائرة الكينونة والصيرورة. وهذا ما فعلته عدوية بامتياز كبير حين هزت وزلزلت مستنقعات كيوان كتمثيل رمزي للتحكم البنيوي الاقطاعي. " امرأة امتلكت حرية مرعبة، مخيفة، متقدة، حرية امتلاك الخيارات في الحياة الحميمة، حرية تمليها عليها أهواؤها"230
إنها المستنقعات التي ابتلعت العشرات من النساء بيرق ، فجر، روزا، بدرية، وفهرية التي كاد أن يبتلعها وحل تلك المستنقعات الذكورية لولا التأثير الإيجابي، والتفاعل الخلاق الذي مارسته عدوية في حق كل فهرية التي تخلصت من أغلال الاسترقاق الجسدي والعاطفي والجنسي. وعاشت التجربة نفسها فجر بولادة جديدة جعلتها ترى الحياة بعيون فايزة المرأة التي امتلكت حريتها وجسدها واستقلالها الذاتي في التفاعل مع متغيرات الحياة الاجتماعية. حيث مارست النساء حضورا فاعلا وحيويا في التغيرات السوسيولوجية التي عرفتها المدينة أسوة بما حدث من تحولات في العالم تحت وقع الحضارة الغربية الحديثة.
" امرأة صنعت حياتها، حققت أحلاما وتكبدت خسارات، لكنها لم تقدم قلبها قربانا. ظفرت بمن تحب، وحققت الكثير مما رغبت به. ما أقل النساء اللواتي امتلكن المطرقة التي تكسر وتطحن كل ما قد يعيق خط سير عربتهن " الحياة". إنه وجود نادر وصاعق وساحر. نساء من سلالة مردة أنطاكية."231
مدينة على أجنحة الأساطير
المدينة بأرواحها، أي بالأهالي الذين يتمفصلون مع تضاريسها المفعمة بالحب والحياة، وجنون الشغف في قوة جدل الارتباط، والهوية المرنة المضيافة، والانتماء المنفتح الأيديوالآفاق للأخذ والعطاء. إنها المدينة التي يسكنونها كما تسكنهم. الأرض تحس بأهلها، تتنفسهم كما يتنفسونها. وكلما هجروها سكنتهم أكثر وامتدت في أعماقهم مخلفة جراحات وآلام وعذابات في الروح والذاكرة. المدينة التي لا تتبادل العناق والمحبة، وشوق شغف الحب مع أهلها ليست بمدينة. والبشر الذين يتجاهلون عمدا مدنهم. ويتنازلون عن قطع كل روابطهم العضوية بمدنهم كما لوكانوا يستسلمون للذبح من الوريد الى الوريد، يستحقون أن تلفظهم كل مدن العالم، وترميهم في العراء فوق أقرب مزبلة، لأنهم ببساطة هم في وضعية ما دون البشر. لذلك مهما كان الطغيان والظلم والقهر، ومهما استبيحت مدنهم، ودمرت وخربت، وهجر الناس رغما عنهم، فإنها تظل شامخة حية في قلوب وذاكرة أهلها. وهم يتوارثون حلم العودة جيلا بعد آخر.
من هذا العمق في الروح والجسد والذاكرة ولدت رواية "أنطاكية وملوك الخفاء" رافضة أن يمتد سلخ المدينة وبترها، من كيانها العضوي السوري، الى القلب والذاكرة والجسد. إنه الشغف الجنوني الذي يسري في روح وجسد الرواية تجاه مدينة أنطاكية. فالذاكرة والروح تعانيان ألم البتر، وترفضان الاعتراف بالاقتلاع للمدينة والانسان. لهذا تحضر النساء كعادتهن في التاريخ البشري كخزان وموطن للمكبوت والمحرم والمسكوت عنه، والمهمش المنسي في تاريخ الحروب والظلم وطغاة القهر. لذلك تملك المرأة ممرات آمنة لعودة المكبوت والمنسي والمهمش المبتور. إنها ممرات الحكايا والخرافات والأساطير التي عجز الطغاة عن إبادتها وتهجيرها، وهي تتواصل بشكل حميمي مستمر مع المدينة وأهلها.
تبعا لهذه الفرضية في القراءة والتأويل تشكلت الرواية في خصائصها المعنوية والفكرية والدلالية. ومتحت عمقها الحكائي الفني من عوالم الخرافات والأساطير. وكانت المرأة راوية وشخصيات فاعلة بامتياز واضح كبير. وهي تحاول ربط الشمل من جديد بالتاريخ المبتور والمنسي في العلاقة بالمدينة، وفي التجذر العميق لقوة النساء في الحضور الوازن والفاعل في وجه القهر والاستعباد الذكوري والطغيان. وكانت الخرافات عتبة لاختراق الباب المحظور في وجه سيرة مدينة- أنطاكية، لواء اسكندرون- لوت قوى الاستعمار عنقها، كما فعلت تيخا مع نهر العاصي. وأيضا في وجه عدم الاعتراف بقدرة النساء على خلخلة المكبوت والمنسي في تاريخ القهر والاضطهاد، وانتهاك صمت الذاكرة الملعون. من نزيف هذا السلخ والبتر تشكلت الرواية في شكلها الروائي كحكايات ممتعة ومؤلمة وحارقة. لكنها نابضة بالحياة والحب والعشق وجنون الشغف بالحرية في أوسع وأعمق معانيها الفردية والحميمية والمجتمعية لكل النساء والرجال بعيدا ‘ن أي تمييز أواستثناء.