انقلاب لبناني تحت جنح الشرعية

يظن الانقلابيون بأن الجيش لا يقاتلهم بحكم تعددية تركيبته، لهذا يركزون على إسقاط مصرف لبنان لضرب النقد وإخضاع المجتمع. أما الباقي فيسقط وحده.

مسموح لجميع القوى اللبنانية أن تقوم بانقلاب إلا الجيش اللبناني. وأصلا، إن نوعية القوى السياسية العاملة في لبنان منذ سنوات هي بغالبيتها ميليشيوية وعسكرية المنبت. لم تفصل بين سلوكها أثناء الحرب وسلوكها أثناء السلام، لا بل تواصل حروبها من مواقع جديدة بأشكال أخرى. منذ نعومة أظافرها - وأظافرها لم تكن يوما ناعمة - وهذه القوى تعمل للاستيلاء على الدولة لا على الحكم فقط؛ وسخرت كل مؤسسة بلغتها للانقلاب على الديمقراطية والدولة ولابتداع أعراف بقوة الأمر الواقع. حتى أن إطلاق المعركة الوهمية لمكافحة الفساد كانت جزءا من المشروع الانقلابي لا جزءا من مشروع إصلاحي.

لبنان في مسار انقلابي عام. منا من يقوم بانقلاب على نفسه ومنا على مبادئه، منا على حلفائه ومنا على تاريخه، منا على المودعين ومنا على الشعب. كل طرف يريد لبنان على قياسه وقياس أوليائه. هناك من يسعى إلى نقل ديمقراطية لبنان إلى زمن الانقلابات العربية، وأمنه إلى زمن الوصاية السورية، ونمط حياته إلى مجتمع الثورة الإيرانية، وثورة شبابه إلى جنوح "الربيع العربي"، واقتصاده إلى واقع العالم المتخلف، وحضارته إلى زمن القرون الصحراوية. لكن، غاب عن بال الجميع أن كل حالة سياسية رافقتها تاريخيا حدود جغرافية مختلفة عن الأخرى. بعد مشروع لبنان الكبير لم يبرز في لبنان مشروع حضاري آخر.

تقوم بالانقلابات على الشرعية عادة قوة ضد الشرعية، لكني لا أعرف انقلابا تقوم به قوة غير شرعية بالتعاون مع أطراف في الشرعية ومن خلال الشرعية. ما يحصل على الصعيد المالي ليس سوى جزء من انقلاب موصوف على النظام السياسي برمته. المستهدف هو "النظام الوطني التاريخي" بجميع خصائصه الديمقراطية والليبرالية والمجتمعية والحضارية. فالنظام اللبناني متكامل ومترابط، إذا سقط حجر منه انهار العقد كله. والمؤسف أن الجماعة المصرفية تشارك في الانقلاب على نفسها من خلال انقلابها على المودعين وخيانة الأمانة وسوء استعمال أموالهم من دون موافقتهم، ما سيعرضها قريبا للملاحقة مهما كانت التشريعات الاستدراكية لأن الحق المسبق يعلو على كل قانون لاحق، ولأن القانون القائم يعلو على كل إجراء إداري.

يجري الانقلاب وسط سكوت مريب يلتزم به من يفترض أن يواجهوه ويقاوموه بالوسائل كافة. يطال هذا الانقلاب الميادين السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية؛ ويحتكم إلى التهويل والترهيب والترغيب. يعمد الانقلابيون إلى افتعال أزمات وإثارة ملفات جانبية لإلهاء الشعب عن المشروع الأساسي. يراضون فريقا بالسكوت عن فساده، وآخر باختراع ملفات ضده، وآخر بفتات تعيينات، وآخر بفائض تشكيلات، وآخر بمناصب من دون صلاحيات، وآخر بسراب رئاسي. نعم، نقطة الضعف الأساسية التي وضع الانقلابيون يدهم عليها لتحييد الفئات التي تتصدى تاريخيا لانقلابات من هذا النوع هي رئاسة الجمهورية. جرثومة تصيب بعض السياسيين الموارنة المتلهفين إلى هذا المنصب، فيفقدون توازن تفكيرهم ويسترون مواقفهم الوطنية. إلى هؤلاء يلوح الانقلابيون بمنصب رئاسة الجمهورية ويسيطرون هم على الجمهورية. عادة لم تخطئ منذ "اتفاق القاهرة" سنة 1969...

كل هذه "التقديمات" التي يسخى بها الانقلابيون هي من كيس النظام القائم، وهي أصلا أحمال يتخلصون منها لتصفية النظام وتحضير "الأرض" أمام النظام البديل. يتقصدون إحداث قطيعة بين نظام ونظام وتصفير الزمن اللبناني. لكن أمامهم بعد عائقين: الجيش اللبناني (قوة الوطن) والمصرف المركزي (النقد اللبناني). وإذ يظن الانقلابيون بأن الجيش لا يقاتلهم بحكم تعددية تركيبته، فإنهم يركزون على إسقاط مصرف لبنان لضرب النقد وإخضاع المجتمع، أما الباقي فيسقط وحده. إنهم يستخدمون أسلوب الشيوعية لإقامة نظام غير شيوعي، ويعتمدون فكر أحديا في بلد متعدد الأديان والطوائف والمذاهب.

ينفذ هذا الانقلاب يوما بعد يوم وقطعة بعد قطعة. كل قطعة مستقلة عن الأخرى. مثل مصانع السيارات حيث كل وحدة إنتاج تصنع جزءا، ثم تجمع الأجزاء في سيارة ناجزة. هكذا، سنستيقظ فجر أحد الأيام - أو غروبه - على مشهد لبناني جديد كما كانت تستيقظ الشعوب العربية على البلاغ "رقم واحد". نحن هنا أمام مجموعة بلاغات صغيرة تعطى على جرعات لحصر الأضرار الجانبية، ولكي لا ينكشف الانقلاب قبل اكتماله.

رغم ذلك، هناك من يتجاهل الاعتراف بالحالة الانقلابية ويسخف الأحداث ويعتبرها غيمة وتمضي. شعوب كثيرة عبر التاريخ الحديث وقعت ضحية تحليل قياداتها السطحي واللامبالي فخسرت أنظمتها ووحدة أوطانها. إن المسؤولية الوطنية تستدعي التحرك السريع قبل اكتمال الانقلاب. ولا يكفي أن نتصدى له فقط فنعطل البلد، بل أن نقوم بانقلاب سياسي مضاد ينقذ الرئاسة والجمهورية والدولة والوطن. ثمن المواجهة اليوم أقل كلفة من الغد. وإذا كانت ظروف رئيس الجمهورية لا تمكنه من أن يتوجه إلى دول العالم، فلتبادر جبهة وطنية جامعة وتراسل الدول الكبرى والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والڤاتيكان وجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي. دور هذه الجبهة لا أن تشرح لجميع هذه المرجعيات المشروع الانقلابي فقط، بل أن تدعو المجتمع الدولي إلى إنقاذ لبنان بكل الوسائل التي تجيزها الأمم المتحدة أو قدرات مجموعة دول. منذ سنوات أكتب عن ضرورة السعي إلى تنظيم مؤتمر دولي يضمن الوجود اللبناني ويحميه. آن الأوان قبل فوات الأوان.

سنة 280 ق.م. كانت روما على شفير السقوط أمام أحد ملوك اليونان، "ﭘيروس الأول" (Pyrrhus)، وسط ضياع أركان الدولة الرومانية، فما كان من السيناتور العجوز الأعمى "آﭘيوس كلاوديوس"، إلا أن هب ورفع معنويات الرومان فحققوا النصر. لولا "كلاوديوس" لكان تغير وجه روما وتاريخها. ترى، أفي لبنان من يأخذ المبادرة بعد، أم صار الجميع عميانا و...صما؟