انقاذ لبنان... لا يكون بالهرب

الجهل غطاء لتغطية وجود "عهد قويّ" هو في الواقع "عهد حزب الله" لا اكثر ولا اقلّ.

كلّما مرّ يوم، يزداد الانهيار في لبنان انهيارا. انّه انهيار في ظلّ الانهيار. يبدو البلد وكأنه كرة حديد تسقط من مكان مرتفع في حال من الفراغ من دون كوابح من ايّ نوع.

هذا الكلام ليس مبالغات، بل هو صادر عن اشخاص يعرفون تماما ما الذي على المحكّ في لبنان، كما يعرفون النتائج المترتبة على غياب الوعي لدى المسؤولين لخطورة الازمة الاقتصادية ومدى عمقها، خصوصا بسبب الوضع الناجم عن احتجاز المصارف لاموال المودعين.

ثمّة حاجة الى قراءة للأرقام المتوافرة عن عدد المؤسسات التجارية والشركات والمطاعم التي أغلقت أبوابها وعدد اللبنانيين الذين فقدوا وظائفهم والعائلات التي صارت من دون معيل. تساعد الأرقام في التأكد من ان الكارثة حصلت وان البحث عن مخرج يزداد صعوبة كلّ يوم.

هناك قبل ايّ شيء غياب القدرة لدى المسؤولين الكبار على استيعاب اهمّية عامل الوقت. لا قدرة لدى هؤلاء على فهم لماذا نزل الناس الى الشارع ابتداء من السابع عشر من تشرين الاوّل – أكتوبر الماضي، أي منذ ما يزيد على أربعة اشهر بغية وضع حدّ للفساد وفرض تشكيل حكومة جديدة من نوع مختلف تتعامل مع مشاكل البلد بطريقة على علاقة بمفهوم الدول التي تمتلك مؤسسات حقيقية. مشاكل البلد معروفة وهي تبدأ بالكهرباء، وما تسببه من عجز في الموازنة تحديدا، وتنتهي بالنفايات، مرورا في طبيعة الحال بالفساد وتعثر النظام المصرفي الذي يبقى الى اشعار آخر العمود الفقري للاقتصاد اللبناني.

ليس هناك من يريد ادراك ان هذا النظام المصرفي حمى لبنان منذ ما يزيد على نصف قرن وكان موضع ثقة اللبنانيين والعرب والأجانب في الوقت ذاته. هل لا يزال في الإمكان استعادة الثقة بالنظام المصرفي اللبناني، أي بلبنان نفسه؟ الاكيد ان استعادة الثقة بالنظام المصرفي لا تكون عبر تظاهر انصار "التيّار الوطني الحر" من عونيين وانصار لهم امام مصرف لبنان (البنك المركزي) بدل جعل مؤسسات الدولة، على رأسها رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، تتحمّل مسؤولياتها. ماذا تنفع تظاهرة امام مصرف لبنان في هذه الظروف بالذات؟ اليست مثل هذه التظاهرة دليلا على رغبة في هرب كبار المسؤولين من تحمّل مسؤولياتهم؟ الا تعكس مثل هذه التظاهرة السخيفة حقدا اعمى على نجاح "الحريرية السياسية" في إعادة الحياة الى بيروت ولبنان بعد العام 1992 ووضع البلد مجدّدا على خريطة الشرق الاوسط والعالم؟

باختصار شديد، لا يمكن الهرب من تحمّل المسؤولية بالهرب الى تظاهرة امام المصرف المركزي او العودة ثلاثين سنة الى خلف.

كان الهدف من الحراك الشعبي، الذي اخذ طابع الثورة، فرض إصلاحات حقيقية يتولّى تنفيذها وزراء قادرون على ان يكونوا افضل بكثير من مستشارين لسياسيين كانوا شركاء في لعبة المحاصة. هذا الامر لم يحصل. كان الرئيس سعد الحريري بين السياسيين القلائل الذين فهموا سريعا ابعاد الحراك الشعبي وكونه ثورة حقيقية. قدّم استقالة حكومته أواخر تشرين الاوّل – أكتوبر الماضي على امل تشكيل حكومة اختصاصيين حقيقيين قادرين على كسب ثقة الناس في الداخل والدول العربية القادرة على مساعدة لبنان، فضلا عن المجتمع الدولي.

ليس سرّا ان على ايّ حكومة فعالة ان تكون قادرة على مدّ الجسور مع المجتمع الدولي ومع الولايات المتحدة وأوروبا تحديدا. يحلم من يعتقد ان لبنان سيحصل على ايّ مساعدة من دون حكومة لا تنفّذ الإصلاحات المطلوبة من جهة وتعمل من اجل الحصول على ثقة المؤسسات المالية الدولية في مقدّمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من جهة أخرى. يحلم ايضا من يعتقد انّ مؤتمر "سيدر" الذي انعقد في باريس في نيسان – ابريل من العام 2018، أي منذ اقل من سنتين بقليل، ما زال مستعدا لمساعدة لبنان في غياب الإصلاحات المطلوبة من جهة والشراكة بين القطاعين العام والخاص من جهة أخرى.

ادّت المماحكات الى تفويت القدرة على استفادة لبنان من مؤتمر "سيدر". كان مؤسفا انّ أحدا لم يرد الاستماع الى فريق العمل الاقتصادي في رئاسة مجلس الوزراء، ايّام سعد الحريري، من منطلق ان الوقت لا يعمل لمصلحة لبنان. هناك من أراد فقط الاستثمار في كيفية اجراء انتخابات نيابية بموجب قانون غريب عجيب ينبثق عنها مجلس نيابي فيه أكثرية لـ"حزب الله". هذا ما كشفه قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الايراني الذي لم يتردّد في القول، قبل اغتياله على يد الاميركيين، ان ايران باتت تمتلك أكثرية في مجلس النوّاب اللبناني الجديد.

من اكبر الاخطاء التي ارتكبتها حكومة حسّان دياب، فضلا بالطبع عن انّ حسّان دياب هو بحد ذاته الرجل الخطأ في المكان الخطأ، عدم الإصرار على الصلاحيات الاستثنائية قبل نيلها الثقة. ليس لدى هذه الحكومة أي استيعاب لاهمّية الوقت. لم يتغيّر شيء منذ وصول ميشال عون الى رئاسة الجمهورية في تشرين الاوّل – أكتوبر 2016. يؤكد ذلك ان ملفّ الكهرباء بقي يراوح مكانه في حين ان الحلول العملية موجودة. على العكس من ذلك، بدا ان الهمّ الاوّل لما سمّي "العهد القوي" تصفية حساباته مع اهل السنّة ومع وليد جنبلاط ومع سياسيين مسيحيين لديهم وجودهم. من بين هؤلاء سمير جعجع وسامي الجميّل، وحتّى سليمان فرنجيّة المشارك في الحكومة.

من دون صلاحيات استثنائية تحتاجها الحكومة اللبنانية للإصلاحات المطلوبة، ستبقى المماحكات سيدّة الموقف. سيبقى لبنان عاجزا عن مواجهة الواقع المتمثّل في اهمّية الوقت والحاجة الى خيارات واضحة، بدل الهرب من الواقع المؤلم الذي يجسده عجز "التيّار الوطني الحر" عن حلّ مشكلة الكهرباء بعد احد عشر عاما في وزارة الطاقة...

بكلام أوضح، لا يستطيع لبنان ان يسمح لنفسه بان تكون حكومته "حكومة حزب الله" وان يراهن على ان عامل الوقت يصبّ في مصلحته وان يعزل نفسه عربيا وان يتجاهل عامل الوقت في آن. في النهاية منذ متى كان الجهل سياسة؟ اللهمّ الّا اذا كان الجهل غطاء لتغطية وجود "عهد قويّ" هو في الواقع "عهد حزب الله" لا اكثر ولا اقلّ.

لا تغني البهلوانيات عن العودة الى الواقع. الواقع يقول ان وضع لبنان ليس ميؤوسا منه على الرغم من الانهيار الحاصل. توجد حلول. من يجرؤ على الاعتراف بان لا حلول في حال تجاهل عامل الوقت والحاجة الى مواقف جريئة عربيا ودوليا مع ما يعنيه ذلك من اثبات، بالفعل وليس بالقول، انّ "العهد القوي" ليس عهد ايران في لبنان.