الوعي الجمعي العراقي وخذلانه لثورة تشرين

تعود العراقيون على المسير خلف الغالب. ينتظرون ويترقبون.

واهِم من يظن بأن الشعب العراقي كله أو بغالبيته مع ثورة أجياله الشابة التي إنطلقت مطلع تشرين الماضي. فالغالبية هي على الأغلب، إما بالضد منها، لأنها ترى فيها خطراً على مصالحها المرتبطة ببقاء السلطة الحالية والوضع الحالي على فسادهما.. أو على الحياد، لتركب موجتها في حال فازت، أو تتبرأ منها في حال فشلت. ففي حال فازت سيّدعون بأنهم كانوا معها بقلوبهم لكنهم كانوا يخافون إظهار ذلك. وفي حال فشلت سيهاجمونها ليُظهِروا للسلطة بأنهم لم يكونوا راضين عنها، وقد يذهبون بعيداً الى درجة تقريع شبابها ومعاقبتهم، لأنهم غالباً أولادهم وأبناء عشائرهم.

هذه الإزدواجية ليست جديدة على الشخصية العراقية الكلاسيكية، فهي من أبرز صفاتها التي تشكل وعيها المأزوم، لأنها تنشأ عليها في الصغر، وتترسخ فيها من محيطها المجتمعي في الكِبَر. وهذا هو حال غالبية أجيال المجتمع العراقي السابقة، بسبب طبيعة الثقافة الدينية والظروف السياسية والأجواء المجتمعية التي عاشتها، والتي رَفدت فيها هذه الصِفة بمفاهيم تنعشها بدل أن تجففها. لكن الأجيال الحالية شَذّت عَن هذه القاعدة، لأنها نشأت في زمن مختلف وأجواء جديدة، زمن الانترنت وأجواء مواقع التواصل الاجتماعي التي أنضجت وعيها مبكراً، لذا خرجت لتحقق ما تفكر به وتريده، ولم تنتظر أن تتحقق الأمور من تلقاء نفسها، أو أن يحققها لها بطل قومي أو زعيم ديني أو الله، كحال الأجيال السابقة.

لو كان الوعي الجمعي العراقي مع الثورة، لما إستغرقت كل هذا الوقت بين خطوة وأخرى مِن خطواتها، ولحَسَمت أمرها وحَقّقت أهدافها بعد أيام أو حتى أسابيع، كما حدث مع الثورة المصرية، وأقصد ثورة يونيو وليس يناير، لأن يناير كانت إنقلابا أخوانيا على كيان ووجود الدولة المصرية، أفشله الشعب بثورة قياسية، بالعدد والزمان، أو الثورة السودانية، أو الجزائرية، أو التونسية. أما في الحالة العراقية فالغالبية جالسة في البيوت تنتظر الفرج، فان تحقق كان بها، وإن لم يتحقق فهي "متعودة دايماً" على حالها الذي هي فيه ومتقبلة له، وستتقبل أن يَسوء أكثر ولن تفتح فمها ببنت شفة لأنها جُبِلت على الذل والخنوع. كما أنها لو كانت مع الثورة لرأيناها تملأ الشوارع ولتوقفت الحياة في البلاد لبضعة أيام، مما كان سيثير إنتباه العالم سريعاً، إذ لم ينتبه العالم سوى بعد فترة حينما بدأت ميليشيات الأحزاب وأجهزة الدولة المتواطئة معها بإغتيال الناشطين وقمع المتظاهرين بوحشية. لكن الحياة مُستمرة ومَظاهر الثورة رغم وضوحها موجودة ببعض الساحات الرئيسية من المدن فقط، بل وقد ثارت ثائرة الكثير من العراقيين حينما تعاطفت بعض المدارس والجامعات وبعض النقابات مع الثورة وتضامنت معها، إما إضراباً، أو خروجاً معها في ساحات التظاهر، فبدأ العويل والصراخ على النظام التعليمي في العراق وضياع السنة الدراسية على الطلبة، وكأنهم يتحدثون عن النظام التعليمي النرويجي، وليس عن نظام تعليمي متخلف طائفي مُسَيّس، ومدارس خرِبة يجلس فيها الطالب على الأرض ليس فيها شبابيك ولا مرافق صحية ولا أبسط الخدمات، وتقام فيها عزيات ولطميات!

بالنتيجة، الثورة هي ثورة شبابية وستبقى كذلك الى حين، ومَن يَدّعي غير ذلك من الأجيال الباقية التي تمثل الغالبية، واهِم، أو يُريد أن يَسرق تضحيات الشباب ويَنسُب لنفسه ولجيله الخانع ما ليس فيهما، كما أن جمهورها لا يزال أقلية لا تتجاوز 5% من مجموع الشعب العراقي الذي بلغت نفوسه 35 مليون كما يقال. فمن خرجوا في تظاهرات الثورة منذ إنطلاقتها حتى اليوم وفي عِز ذروتها لم يتجاوزوا المليون، ولن يصلوا مستقبلاً وفي أحسن الأحوال ووفق أكثر التوقعات تفاؤلاً الى أكثر من 10%. فهذه هي طبيعة الشعب العراقي وتركيبة شخصيته السلبية، التي تمتاز بالإزدواجية التي تستعملها للتلون مع الأحداث وتقلباتها بدل إتخاذ مواقف واضحة تتطلب المواجهة والحَسم.

لذا أغلب الظن سيبقى الثوار الى أمد طويل وحدهم مع قلة قليلة متعاطفة معهم، وعليهم أن يراهِنوا على تعاطف المحيط العربي والمجتمع الدولي وتفاعله وتضامنه معهم، ومساعدته لهم لإنجاح حراكهم وتحقيق مطالبهم، أكثر من المراهنة على أهاليهم ونخبهم وعشائرهم، لأنهم حينها سيكونون قد راهنوا على حصان خاسر. فمن ذكرناهم تعوّدوا أن يربطوا مصالحهم بالنظام القائم، أياً كان، لذا فهم غير مستعدين للمجازفة بهذه المصالح الآنية التي يملكونها ويمسكونها باليد لصالح أحلام وتمنيات قد تكون سراباً لا يتحقق مِن وجهة نظرهم، وبالتالي لا يمكن التعويل عليهم لا في هذه المرحلة ولا في المستقبل. فحتى في حال تحقق الجزء الأول من مطالب الثوار، والمتمثل بإختيار رئيس وزراء مقبول، يتولى إدارة فترة إنتقالية، يتم فيها تعديل الدستور وإقرار قانون أحزاب وإجراء إنتخابات مبكرة، فمن غير المتوقع أن يكون دورهم فيها إيجابياً لأن أصواتهم ستذهب على الأغلب للقوى الكلاسيكية الحالية أو بدائلها للمرحلة القادمة، والتي ستحرص هذه الأجيال على بقائها في السلطة، لارتباط مصالحها بها وبقواعدها المُتغلغلة في مؤسسات الدولة، ولعدم ثقتها بإمكانية الأجيال الشابة بإدارة البلاد في حال وصولها اليها.

لن تنجح ثورة سياسية ضد سلطة فاسدة إن لم تسبقها ثورة فكرية تنهَض بوَعي مجتمعه وتُنضِجه، عبر تطهير العقول من لوثها، والنفوس من أمراضها، لأن الفساد سيعيد إنتاج نفسه.