"الممر الاقتصادي": خارطة جيوسياسية جديدة

فكرة المشروع الطموحة والمختلفة نسبياً عن غيرها من المشروعات الطموحة أنه قائم على فكرة التكامل الإقتصادي الإقليمي.

حظي الإعلان عن إنشاء الممر الاقتصادي الذي سيمتد عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات ثم يعبر السعودية والأردن وإسرائيل وصولاً إلى أوروبا، حظى هذا المشروع الطموح للغاية باهتمام إقليمي ودولي واسع النطاق، بالنظر إلى أنه يدفع باتجاه إحداث تغييرات جيواستراتيجية مؤثرة دولياً، حيث قال الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء الإعلان عن المشروع خلال قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الهند مؤخراً أنه سيغير "قواعد اللعبة"، واعتبره آخرون منافساً لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية التي تشمل أكثر من سبعين دولة.

المشروع الجديد يعتمد بشكل أساسي على الإتصال بين الموانئ لإعادة الشحن، وقال عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في كلمته على هامش منتدى الاستثمار السعودي ـ الهندي، أنه "سيحقق المصالح المشتركة لدولنا من خلال تعزيز الترابط الاقتصادي"، مشيراً إلى أن سوف "يسهم في تطوير البنى التحتية التي تشمل السكك الحديدية وربط الموانئ وزيادة مرور السلع والخدمات وتعزيز التبادل التجاري بين الأطراف المعنية ومد خطوط الأنابيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين لتعزيز إمدادات الطاقة العالمية، بالاضافة إلى كابلات لنقل البيانات من خلال كابلات لنقل البيانات من خلال شبكة عابرة للحدود ذات كفاءة وموثوقية عالية".

المشروع الذي وصفته وثيقة أعدتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأنه "جسر أخضر ورقمي عابر للقارات والحضارات"، يحظى بدعم قوي من جانب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، حيث اعتبر الرئيس بايدن أنه سيوفر "فرصاً لا نهاية لها للدول المعنية"، وأنه سيجعل تصدير الطاقة النظيفة أسهل كثيراً، مشيراً إلى أنه من بين القرارات التي ستؤثر على مسار المستقبل عالمياً.

فكرة المشروع الطموحة والمختلفة نسبياً عن غيره من المشروعات الطموحة أنه قائم على فكرة التكامل الإقتصادي الإقليمي، باعتباره جزء من الشراكة المرتبطة بالاستثمار العالمي بالبنية التحتية (PGII)، وهو مشروع أميركي ضخم تم الإعلان عنه العام الماضي، ومن المخطط أن يكون مجمل استثماراته في عام 2027 بمبلغ 600 مليار دولار، ويركز على قطاعات تعالج أزمة التغير المناخي. ويعد تبادل نقل منتجات الطاقة الجديدة أحد أهم ركائزه، حيث يتضمن مشروع "الممر الاقتصادي" كابل بيانات عالي السرعة وكابل لنقل الكهرباء وخط أنابيب هيدروجين، وهي عناصر لها أهميتها الفائقة في الفكر الإستراتيجي لدول أوروبا، التي لا تزال تعيش "صدمة" قطع إمدادات الغاز الروسية على خلفية حرب أوكرانيا.

البعض من المراقبين يربط غياب الرئيس الصيني شي جينبينغ عن قمة مجموعة العشرين بالهند بالإعلان عن المشروع الجديد، الذي يرونه منافساً للمبادرة الصينية، وأن الدعم الأميركي القوي للمشروع يرتبط بالأساس برغبة الولايات المتحدة في وقف التمدد الصيني وتشجيع الهند المنافس الإستراتيجي القوي القادر على الحد من هذا التمدد، والذي يطمح بدوره لأن يكون له مقعداً قيادياً في النظام العالمي القادم، فضلاً عن كونه يتماهى مع إحتياجات الهند المتزايدة من منتجات الطاقة، ورغبتها في ضمان أسواق لتصدير منتجاتها دون عوائق، لاسيما في ظل تنامي التهديدات المرتبطة في الكثير من جوانبها بالمواجهات البحرية والمضائق وغير ذلك.

هذا المشروع الطموح يمثل أرضية مشتركة للتعاون والتكامل بين الخطط والاستراتيجيات الخليجية والهندية كون الطرفين يتمتعان بشراكة إستراتيجية متنامية، كما يلتقى مع خطط السعودية تحديداً في أكثر من نقطة منها الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، والتي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2021، ومنها أيضاً الاستفادة من الاستثمارات السعودية الهائلة في الطاقة المتجددة والمناطق الاقتصادية وخطط تطوير البنية التحتية المعلوماتية القائمة على دعم موقع المملكة من حيث توافر الكابلات البحرية ومراكز البيانات.

الإقتصاد هو بوابة السياسة وضمان خطط التبادل التجاري وسلاسل التوريد وفتح الأسواق الجديدة والتبادل الطاقي، جميعها ركائز لعلاقات سياسية قوية، ولو نظرنا إلى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، لوجدنا أنها تربط الصين بأوروبا الغربية عبر آسيا الوسطى وروسيا، وهو ما بات صعباً على الأوروبيين تقبله، بغض النظر عن شواغل التنافس الصيني ـ الأميركي. وبالتالي يمكن فهم الحماس الأوروبي الشديد للمشروع الهندي الجديد، لاسيما في ظل فكرة المشروع القائمة على الشراكات التجارية بدلاً من تقديم القروض الميسرة كما هو حال الكثير من نقاط المشروع الصيني، كما أن المشروع الهندي يمر عبر دولتين خليجيتين بما يوفر لهما ولبقية الدول المجاورة فرص الربط مع شبكة التجارة والتبادل التي يوفرها، وهو ما يشجع الإستثمارات والتنمية في هذه الدول، وربما يتفوق هذا المشروع في هذه الجزئية تحديداً على نظيره الصيني، الذي يعتمد على نقاط التقاء بحرية محددة مع دول خليجية عدة ليس من بينها نقطة رئيسية كما هو حال السعودية ـ على سبيل المثال ـ في خطط المشروع الهندي.

مشروع "الممر الاقتصادي" هو فكرة طموحة للغاية تنطوي على مكاسب لجميع الأطراف المشاركة فيه، ويمكن لها فعلياً أن ترسم خارطة جيواستراتيجية جديدة للتحالفات، حيث تتشابك مصالح الأطراف المشاركة بدرجة أكبر عن ذي قبل، ما ينعكس بدوره على سياساتها وتوجهاتها إقليمياً ودولياً.