انتخابات العراق.. ديمقراطية شكلية، لتثبيت دعائم النظام المهزوز

يحتاج العراق إلى أكثر من مقاطعة ناقصة وغير واعية لكي يتم تصحيح المسار فيه.
لحظة تشرين أنتجت فراغا سياسيا كبيرا في المشهد العراقي
انخفاض ملحوظ في عدد المواطنين المؤمنين بالتغيير عن طريق صندوق الإقتراع

بعد سنين عجاف وانغلاق لأفق الحلول وانعدام الأمل برؤية دولة تُمارس فيها ديمقراطية حقيقية لا شكلية وتتخذ من المواطنة كمعيار للتمايز والتفاضل بين المواطنين، دولة مؤسسات وقوى أمنية دستورية تنفذ القانون على الجميع، دولة ذات سيادة وقرار مستقل غير خاضعة لتأثير الأجندة الخارجية، بعد أن كان الحديث عن هذهِ الدولة خيارًا غير واقعي ولا يمكن تحقيقه إطلاقًا الا بمعجزة غير متوقعة او شيء من هذا القبيل، وفي أكبر لحظات اليأس والخيبة اللتين تملكتا المواطن العراقي آنذاك وعلى حين غرّة، أتت لحظة "إنتفاضة تشرين" لتعيد تعريف الثوابت والمتعارفات على صعيدي المشهدين السياسي والإجتماعي في العراق، إنتفاضة شيعية المناطق وطنية المنطلق.

لحظة تشرين أنتجت فراغا سياسيا كبيرا في المشهد العراقي. فبعد أن ضربت هذهِ الانتفاضة شرعية نفوذ الأحزاب وأضعفت موقفها في الشارع تركت للفاعلين في الحراك الإحتجاجي المجال لبلورة هذهِ الغضب الشعبي سياسيًا وملئ الفراغ الحاصل، من خلال إنتاج أحزاب سياسية برؤية جديدة مغايرة عما موجود من أحزاب العوائل والشخوص الفاسدة والسياقات غير الديمقراطية التي حكمت العراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري.

إعلان المعارضة السياسية من قبل الفاعلين في الحراك الإحتجاجي والحركات السياسية المنبثقة من تشرين أتى بسبب جملة من المعطيات التي أظهرها النظام السياسي في العراق، ولعل أبرزها التملص عن العهود التي قطعت أثناء ذروة الحراك الإحتجاجي وتسويف المطالب المتعلقة بتقديم قتلة المحتجين للعدالة ومحاسبتهم، بالإضافة لغياب الجدّية في الحد من المال الانتخابي الفاسد الذي يقوض وجود عملية إنتخابية نزيهة وعدم وجود إشراف ومراقبة دولية على الانتخابات وعدم وجود قرار سياسي يدفع بإتجاه تفعيل قانون الأحزاب الذي يُمثل المطلب المحوري في مسألة الحد من السلاح المنفلت والمال السياسي الفاسد والأجندة الخارجية التي تؤثر سلبًا على مجرى المخرج الديمقراطي الأخير المتمثل بصندوق الإقتراع.

كل هذهِ العوامل لا تعد ترفًا إحتجاجيًا وأحلام غير واقعية إنما تمثل الغاية القصوى والضرورة الملحة للدفع بإتجاه الإنتخابات من عدمه، فالديمقراطية ليست صندوق إقتراع فقط إنما عدّة ممارسات وإشتراطات، إبتداءً بالإجماع على الدولة وقواها الأمنية الدستورية، وأيضًا وجود حرية على مستوى التعبير والنشر والصحافة والتجمع والتظاهر، بالإضافة لوجود ما يدعم ويحمي هذهِ الممارسات كالقوانين والتشريعات ومن ثم يأتي خيار صندوق الإقتراع في النهاية.. أي أن الانتخابات تأتي بعد عملية ديمقراطية متكاملة غير منقوصة حتى تفضي في النهاية لنتائج من شأنها تعديل مسار البلد وإنقاذه من التيه والضياع الذي يمر فيه، ولكن بظل عدم وجود هذهِ الإشتراطات والممارسات والقوانين التي تحمي هذهِ الممارسات وبظل وجود ذات المقدمات إذن ما قيمة نتائج الانتخابات المحكومة بالسلاح والمال الفاسد والاجندة الخارجية والتنافس غير العادل؟

في العام الانتخابي 2018 كانت دعوات المعارضين للنظام السياسي في العراق تتمثل بمقاطعة الإنتخابات ايضًا وهذا ما قد يتخذه المناهضين لفكرة المقاطعة الآن كبوابة لضرب فكرة المقاطعة مرة أخرى على إعتبار أن مقاطعة 2018 أتاحت المجال وأفرغت المقاعد لقوى السلاح الراديكالية بإعتلاء سدّة الحكم في البلد. ولكن حري بالذكر أن مقاطعة 2018 نظريًا كانت إحدى مقدمات "إنتفاضة تشرين" من منطلق "مقاطعة الإنتخابات وعدم الإشتراك في سياقات هذا النظام، تُسهل عملية الخروج عليه ورفضه فيما بعد". وهذا الذي حصل، اما عمليًا فأنها كانت مقاطعة ناقصة غير واعية وغير مكتملة، لانها لم تحمل معها البديل السياسي الحزبي وإن كان ناشئًا كما الآن، ولم تكن محملة بسقف طموح عالي ومساحة كافية للتحرك السياسي كما هو الآن، لم يرافق المقاطعة آنذاك البرنامج السياسي المعارض المستند على رؤى تحمل البديل على المستوى السياسي، الإقتصادي، الإجتماعي، الآن يتم العمل على ذلك قوى المعارضة اصبحت نوعًا ما أكثر نضجًا وتمرسًا في العمل السياسي، هنالك تنويع في الأساليب الإحتجاجية.

وهنا ايضًا يأتي دور ومسؤولية الحكومات والمنظمات الدولية التي لديها إلتزامات حقيقية تجاه ديمقراطية ما بعد 2003 في العراق بدعم الحركات الناشئة وفواعل الإحتجاج أصحاب الطموحات الديمقراطية من أجل إعادة وضع الديمقراطية في العراق على المسار الصحيح، الذهاب نحو الإنتخابات وفق ذات المعطيات الموجودة منذ 2006 "اول عملية إنتخابية" وحتى الان هو تكريس لمفهوم الديمقراطية المشوّهة والعرجاء في العراق والتي على المجتمع الدولي تدارك هذهِ المعضلة قبل تفاقمها وتحولها لصداع مزمن وعملية يصعب التكهن بمخرجاتها فيما بعد ولنا في التنظيمات الإرهابية السنية بعد إنتخابات 2006، 2010 والميليشيات الارهابية الشيعية وأصحاب الطموحات غير الديمقراطية بعد إنتخابات 2014، 2018 خير مثال، هذهِ الحركات والتنظيمات والميليشيات نتائج طبيعية ومنطقية لعدم وجود ديمقراطية حقيقية في العراق. وستستمر هذهِ النتائج المشوهة بتهديد المصالح والسلم المجتمعي والإقليمي والعالم ككل ما لم يتم تداركها ووضع حلول ناجعة وسليمة لها.

يذكر وبحسب مراقبون أن الإنتخابات العراقية تشهد إنخفاضًا ملحوظًا في عدد المواطنين المؤمنين بالتغيير عن طريق صندوق الإقتراع، وشهدت إنتخابات 2018 النسبة الاكبر من المقاطعة الشعبية وبلغ عدد المشاركين في تلك العملية اقل من 20% ‎ من عدد سكان العراق.