الواقع والتأويل عند مكيافيلي

يجب أن نتدرّب على الفصل بين الشّخص والأفكار، فمقدار المعاناة نيكولو مكيافيلي باعتباره إنسانًا خرج من نواتها بكتاب قيّم جدًّا، بالتّالي كان لزامًا أن نفصل بين مكيافيلي الإنسان والمكيافيليّة المنعوتة بأبشع الصّفات.

كان العصر اليوناني مثاليا من حيث الأفكار التي سادت بخصوص المدينة الفاضلة، التي ترقى في سمو فكرها نحو السماء تاركة الأرض تغوص في سلبياتها وواقعها المزري، فكان أفلاطون سيد المدينة الفاضلة التي أنشأها لكي يسعى الإنسان محاولة الاقتراب منها بدل العيش في حياة عملية بئيسة، وكان من بين أول أوصاف هذه المدينة الحالمة المثالية أن يحكمها الفلاسفة الحكماء العقلاء إذا أرادت الاستمرار والوصول بالإنسان إلى بر الأمان مما يتخبط فيه من ويلات وحروب، إذ يقول أفلاطون: "إنّ الدّولة لن تتخلّص من نشرورها إلّا إذا حَكمها الفلاسفة"(1).

وفي سياق متصل كان الشأن نفسه في العصور الوسطى في التربة الإسلامية مع أبي نصر الفارابي العالم المسلم الذي قال بالفكرة نفسها، ولكن ما فارق بسيط هو الانتقال من المدينة المحدودة جغرافيا إلى الأمة الأوسع نطاقا، فنجده يقول عن حاكمها أنه: «رئيس الأمّة الفاضلة، ورئيس المعمورة من الأرض كلّها»(2).

ولكن مع بروز الحداثة الغربية بداية القرن الخامس عشر ميلادي، تحولت الأفكار السابقة عن المدينة الفاضلة من الخيال إلى الواقع، ولعل الذي جسد النموذج الحقيقي لهذا القلب المنهجي هو الإيطالي نيكولومكيافيلي، الذي أحدث قطيعة إبستمولوجية بالانتقال من المدن الفاضلة إلى الواقعية السياسية.

   وُلد نيكولو مكيافيلي في فلورنسا سنة 1469م، وكان والده محاميًا في المدينة نفسها، تلقّى "مكيافيلي" التّعليم المعتاد الذي يشمل أولاد الأسر البرجوازيّة، فَدَرَسَ اللّغة اللّاتينيّة، والتّاريخ الرّومانيّ. ومِن حسن حظّه، أنّه شهد مجموعة أحداث، ووقائع قيّمة من تاريخ فلورنسا بداية عصر النّهضة؛ إذ عاش فترة أهمّ ملوك أسرة آل ميديتشي، والتي عُيِّن بعدها مباشرة أمينا لمجلس الحرب لمدة أربعة عشر عاما.

   ففي سنة 1502م، أُرسل "مكيافيلي"ضمن بعثة رسميّة إلى "سيزار دي بورجيا" في "أربينو"، حيث التقاه وتأثّر به، ووجد فيه الرّجُل السّياسيّالمستبدّ الذي استطاع القضاء على مناوئيه وأعدائه كلّهم، وبَسَطَ سيطرته ونفوذه على منطقة واسعة من إيطاليا، وأصبح "بورجيا"بعدها بطل فلسفة "مكيافيلي".كما أرسل إلى فرنسا وهولاندا في بعثات مشابهة.

   وفي سنة 1507م، تقدّم "مكيافيلي" بمشروع للحكومة الفلورنسيّة، يهدف تكوين جيش قويّ من أبناء الشّعب، عِوض الاعتماد على المرتزقة، ولقي المُقترح ترحيبًا تكلّف "مكيافيلي" شخصيًّا بإنجازه،إذ اهتمّ كثيرًا بالقضايا العسكريّة، وبذل كلّ ما بوسعه لكي تتخلّص فلورنسا من المرتزقة، وتُشَكِّل جيشًا شعبيًّا، كان يظنّه قادرًا على التّنظيم والقيادة ميدانيًّا، وفي هذا الصّدد، نشير إلى كون "مكيافيلي" ألّف كتابًا كاملًا حول "فنّ الحرب"، ارتقى فيه إلى مستوى التّنظير ممزوجًا بالمُمارسة الميدانيّة.

كانت هذه التجربة الميدانية الباعث الحقيقي لمكيافيلي الذي دفعه لأن يؤلف كتابه الشهير "الأمير"، أملا في العودة إلى الوظيفة بعدما تم نفيه إلى ضواحي مدينته فلورنسا، ولكن دون جدوى. يقول حول أسباب تأليفه الكتاب ما يلي: "ألَّفتُ كتيِّبًا سمّيته في الإمارة، غرقتُ فيه إلى أبعد عمق أستطيع من التّفكير في هذا الموضوع، وبحثتُ فيه طبيعة الإمارة، وعدد أنواعها، وطريق الوصول إليها، والاحتفاظ بها، وسبب ضياعها"(3).

كانت بداية الكتاب بإهداء خاطف عنوانه: من "نيكولو مكيافيلي" إلى "لورينزو" الابن العظيم "لبييرو دي ميديتشي"،سعى فيه مكيافيلي لنيل رضى الأمير والأسرة الحاكمة كما يظهر بدايته، قائلًا: "من المعروف، أنّ أولئك الذين يسعون إلى نيل رضاء أحد الأمراء، يجتهدون في تقديم الهدايا الثّمينة ذات القيمة الغالية إليه"(4)؛ في حين وعكس ذلك، أهدى مكيافيلي للأمير الحاكم كتابًا سمّاه "شيئًا متواضعًا"، بمعنى لا يرقى إلى الهدايا العينيّة الثّمينة، فيقول: "لكنّني على أيّ حال، أودّ أن أهدي سموّكم الكريم شيئًا متواضعًا يدلّ على إخلاصي لكم"(5).

فضم الكتاب -زيادة على هذا الإهداء- محاور رئيسية كما درستُها كالاتي: الحكومات والمماليك وصفاتهما، ثم الجنود وأنواعها، فشخصية الأمير، وأخيرا الحاشية المقربة وتوحيد إيطاليا.

ومما يُلاحظ على هذه المحاور، أنها لا تلامس بتاتا أي شيء يتعلق بالمدينة الفاضلة التي تتصل بالسماء، أو ما يجب أن يكون، بحيث ناقش مكيافيلي الأمور الكائنة الموجودة فعلا، وهو الذي أشرنا له سابقا بالقطيعة السياسية، إذ أعطى للسياسة منحا آخر، ناقش فيه بقوة مسألة الخير والشر والأخلاق. فالكتاب يدور كله حول نسبية هذه الثنائية، فما يكون شرا هنا قد يكون خيرا هناك، وهو التفسير الذي لم يفهمه كثيرون، فسارعوا إلى اتهامه بالخروج عن سلطة الأسرة الحاكمة والمروق عنها.

ولكن الحقيقة التي عبّر عنها الدارسون منذ ذلك الحين، أن مكيافيلي سابق عصره في المسألة السياسية، بدليل أنه ناقش في فصول الكتاب الستة والعشرون المختصرة، مسائل الحرب والسياسية بمثال واقع جرى في الماضي أو الحاضر، ولم يقدم غير هذه الأمثلة الواقعية، وهي مسألة مثيرة آنذاك في فكر الرجل، الذي استطاع أن يدرس صفات الأمراء وسياساتهم المختلفة الواقعية لا الحالمة.فغاص في تفاصيل الإمارة وكيفية حكمها، وكيف يمكن السيطرة عليها من الأعداء والمرتزقة، كل هذه الأمور في سرد وصفي واقعي مثير، وكأنه يحكي قصة من بدايتها حتى نهايتها، بأسلوب متقن.

كان مكيافيلي، وما يزال، يُلهم عديد الدّارسين والحكّام على السّواء، لِما كانت أفكاره الجرّيئة، التي طرحها قبل خمسة قرون، مازالت تُسيل مداد البحث والتّحليل. فلم يكن فِكر الرّجل مهتمًّا بثالوث الأمراء والشّعب والجيش فقط، بقدر ما كان يستهدف حلّ إشكاليات فكريّة وفلسفيّة عظمى، منها أن الكتاب يظهر للوهلة الأولى، عبارة عن نصائح ذهبيّة للأمير، كي يحافظ على حُكمه ويقمع كلّ محاولة للإطاحة به، ولكنّه في الحقيقة تنوير للشّعب، وفتح عيونه على كافّة المسائل السّياسيّة التي تُدار بها الدّول والحكومات، ومعرفة الخبايا والخفايا. لكي يكون بمقدور الشّعب الحقيقيّ-ليسأصحابالمصالحالذينيرمونمنشفةالغدر فيأيّةلحظة-، التّدخّل في الأمر الذي يروْن أنّه لا يخدمهم لتصحيحه وتقويمه، فالكتاب كان سلاحًا دو حدّين.

وأخيرا يجب أن نتدرّب على الفصل بين الشّخص والأفكار، فمقدار المعاناة التي عانهاالرّجل باعتباره إنسانًا، خرج من نواتها بكتاب قيّم جدًّا، بالتّالي كان لزامًا أن نفصل بين مكيافيلي الإنسان، والمكيافيليّة التي نُعتت بأبشع الصّفات،هناك اختلاف إذًا يجب أخذه بعين الاعتبار.


الإحالات والهوامش

(1) جمهورية أفلاطون، أفلاطون، ترجمة ودراسة فؤاد زكريا ، دارالوفاء لدنيا الطباعة والنشر ،الإسكندرية، ط1/2004م،ص:371.

(2) أراء أهل المدينة الفاضلة، أبو نصر الفارابي، تقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق بيروت لبنان، ط2/1968م، ص:127.

(3)مكيافيلي أمير الفلسفة السياسية، إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط1/1994م، ص:44.

(4) الأمير، نيكولو مكيافيلي، ترجمة أكرم مؤمن، مكتبة ابن سينا للطبع والنشر، القاهرة، ط1/2004م، ص:19.

(5) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.