الواقعية الروحية في الأعمال الروائية

محمد جبريل يجد في الواقعية الروحية تعبيرًا متماهيًا، أو موازيًا للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات مبدعي أميركا اللاتينية.
تفاعل الرواية وبقية الأنواع ربما يشكل عملًا تجريبيًّا مغايرًا للمألوف السردي
الفائز الحقيقي لم يكن أنا بل كان القلب

"سيمفونية روح" رواية تفاعلية لصاحبها أحمد عزت الصباغ الذي أدلى بشهادته الأدبية في الجلسة التي ترأسها الروائي واسيني الأعرج بملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي "الرواية في عصر المعلومات"، وقال الصباغ: حين حصلت روايتي "سيمفونية روح" على جائزة الشارقة الثقافية عام ٢٠١٦ لم أشعر بفرحة ما وصلت إليه، إذ أن الفائز الحقيقي لم يكن أنا بل كان القلب، نعم بطل روايتي قلب نُقل إلى قلب رجل آخر، تتبعت أغلب القلوب التي نُقلت لصدور مختلفة، بدأت بأميركا وكانت دهشات متلاحقة في كل ولاية أبحث فيها عن مشاعر صاحب أو صاحبة القلب المنقول لهم.
وأضاف: كل شيء، صدقوني هذا ما اعترفت به كلير سليفيا في كتابها الذي كشفت فيه كل شيء عندما نُقل إليها قلب شخص آخر (رجل)، كل شيء تغير حتى مشيتها وطريقة كلامها ما بالكم بالمشاعر ..!
كانت القلوب التي طارت تطير مع حروفي، لا أهتدي إلى قصة قلب حتى يغار قلب مما كتبت فيضخ روحه في الحبكة برمتها. حقًا وعجبًا فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!
وأوضح الصباغ: علميًا كانت وروحيًا حدثت ولكن أن تخرج البطلة من بين الصفحات وتتشكل بشرًا سويًا تاركة فراغًا سحريًا في الكتاب كله، لا يدخل منه إلا مَن ذاق وعرف. رأيتها تكلمني، لم أصدق في البداية، فكرت أنني أحلم، لكن كلما تراودني الفكرة كنت أفتح رسائلها، هى البطلة التي غيرت مسار أحداثي، ضربت الرواية بمشرط أحد من السيف وأرفع مِن الشعرة، حتى تركتني على أعراف الحد الفاصل بين الحلم والعِلم!
لكني للأمانة أحببتها أكثر لأنها أحبتني بقلب، كل شيء زائل إلا وجهه، نعم، نقل لها قلب آخر مَن يعبث بي الآن، الخالد الزائل أم الموجود الفاني، أم أنها الرواية التفاعلية بغموضها؟
ويعترف الكاتب قائلا: هذا ما حدث فكانت هى بطلة الرواية الحقيقية والمدهشة، بعد سنتين تأتيني بقصتها معي، قلبها مات، ليس مجازا دفنته بيدي، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على محبتها، ولكن قلبها رحل فكانت سيمفونية روح شاهدة على أغرب رواية كنت أتتبعها لأكتبها، فوجدتها هى مَن تتبعني وتكتبني. وتساءل: كيف يحدث هذا أنا لا أصدق حتى الآن. هل الرواية التفاعلية يمكن أن تطارد الكاتب وتخلق شخصيات في عالم من الحكاية يسقط عندها الحد الفاصل بين الحِلم والعِلم؟ 

Cairo forum for creative fiction
معظم ما أكتبه يستمد أحداثه وشخصياته من حياة عشتها

هذا ما حدث معي، حالة من الوهم والنشوة في السرد، هنا الغموض يلف حول الزمان والمكان ليتماهى معها كل ما عدا النص، ولكن هناك ورطة بعيدة علينا أن نُحايلها كي لا نسقط في فخ المسرحية الشهيرة للكاتب الإيطالي لويجي براندلو "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، أن يجد الروائي نفسه جزءا من البحث عن شخصياته مع الجمهور ويختفي الكاتب داخله، وبل ويصبح واحدًا من الحكاية كما تورطت انا.
هى حالة من التوازن بين الكائن والكيان إذا رجحت فيها كفة دون الأخرى كان الخالد الفاني على الزائل الموجود أكثر تعبيرية وشجاعة لمواجهة حروفه التي يغمسها الروائي في دمه قبل أن تتشكل على سطور الورق.
أما الجانب الأكثر حيوية في الرواية التفاعلية، هو أن يجد القاريء نفسه واحدًا من جنود المعركة الكتابية التي يراها بعيونه، ويفتح آفاقًا جديدة من خلال التكنولوجيا للمساهمة في خلق شخوص الحكاية وانعكاسها على واقعية الروائي السحرية.
بل ربما تصبح الرواية التفاعلية واحدة من حروب الجيل الرابع لمطاردة حياتنا كلها، ومحاولة محاكاتها.
أنا شخصيًا لا أستبعد أن تطلق الرواية التفاعلية انتفاضة مؤثرة في جيل يتذوق الفن ويدرك جمالياته للتغلب على الفجوة بين ما يريده الروائي وما يستشعره القاريء.
أما الكاتب الكبير محمد جبريل فلم يتمكن من حضور الجلسة ـ لأسباب صحية ـ وأناب زوجته الناقدة الدكتورة زينب العسال التي قرأت ما كتبه جبريل في شهادته قائلا:
قرأت، بعد أن تعلمت القراءة، ما تضمه مكتبة أبي من كتب السياسة والاقتصاد والتاريخ والتراث والأدب، لا أذكر أنه روى لي حكاية مما كان يرويها لي جدَّاي لأمي من الحواديت التي ألهبت خيالي، والأغنيات المحمَّلة بالصور التي أستطيع أن أنسبها الآن، إلى العجائبية. 
حكايات الأجداد والجدات تبين عن مغايرة في حكايات الآخرين. إنها تنطلق في الخيال إلى آفاق مطلقة، أما الحكايات الأخرى فإن آفاقها محدودة.
إذا كانت شهرزاد قد روت حكايات، استمعت إليها من حكَّائين آخرين، أو أنها من تأليف مخيلتها، فإنها قد روت ما وصل كل حكاية بواقعة آنية في مجلس السلطان، ما حدث يذكرني بواقعة فلان، أو علان، وتبدأ في الحكي. الأمر إذن لا يخلو من عفوية لجأت إلى مخزون معرفي وخبراتي وحكائي، وهو ما يتحقَّق في مقولة "القصة تكتب نفسها". المبدع لا يكتب من فراغ، عفوية القص تستند - بالضرورة - إلى منابع تنهل منها.
القصة تكتب نفسها، بمعنى أنه حين أبدأ في كتابة عمل ما، فإن صورته في ذهني لا تكون واضحة تمامًا. إني أكتفي بالفكرة دون تفصيلات، وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة، لكنني أفضل أن يكتب العمل نفسه، بمعنى أني أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة، حتى لحظة ترك القلم، ذلك تعسُّف لا أتصور أني أقدم عليه. 
عندما أبدأ الكتابة، فإني أعتمد كثيرًا على الخبرات - خبراتي وخبرات الآخرين - الكامنة والمترسِّبة في أعماقي. لا أجهد نفسي في البحث، ولا أحاول انتزاعها، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق، تظهر في الوقت الذي تريده، وعلى النحو الذي تريده، دون تعمُّد ولا قسر من ناحيتي، وربما تكون الشخصية، أو الحادثة، غائبة تمامًا، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة.
هل تخضع الهوية للجدة والقدم؟ هل هي الأرقام والإحصاءات والمعلومات التي تهبنا خلفية معرفية للسرد الإبداعي في التعرف إلى البيئة والجماعة التي يتناولها السارد في أعماله؟ هل الهوية في الوطن والمواطنة؟ هل هي في المعتقدات والتقاليد والعادات التي تطرح المغايرة بين جماعة وأخرى، المشهد في عمومياته، وليس في تفصيلاته الدقيقة. الشخصية - كما نعلم - للأفراد وليست للجماعة، الجماعة تتقارب في الكثير من الملامح والقسمات، في حين تظل لكل شخصية مفردة خصائصها المميزة.
وأوضح جبريل: ظني أن الدلالة واضحة في اختيار عنوان "مصر في قصص كتابها المعاصرين" لأحد كتبي، أردت أن أدرس الشخصية المصرية من خلال الأعمال السردية لمبدعيها، ولم أكن أملك الموارد المادية التي حفَّزت شتاينبك لاصطحاب كلبه تشارلي في رحلة إلى عمق المناطق الأميركية، سعيًا للمشاهدة والاكتشاف وملامسة الشخصية الأميركية في تعدد بيئاتها. كانت رحلتي على الورق، عبر الإبداع السردي، بديلًا مناسبًا، وتكشَّفت لي صورة المجتمع المصري، بتعدُّد بيئاته، شيئًا فشيئًا، المدينة والقرية والساحل والبادية إلخ، وهو ما أضاف وبدَّل من بانورامية المشهد في نظري، قبل أن أخلو للكتابة.
وفي رأي جيريل أن ما يغيب عن معظم إبداعنا العربي، وأتصور أنه لا بد أن يكون بعدًا أساسيًّا في أي عمل روائي أو قصصي، هو فلسفة الحياة، والفلسفة التي أعنيها هي الرؤية الشاملة وليست الميتافيزيقا وحدها. الميتافيزيقا بعد مهم، لكنها جزء من أبعاد الحياة الإنسانية جميعًا. 

ويؤكد أن الأدب غير الفلسفة، لكنه في الوقت نفسه، تصور للعالم، يرتكز إلى درجة من الوعي، وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس. 

ويشير جبريل إلى أن المقاومة هي العنوان العريض لفلسفة حياته كما تدل كتاباته المختلفة، ويقول: ثمة مقاومة الخوف والمطاردة والسلطة الظالمة، وفي المقدمة مقاومتي للعدوان الذي نعانيه، وهو العدوان الصهيوني على أرضي وموروثاتي وقيمي وهويتي، في المقابل فإني أوافق على الرأي بأن الأدب ليس معملًا لماكينات الدعاية، لكنه ممارسة مستمرة، ودون هذا العنصر من التحمُّس، من جانب من يكتب، ومن جانب من يقرأ، لا قيمة لأي عمل أدبي، ولا معنى له على الإطلاق.
ويذكر أنه وجد في الواقعية الروحية تعبيرًا متماهيًا، أو موازيًا للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات مبدعي أميركا اللاتينية، ويقول: وجدت في الواقعية الروحية معنى أشد عمقًا للإبداعات التي تستند إلى الموروث الشعبي، بداية بالميتافيزيقا، وانتهاء بالممارسات التي تنسب إلى الصوفية. مكاشفات وبركات الصوفية تتماهي مع بنية الواقعية الروحية، وتوظيف الفن للبعد الصوفي ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات، لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآنية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس، وغيرها. 
ويوضح مفهوم الواقعية الروحية بأنها تعبير عن صلة الأحياء بالميتافيزيقا، بما بعد الطبيعة، بالعالم الآخر، بالمعتقدات، والممارسات المتولدة من ظاهرة الموت، والمصاحبة لها، بركات الأولياء، ومكاشفاتهم، واليقين أن زيارة أعزائنا الراحلين تأكيد للصلة القائمة، الممتدة، إلى ما بعد الرحيل بأعوام طويلة. إذا رأينا في المنام غاليًا، فسرنا الأمر بفرحه أو ضيقه من أحداث نعيشها.
باختصار: فإن الروحية هي التعبير العلمي والموضوعي لإبداعاتنا التي تنظر إلى الضفة الأخرى، أو تحاول أن تنتقل إليها.
ويمضي محمد جبريل في شهادته الأدبية قائلا: كان توقفي عن السرد الإبداعي خلال ما يقرب من السنوات التسع بدافع التجريب والمغايرة، وكانت روايتي الأولى "الأسوار" هي التعبير عن الأبعاد التي توصلت إليها. تجاوزت في محاولاتي الروائية والقصصية تقليدية الحكي، كما في أعمال سابقة - أعترف بامتيازها - وقلَّلت إلى حد الاستغناء أسلوب التذكر والاستعادة، الحدث الذي تتذكَّره الشخصية يرد في السياق، وعلى القارئ أن يفطن إلى الفنية التي تشكَّلت منها اللحظة، وشغلت أن تفيد الرواية من الفنون الأخر؛ درامية الحوار، القص واللصق والتبقيع كما في الفن التشكيلي، الهارموني الموسيقي، استدعاء التراث، الفلاش باك والتقطيع كما في الأفلام السينمائية، وجهة نظري أنه إذا كانت الفنون، بتنوعها، تفيد على نحو أو آخر من الحكي، فإن تفاعل الرواية وبقية الأنواع ربما يشكل عملًا تجريبيًّا مغايرًا للمألوف السردي في الفترة التي كتبت فيها الأسوار (الفترة ما بين أواسط الستينيات وأوائل السبعينيات).
وأوضح: نحن نجد في تناول العلاقة بين الأنا والآخر تعميقًا للهوية الوطنية أو القومية، ثمة على سبيل المثال: "أديب" طه حسين، و"عصفور من الشرق" للحكيم، و"قنديل أم هاشم" لحقي، و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"السيدة فيينا" لإدريس، و"أصوات" لفياض، وغيرها، ولعلِّي أستأذنك في أن أضيف محاولات، عنيت بتناول هذه العلاقة الملتبسة بين الأنا والآخر: "الشاطئ الآخر"، "زمان الوصل"، "صيد العصاري"، وغيرها.
ويشير جبريل إلى أنه حين يعود إلى قراءة ما كتب، فإنه يكتشف أنه وضع نفسه في تلك الكتابات. ويقول: إن معظم ما أكتبه يستمد أحداثه وشخصياته من حياة عشتها، وشخصيات تعرَّفت إليها. إن سيرتي الذاتية موجودة في كتاباتي، سواء تلك التي تروي السيرة بصورة مباشرة، أو من خلال تناثر ملامحها وقسماتها في الأعمال الإبداعية، مع ذلك فإني أرفض أن يكون فهم السيرة الذاتية من خلال قراءة العمل الإبداعي، واستكناه معانيه ودلالاته، ربما بغير ما تحتمله، وأحيانًا بعكس ما تحتمله. 
يبقى أني لا أهدف بما قد ينتسب للسيرة الذاتية إلى تحقيق الإصلاح الاجتماعي، ولا إلى تبديل الأوضاع السياسية، ولا لإعطاء المثل، أو الإشارة إلى الأخطاء التي ربما وقعت فيها، فيتجنبها القارئ، بل إني لا أجد فيما بلغته ما يمكن نسبته إلى النجاح، بحيث أكشف للقارئ أسرار ذلك النجاح، بل إني لم أتوقع – وكتبي يتوالى صدورها – جزاءً عاجلًا.