النظام السياسي اللبناني يفتقد البيئة الحاضنة

في ما مضى المسؤولية تلقى على "المارونية السياسية". على من تلقى اليوم مسؤولية ترنح لبنان وانحطاطه وتعديل رسالته وتصدره قائمة الدول المتخلفة؟

النظام العام، فلسفيا كان أو وطنيا، هو مجموعة عناصر متفاعلة مرتبطة بمجموعة علاقات متكاملة ومتحركة نحو هدف مشترك. قبل بدء الحرب سنة 1975، كان لبنان يملك، بشكل متقطع، جزءين منه: مجموعة العناصر المتفاعلة ومجموعة العلاقات المتكاملة. لكنه فقدهما قبل بلوغ الجزء الثالث: الهدف المشترك.

عدا أن العنصرين لا يدومان أصلا ما لم يلتحما بالجزء الثالث، جاءت تحولات المجتمع اللبناني حديثا لتقضي على مقومات النظام المشترك وتنشئ، بموازاة بنيان النظام العام، "كيانات" هجينة في بيئة كل جماعة لبنانية. لم تكون هذه "الكيانات" مجموعة "لبنانات صغيرة"، بل مجموعة لبنانات نقيضة لبنان. هكذا أصبح النظام اللبناني واجهة بناء أثري شيدت ضمن أسواره أبنية تفتقر إلى أصول الهندسة الوطنية. وحين يخسر النظام وحدة بنيانه المتجانس، يعجز عن ممارسة دوره كرابط حياة الجماعة ومحركها، ومشرف على أمنها وسلامتها واستقرارها وسعادتها.

عمليا، لسنا مجموعة طوائف تتعايش، بل مجموعة مشاريع طائفية تتناقض. وإلا لماذا تسود نزعة الهيمنة والسيطرة والاستيلاء على الحكم والقرار الوطني؟ ما يثير الغضب أن هذه المشاريع هي مشاريع قيادات نبتت في غفلة من الزمن أكثر مما هي مشاريع شعب. فالشعب اللبناني، بكل مكوناته التاريخية، طيب ومسالم واتحادي. أنس الحياة المشتركة وآمن تدريجا بلبنان وارتضاه. لكن غريزة الانقياد الطائفي تدفع غالبيته إلى التبعية العمياء، إلى فلسفة "بالروح بالدم نفديك يا..." مهما تقلب الـ"يا..." في مواقفه. لقد حول بعض الزعماء طوائفهم إلى طوائف مغلقة حيث يمارسون التنويم السياسي والتطييع. إن للتاريخ أحيانا طعم الهزل القاتل.

علاوة على التطورات الخارجية، تعود أسباب تلك التحولات السلبية إلى أن الفئات التي قامت على "المارونية السياسية" بالتنسيق مع قوى خارجية، أخذت في طريقها النظام اللبناني برمته وفشلت في إقامة نظام تفاعلي وتكاملي جديد من جهة، وفي احتواء مجتمعاتها من جهة أخرى. فوقع لبنان في قبضة الميليشيات، وقوى متطرفة، وأطراف غريبة عدوانية. أضاع لبنان نظامه الفكري وفكره النظامي اللذين كان يفترض أن يواكب من خلالهما العولمة والتقدم.

تأثير هذه التحولات اللبنانية، لاسيما أنماط الحياة الجديدة المستوردة، جاء أخطر من كل التحولات التي شهدها لبنان عبر تاريخه منذ قرنين. فجمع سكان "لبنان الكبير" لم يخلق آنذاك فجوات قاطعة كالتي برزت في العقود الثلاثة الأخيرة. يوجد اليوم فالق حضاري بين لبنان ما قبل تسعينات القرن الماضي ولبنان ما بعدها، ويقوم حجاب اجتماعي بين لبنانيي التقاليد اللبنانية الأصيلة ولبنانيي أنماط الحياة المستوردة. ليس هذا الشعب هو الذي تواثق على الحياة المشتركة. لبنانيو الميثاق أصبحوا مغلوبين على أمرهم في البيئات المسيحية والإسلامية. بات الميثاق يفتقر إلى بيئة حاضنة. التهينا بالسجال حول الوطنية وأهملنا الوطن.

في ما مضى، كان إذا حصل ازدحام مروري، تلقى المسؤولية على "المارونية السياسية". على من تلقى اليوم مسؤولية ترنح لبنان وانحطاطه وتعديل رسالته وتصدره قائمة الدول المتخلفة؟ على من تلقى اليوم مسؤولية الدولة الضعيفة والديمقراطية المعلقة ودور لبنان المغيب والحدود السائبة والدويلات المغمورة والسلاح المتفلت؟ على من تلقى اليوم مسؤولية هذا السفول الحضاري والثقافي والفني والمنخفض الأخلاقي وهبوط مستوى التعليم؟ على من تلقى اليوم مسؤولية المديونية الزاحفة وتراجع الخدمات وتوالي الكوارث الاقتصادية والضائقة المعيشية والأزمة الوطنية واللعب بالاستحقاقات الدستورية؟ أين خلفاء المارونية السياسية؟ المسيحيون بنوا دولة حضارية لجميع اللبنانيين، لكنها تشوهت وما عادت اليوم للمسيحيين ولا حتى للمسلمين.

والإشكالية الكبرى أن الجماعات اللبنانية (مكونات الشعب) تواصل مطالبة هذا النظام المجوف بخدمات وحاجات شتى كأنه نظام قائم، فيما هو بات من أصحاب "الاحتياجات الخاصة". تتجاهل هذه الجماعات أن قدرات النظام (الدولة) أصبحت في عهدة "منظومات" بديلة (منظمة أو فوضوية) ضربت عن قصد أسس النظام، وأوقعته عن معرفة تحت مديونية جعلته عاجزا عن تلبية مطالب الناس إلا باستدانة إضافية. فمنذ سنة 1990 والطبقة الحاكمة التي استولت على الدولة تسحب كل خيرات النظام المركزي بشكل منهجي تحت غطاء الشرعية والمؤسسات. واللافت أن الجماعات اللبنانية تطالب الدولة الفقيرة والعاجزة بكل ما هو اجتماعي ومالي، وتعطي المنظومات الغنية والقادرة كل ما هو سياسي ووطني. مأساة أن يعتبر الناس الدولة خادمتهم، وهم خدام السياسيين.

هكذا، عدا الأزمة السياسية، نحن أمام أزمة خيارات وجودية ناتجة عن الصراع بين عقلنا وغريزتنا وبين طائفيتنا ووطنيتنا. وقبل أن نكون أمام عملية فساد إداري، نحن أمام عملية سلب دولة مستمر منذ ثلاثين سنة على الأقل. لذلك، ما لم ينتصر العقل وتتغير الطبقة السياسية وتسقط مشاريعها، سيبقى "النظام العام" تائها. وأبرز ترجمة دستورية لهذا الواقع أن لبنان يعيش في مرحلة انتقالية طال أمدها: ما عاد في نظام مركزي ولا صار في نظام لامركزي. لا هو موحد وطنيا ولا هو مقسم دستوريا. لا هو في حكم توافقي صحيح ولا هو في نظام برلماني طبيعي. لا هو حيادي تجاه الصراعات ولا هو منحاز كليا إلى محور خاص. انتصرنا على الأعداء وهزمنا أمام أنفسنا.

لبنان طائرة فقدت توازنها لأن طيارين كثرا يقودونها نحو وجهات مختلفة بتوجيهات متناقضة من دون رادار. لا هي تسقط ولا هي تهبط، لكنها تسير وعين الله ترعاها.