النفط في سمائه والعراق فيه جوع
حين فُرض الحصار الدولي على العراق عام 1990 بعد احتلال الكويت كانت الغاية منه فرض ضغوط دولية على النظام من خلال تجويع الشعب العراقي. لم تكن تلك الوسيلة معلنة غير أن ما انتهى إليه الواقع من تداعيات فضحها. يومها استطاع النظام أن يحقق اختراقا عظيما من خلال اختراع الحصة التموينية. لولا ذلك الاختراع لكانت الامور المعيشية قد تدهورت في وقت قياسي ولما استطاع النظام أن يصمد ثلاث عشرة سنة عصيبة إلى أن تم اسقاطه عن طريق الغزو العسكري الذي مهد لقيام عراق جديد.
يومها كانت الدولة تتصف بالانضباط وكانت النزاهة سمة لا يمكن الاستخفاف بها أو المزاح من خلالها. لذلك نجحت خطة الحصة التموينية في انقاذ فئات كثيرة من الشعب العراقي من السقوط في هاوية الجوع المباشر. ولو أن الأمور سارت على ذلك النحو المنضبط والمتقشف لما تدهورت الأوضاع المعيشية لتلك الفئات إلى الدرجة التي
اندفعت معها تلك الفئات المحمية بالبطاقة التموينية إلى أسفل خط الفقر مدفوعة برياح السلوك المجاني للدولة التي صار يقودها صبيان الرئيس من حاشيته وأقربائه.
ما يعنيني هنا حقيقة أن العراق كان قد مر بظرف قاس نجا شعبه فيه من الجوع بفضل التفكير الوطني السليم والسلوك المنضبط بعد أن تم تصفير وارادات الدولة المالية.
مقارنة بتلك المرحلة المعقدة يبدو ما يحدث اليوم في العراق نوعا من الجنون الذي لم يعد صفة استثنائية. فالعراق بلد مجنون على مستويات عدة ليس من بينها أن يتفتق ذلك الجنون عن ابداع في المجالات الثقافية التي عُرف من خلالها العراق وطنا للشعر والغناء.
اما ما يُصدم أن تعلن منظمة الأغذية الدولية العراق بلدا جائعا.
كانت الجملة التي قالها شاعره الكبير بدر شاكر السياب في قصيدته الشهيرة "انشودة المطر" تقريرية ولم تكن نبوءة. "والعراق فيه جوع" غير أن التناقض الغرائبي يبدو جليا اليوم ما بين عراق محاصر لم يكن جائعا وبين عراق ثري صار جوع شعبه واحدة من أهم علامات دولته الفاشلة.
ومما يدعو إلى السخرية أن الحكومة العراقية اختلفت مع منظمة الأغذية حول مفهوم الفقر وفي ما إذا كان ذلك الفقر يعني أن نسبة الجياع في العراق قد زادت من عدد الجائعين أم أنها خفضت أعدادهم.
ولأن المنظمات الدولية تعتمد على الوثائق الرسمية فقد كان تقرير منظمة الأغذية صادما. ما تقوله التقارير العراقية أن هناك أكثر من 30% من العراقيين هم تحت خط الفقر. اما الفقراء فإن نسبتهم تصل إلى 40% أو أكثر.
من وجهة نظر الحكومة العراقية التي لا تنكر أرقامها فإن الفقر متعدد ومتنوع وهو في أنواع منه لن يؤدي حتما إلى الجوع. أما أن يُعتبر العراق واحدا من أكثر الدول التي يهدد الجوع شعبها فذلك يضرب على عصب سياسي لن يتمكن حكام العراق من التعامل معه ايجابيا.
صور الواقع لا تكذب. هناك اليوم عراقيون يبحثون عن غذائهم في المزابل. تلك حقيقة لا يمكن انكارها. فهي ليست من صنع خيال معاد. لا تتعلق المسألة بفقر متعدد الأنواع، بل تتجاوزه إلى مرحلة تحت الفقر. وهي مرحلة يتساوى فيها الإنسان مع الحيوان السائب.
تقرير منظمة الأغذية الدولي يؤكد أن العراق يقع ضمن سبع دول هي الأكثر مجاعة في العالم. في الوقت نفسه يعلن العراق عن وجود فائض مالي يُقدر بـ 16 مليار دولار. تناقض كارثي يصعب تصديقه، غير أن ما شهده العراق بعد 2003 من كوارث إنسانية يُدخل ذلك التناقض في سياق البنية المهشمة للدولة التي نخرها الفساد وليست لدى أي طرف من الأطراف التي سلمها الأميركان السلطة أية رغبة حقيقية في التراجع ولو قليلا عن مكتسباتها التي تحققت على حساب حق المواطن العراقي في الحصول على الغذاء والدواء والتعليم والمياه الصالحة للشرب والكهرباء وسواها من مفردات العيش الكريم.
ثلث العراقيين جائعون لأن هناك طبقة من الأثرياء الجدد وجدت الطريق أمامها سالكة للاستيلاء على الجزء الأكبر من أموال العراق اما ما يتبقى فإنه يوزع على شكل رواتب تبقي الموظفين في دوامة البحث عن حلول يغلب عليها طابع الفساد بعد أن تم تطبيعه اجتماعيا والقبول به ثقافيا وتمريره دينيا عن طريق فتاوى رخيصة.
في ظل ما يعيشه العراق من تجاذبات حزبية طائفية فليس من المتوقع أن يتراجع عدد الجائعين بل سيزداد حتما. ذلك لا يشكل عقبة أمام دعاة الاصلاح الذين يدافعون عن ديمقراطية لا تريد من الجائعين سوى أصواتهم من غير أن يحذروا العصف الذي يمكن أن تصدره تلك الأصوات ليمحقهم.
العراق بلد جائع. تلك جملة فجائعية غير أنها الفجيعة التي تمهد للخلاص.