النورماندي.. الاستذكار الانساني الغائب

لا بد من اعتبار تلك المرحلة صفحة سوداء، اسهمت في صناعتها سياسات الجشع وحب الاستحواذ ونهب ثروات الشعوب الضعيفة.

في كتابه الموسوعي والتاريخي الكبير (قصة الحضارة)، يقول الفيلسوف والمؤرخ الاميركي الشهير، ول ديورانت "ان تاريخ المدنيّة ليعلمنا في كل خطوة من خطوات سيره، كم تبلغ قشرة الحضارة من الرقّة والوهن، وكيف تقوم المدنية على شفا جرف هار، فوق قمة بركان لا يخمد سعيره، من وحشية وخرافة وجهل مكبوت. ان المدنية العصرية، ليست سوى غطاء وضع وضعا على قمة العصور الوسطى، ولا تزال تلك العصور ولن تزال باقية". كثيرا ما اتذكر هذه العبارة، او تذكرني بها مواقف تحصل باستمرار، وفي مختلف بقاع العالم، المتقدم منه والمتخلف على حد سواء. فالتطرف العقائدي بشكل عام، دينيا كان او قوميا او حزبيا، والذي تراجع اكثر مؤخرا، ليغدو تطرفا عرقيا وطائفيا، عاد بالانسانية الى ممارسات القرون الوسطى، ولكن بادوات قتل حضارية! وقد رافق هذا الهوس المرعب، جهد اعلامي وثقافي موجه، افاد كثيرا من التقدم التقني المتمثل بالبث الفضائي والانترنت وغيرها من وسائل الاتصال، ليكرس هذا الواقع المرير.
تابعت مؤخرا، الاحتفالية الكبيرة التي اقامها زعماء دول (الحلفاء) خلال الحرب العالمية الثانية، في منطقة نورماندي الساحلية الفرنسية، التي شهدت انزال الحلفاء الشهير في 6-6-1944 لتحرير فرنسا من الاحتلال الالماني. احتفالية هذا العام كانت مميزة، كونها تحمل الذكرى الخامسة والسبعين، وحضرها الرئيس الاميركي ترامب الى جانب الرئيس الفرنسي ماكرون، وغاب عنها الرئيس الروسي بوتين، لاسباب غير معروفة، لكن الضباب المخيم على العلاقات الاميركية الروسية، واختلافهما في اكثر من ميدان ملتهب، ربما يكون وراء هذا الغياب. 
ليس مهما حضور هذا الرئيس او ذاك، وليس هذا ما دعانا الى التوقف عند هذه المناسبة، بل اردنا الحديث عن مسالة مهمة، تتصل بمقولة ديورانت التي وضعناها في مقدمة هذه السطور، أي شهوة الانتصار العسكري التي ما زالت تحكم ثقافة العالم وتصيّر اخلاقه بشكل او بآخر، ولعل الاحتفال بانتصار عسكري، لا يعني فقط بالنسبة للمنتصر، احتفالا بالسلام كما يدعي، بل محاولة لاستعادة نشوة الانتصار، ولو بعد عقود طويلة! وهذه احدى مستدعيات الكراهية التي لم تتخفف منها البشرية الى اليوم. لا نأتي بجديد حين نقول ان سبب ظهور النازية في المانيا، بجنونها المرعب الذي تسبب بمقتل الملايين، كان سياسة الاقصاء والنفي التي قامت بها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى، واهانة الشعب الالماني واذلاله وتجويعه، بعد معاهدة فرساي الجائرة العام 1919، وفق نظرية المنتصر والمهزوم، ليزرعوا بذرة الحقد والكراهية في نفوس الناس، التي وجدت في هتلر، الزعيم الذي سيعيد للامة اعتبارها وكرامتها المسفوحة، مثلما سيعيد لها الحياة التي جفت في المدن الالمانية بفعل التعويضات الكبيرة التي افقرتهم، قبل ان يكتشفوا انه ذهب بهم الى هاوية سحيقة، بفعل جنون العظمة الذي تملكه وحساباته الخاطئة. وهذه حقيقة لا تتحمل النفي ولا تحتاج الى تاكيد، أي ان تكالب الدول الكبرى جميعها على المغانم والنفوذ والتوسع في القارات الاخرى، كان وراء الحرب العالمية الاولى التي خسرتها المانيا، وتمخضت بعدها بالوليد النازي المشوه.
لقد غاب ما كان يجب ان يحضر، اي الاحتفال الثقافي والانساني بالمناسبة، ليس في فرنسا وحدها بل في احتفاليات جميع الدول الاخرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، كروسيا وغيرها، لأنها اقتصرت على ابراز الجانب العسكري وتكريم المحاربين القدامى، ونقصد بالاحتفال الانساني والثقافي، هو عقد ندوات كبيرة لمفكرين وعلماء وكتاب راي مرموقين، للوقوف على الاسباب التي دفعت العالم الى هاوية حربين عالميتين، احرقتا الاخضر واليابس، ونقد التاريخ السياسي بروح عصرية، أي تشخيص الاخطاء التي كانت وراء هذا الجنون والخراب، وتكريم الرموز الانسانية والثقافية الكبيرة في العالم التي رفضت فكرة الحرب من حيث المبدأ، من الفلاسفة والمفكرين والفنانين والادباء، والنظر الى الامام بعد عدّ تلك المرحلة صفحة سوداء، اسهمت في صناعتها سياسات الجشع وحب الاستحواذ ونهب ثروات الشعوب الضعيفة، وليست مصالح تلك الدول بالضرورة، لكي لا تتكرر المأساة في اوروبا او خارجها. 
ما يؤسفنا قوله اليوم، هو ان جوهر تلك السياسات ما زال قائما، ولو بأشكال وأقنعة جديدة، وهو ما يؤكد مقولة ديورانت. ودقتها ايضا!