ايران بين مجازفتين

طهران لم تدرك ان وقت الحساب جاء.

ادرج وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو خروج ايران من سوريا في خانة الشروط المطلوب من طهران تنفيذها في حال تريد إقامة علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي على رأسه الولايات المتحدة. جاءت كل الشروط التي وضعها بومبيو في سياق تحديد الاستراتيجية الاميركية الجديدة في المواجهة مع ايران في ضوء قرار الرئيس دونالد ترامب القاضي بالانسحاب من الاتفاق في شأن الملف النووي الايراني الموقع صيف العام 2015.

سمح الاتفاق لإيران في الحصول على ما يكفي من المال الذي اغدقته عليها إدارة باراك أوباما كي تتابع تنفيذ مشروعها التوسّعي القائم على الاستثمار في اثارة الغرائز المذهبية في المنطقة العربية كلها، فضلا بالطبع عن المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية والفلسطينيين والتشجيع على انشاء ميليشيات مذهبية تكون ذراعا لها في هذا البلد العربي او ذاك.

يتبيّن من خلال قراءة سريعة لكلام وزير الخارجية الاميركي ان هناك وعيا حقيقيا لخطورة المشروع الايراني وادواته. أشار بومبيو صراحة الى "حزب الله" والى الحوثيين الذين يطلقون صواريخ باليستية إيرانية في اتجاه الأراضي السعودية انطلاقا من اليمن. أشار أيضا الى الوضع الداخلي الايراني والى توق الشباب في هذا البلد ذي الحضارة القديمة الى الانتماء الى ما هو عصري في هذا العالم، أي الى ثقافة الحياة التي يكرهها النظام الايراني وكلّ الذين يسيرون في ركابه. انطوى كلام بومبيو على دعوة مباشرة الى تغيير النظام في ايران.

يظلّ اهم ما في كلام وزير الخارجية الاميركي شرط الانسحاب الايراني من سوريا. هل في استطاعة النظام في ايران الانسحاب من سوريا من دون ان ينسحب من طهران. سيكون ذلك صعبا عليه لاسباب عدّة. من بين هذه الأسباب حجم الاستثمار الايراني في سوريا وفي المحافظة على رأس النظام المتمثل ببشّار الأسد. باعتراف المسؤولين الايرانيين انفسهم، صرفت ايران في سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبية في العام 2011 ما يزيد على خمسة وعشرين مليار دولار. دافعت ايران عن بقاء بشّار الأسد في دمشق. جندت مئات الخبراء العسكريين وعناصر "الحرس الثوري" وآلاف من عناصر "حزب الله" و"الحشد الشعبي" في العراق والميليشيات الأفغانية في حربها على الشعب السوري. فعلت كلّ ذلك من منطلق مذهبي ليس الّا وتحت شعارات طائفية من نوع الدفاع عن مقام السيّدة زينب ومقامات اخرى وما شابه ذلك.

كانت النتيجة فشلا إيرانيا ذريعا على كل صعيد والتضحية بمئات الشبان اللبنانيين الذين جنْدهم "حزب الله" وارسلهم الى سوريا. فوق ذلك كلّه، لم تستطع ايران إبقاء بشّار في دمشق لولا استعانتها بروسيا التي باشرت التدخّل المباشر في الحرب التي يشنها النظام السوري على مواطنيه منذ أواخر أيلول – سبتمبر 2015. لولا سلاح الجوّ الروسي، لكان بشّار خارج دمشق منذ فترة طويلة ولكان الساحل السوري كلّه في يد المعارضة.

تكمن مشكلة ايران في انّها ترفض دفع ثمن سياسة عاجزة عن متابعتها بمفردها، خصوصا في سوريا. لم تأخذ في الاعتبار انّه سيأتي يوم يتغيّر فيه باراك أوباما ويأتي دونالد ترامب الذي يعرف الذين يصيغون خطاباته ماذا فعل النظام الايراني بالايرانيين اوّلا وما ارتكبه من جرائم في حق الولايات المتحدة. ليس صدفة استعادة الرئيس الاميركي بين وقت وآخر احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران 444 يوما في العامين 1979 و1980 وتفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في الثالث والعشرين من تشرين الاوّل- أكتوبر 1983 وخطف اميركيين في لبنان في ثمانينات القرن الماضي. هذا غيض من فيض ما لدى الإدارة الاميركية من مآخذ على ايران التي لم تدرك ان وقت الحساب جاء.

هناك واقع يتمثل في حلول وقت الحساب. تحاول ايران الإفلات من هذا الواقع، بما في ذلك التحالف الأقوى في المنطقة القائم بين روسيا وإسرائيل. هذا تحالف لم تعد من حاجة الى تأكيد متانته بعد حلول بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ضيف شرف على روسيا في ذكرى احتفالها بالانتصار على النازية. هناك ما يزيد على مليون روسي صاروا مواطنين في إسرائيل. ما زال المسؤولون في موسكو يسمون هؤلاء "مواطنين في إسرائيل". ينتمي الروس الذين انتقلوا الى إسرائيل، على دفعات، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي الى الأحزاب اليمينية التي تشكل العمود الفقري للحكومة الإسرائيلية الحالية.

عندما يبلغ فلاديمير بوتين بشّار الأسد انّه بات على القوات الأجنبية، بما في ذلك الخبراء والمستشارون الايرانيون وعناصر التابعة لـ"حزب الله" ولغيره من الميليشيات المذهبية، الانسحاب من الأراضي السورية، يُفترض في طهران فهم معنى الرسالة والاستيعاب التام للمعطيات الجديدة التي تفرض عليها تغيير نمط سلوكها.

انّ دعوة روسيا ايران الى الانسحاب من سوريا اكثر من جدّية. جاء وزير الخارجية الاميركي ليؤكّد ذلك وليؤكد خصوصا انّ الضربات "المجهولة" المصدر التي تتلقاها المواقع الايرانية في سوريا لن تتوقف غدا. تمثل هذه الضربات ما يمكن تسميته، باللغة المتداولة في الاوساط الرسمية السورية "التعليمات التنفيذية". تعني هذه "التعليمات" انّه آن أوان تنفيذ ما تقرّر على اعلى مستويات. فالقانون والمرسوم والقرار الرئاسي في سوريا يبقى حبرا على ورق في المجال الداخلي الى ان تأتي "التعليمات التنفيذية". وفي ما يخص الموضوع السوري، صدرت "التعليمات التنفيذية" من اعلى المستويات، أي من التفاهم الاميركي – الروسي الذي يشمل إسرائيل التي انتقلت الى مرحلة لم يعد فيها مجال لقبول الوجود العسكري الايراني المباشر او غير المباشر في الأراضي السورية، خصوصا في الجنوب السوري.

هل تستطيع ايران التكيّف مع هذا الواقع الجديد المتمثّل في صدور "التعليمات التنفيذية" من دون الذهاب الى تفجير الوضع في المنطقة كلّها على الرغم من ان ذلك مجازفة كبيرة بالنسبة اليها، خصوصا اذا طلبت من "حزب الله" إعادة فتح جبهة جنوب لبنان؟

الأكيد ان ايران تزن هذه الايام الموقف وما سيكلفها الانسحاب من سوريا او قرار البقاء فيها. الأكيد انّ في ذهن كلّ مسؤول إيراني ان الانسحاب السوري من لبنان في نيسان – ابريل 2005، ادّى الى خروج النظام من دمشق، حتّى لو بقي بشّار فيها شكليا. ترجمة هذا الكلام على ارض الواقع ان البقاء في سوريا مجازفة والانسحاب مجازفة. على أي مجازفة من المجازفتين ستقدم ايران بعدما وضعت نفسها في موقف لا تحسد عليه؟ من ابرز ما تنطوي عليه أي مجازفة إيرانية، في أي اتجاه كان، مستقبل النظام الذي بنى كلّ قوته على الهرب المستمر الى خارج الأرض الايرانية.