ايران والتصالح مع الواقع

لا شكّ ان ايران تمتلك لوبي قويّا في واشنطن. لكنّ نجاح الجمهوريين في انتخابات مجلسي الكونغرس سيجعلها تعترف بحدود ما يستطيع هذا اللوبي عمله لها.

يقول المنطق انّ ليس امام ايران سوى إعادة التفاوض مع الإدارة الاميركية في شأن ملفّها النووي وما هو اهمّ من ملفّها النووي. ان يدعو وزير الخارجية محمد جواد ظريف الى خطوة في هذا الاتجاه يعتبر إشارة في غاية الايجابية وبداية تصالح مع الواقع. اللهمّ الّا اذا كان في الامر مناورة تستهدف كسب الوقت فقط. يظلّ الأهم من موضوع الملف النووي واعادة التفاوض في شأنه، السلوك الايراني خارج ايران، أي المشروع التوسّعي الذي تحاول ايران حمايته عبر تطوير الصواريخ الباليستية. تستخدم هذه الصواريخ، التي كانت فرنسا من بين من ركز عليها باكرا، لأغراض متنوعة. من بين هذه الاغراض تهديد السعودية بواسطة الحوثيين انطلاقا من الأراضي اليمنية.

اذا كان من فضيلة لادارة دونالد ترامب، فان هذه الفضيلة هي في الوصف الدقيق للسلوك الايراني المشكو منه منذ العام 1979. ليس صدفة انّ النقاط الـ12 التي وضعها وزير الخارجية مايك بومبيو والتي تضمنت الشروط الاميركية لاعادة التفاوض مع ايران، تشير الى دور الميليشيات الايرانية خارج ايران وضرورة وقف نشاطها ووضع حدّ لمشاريع من نوع تطوير الصواريخ الباليستية والوجود العسكري الايراني المباشر في أراضي هذه الدولة او تلك.

مزقت إدارة ترامب الاتفاق في شأن الاتفاق النووي مع ايران. لم تعد من قيمة للاتفاق الموقع في صيف العام 2015 والذي يكشف غباء ادارة إدارة أوباما... او كلّ العداء الذي تكنّه لكل ما هو عربي في المنطقة. كان هذا الاتفاق تعبيرا عن رغبة إدارة أوباما في تعويم النظام الايراني. اخذت ايران ما تشاء من الاتفاق واعتبرت ان ما حققته كان إنجازا كبيرا. يكفي انّها حصلت على مليارات الدولارات كانت في حاجة ماسة اليها. فوق ذلك كلّه، عملت الادارة الاميركية السابقة كلّ ما تستطيع عمله من اجل مسايرة ايران واسترضائها. وصل بها ذلك الى التغاضي عن استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي صيف العام 2013 في سياق الحرب التي يشنّها على السوريين من اجل تهجيرهم من ارضهم والمساهمة في عمليات التطهير المذهبي التي تعمل ايران من اجل تحقيقيها في ارض سوريا.

غضت إدارة أوباما الطرف عن كل ما فعلته ايران في المنطقة، اكان ذلك في العراق او سوريا او اليمن... او البحرين. كان كلّ ما تسعى اليه هو الوصول الى الاتفاق المتعلّق بالمشروع النووي الايراني. لا شكّ ان طهران عرفت كيف تسوّق لملفّها النووي وتجعل منه همّا اميركيا واوروبيا في الوقت ذاته. ساعدها في ذلك الموقفان الروسي والصيني اللذان لم يكونا بعيدين عن الموقف الاوروبي حيث لعبت المانيا دورا في الترويج لاهمّية ايران والسوق الايرانية. لم تستفق المانيا من الانبهار بايران الّا أخيرا.

بين توقيع مجموعة الخمسة زائدا واحدا الاتفاق مع ايران وفوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الاميركية وصولا الى تمزيقه الاتفاق، مرت سنتان تقريبا. اختبرت ايران الإدارة الاميركية الجديدة طويلا قبل ان تكتشف أخيرا ان لا مفرّ امامها سوى الإعلان عن الرغبة في التفاوض مجددا بعدما فعل التلويح الاميركي بالعقوبات فعله. اذا كان مجرد التلويح بالعقوبات وبدء تطبيق قسم منها ادّيا الى زعزعة الاقتصاد الايراني، فماذا سيحصل عندما ستطال هذه العقوبات تصدير النفط الايراني في الخامس من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل؟

يبدو واضحا انّ ايران بدأت تشعر بانّ إدارة ترامب في غاية الجدّية. الدليل على ذلك انّها تركز على الاقتصاد الايراني وعلى عصب هذا الاقتصاد الذي هو النفط. يمكن القول ان إدارة ترامب تساهلت مع ايران في العراق. سمحت لها بتسجيل نقاط هناك، خصوصا عندما فرضت استبعاد حيدر العبادي عن موقع رئيس الوزراء والاتيان بمرشح تابع لها الى موقع رئيس مجلس النواب هو محمد الحلبوسي، مع ما يعنيه ذلك لجهة تمكينها من شق الصف السنّي. لكنّ ايران تعرف في نهاية المطاف ان نقل المعركة الى الاقتصاد هو بمثابة نقل لها الى الداخل الايراني. فايران، كنظام قام بعد اطاحة نظام الشاه في العام 1979، سعت دائما الى خوض معاركها خارج ارضها. لذلك تعتبر المتاجرة بالقضية الفلسطينية والقدس من اهمّ الانجازات التي حققتها، فضلا بالطبع عن خلق أداة لها اسمها "حزب الله" الذي استطاع تحويل لبنان "ساحة" لإيران.

هل كلام جواد ظريف الى "بي. بي.سي" عن استعداد لاعادة التفاوض مع الإدارة الاميركية، وفق شروط محدّدة، يعني ان ايران اتخذت قرارا نهائيا بالتصالح مع الواقع؟

من الباكر الإجابة عن هذا السؤال، خصوصا انّ "المرشد" علي خامنئي ما زال يردّد كلاما عن "تخوين" من يريد التفاوض مع الاميركيين. لكنّ النظام في ايران يلعب عادة على حصانين مختلفين. يلعب على حصان التعبئة الداخلية في مواجهة "الاستكبار العالمي" وعلى قنوات التفاوض مع هذا "الاستكبار". هناك تجارب الماضي القريب والبعيد التي تؤكد ان ايران مستعدة للذهاب بعيدا في لعبة الرهان على حصانين مختلفين. ففي الحرب العراقية – الايرانية بين 1980 و1988 استقبلت، وهي تطلق صيحة "الموت لاميركا" وفدا برئاسة روبرت ماكفرلين مستشار الامن القومي في عهد رونالد ريغان وتفاوضت من اجل الحصول على أسلحة إسرائيلية كانت في اشدّ الحاجة اليها. وفي مرحلة ما قبل الوصول الى اتفاق في شأن الملفّ النووي، صار محمّد جواد ظريف يتصرّف مع جون كيري، وزير الخارجية الاميركي وقتذاك، وكأنّهما صديقان قديمان يعملان من اجل السلام العالمي والاستقرار الإقليمي.

من المستبعد ان تكون ايران حسمت امرها في موضوع التصالح مع الواقع، أي مع حقيقة انّها مجرد دولة عادية فشلت في إيجاد مصدر دخل آخر غير النفط والغاز. من يتمعّن في السلوك الايراني منذ 1979، يكتشف ان المحاولات ستستمر من اجل متابعة لعبة الهرب الى امام. ستحاول ايران مرّة أخرى الرهان على الانتخابات الاميركية الشهر المقبل. هل يخسر دونالد ترامب الأكثرية الجمهورية في مجلسي الكونغرس؟ هل يؤدي ذلك الى تحوله هدفا سهلا للديموقراطيين الذين سيعملون على استغلال كلّ تلك الفضائح التي استطاع تجاوزها منذ دخوله البيت الأبيض؟

بعد تمكن دوناد ترامب من تمرير مرشّحه لعضوية المحكمة العليا القاضي كافانا في الكونغرس، لا يمكن الاستخفاف برجل لم يكن عاقل يتصوّر يوما انّه سيصل الى البيت الأبيض. لا شكّ ان ايران تمتلك لوبي قويّا في واشنطن. لكنّ نجاح الجمهوريين في انتخابات مجلسي الكونغرس سيجعلها تعترف بحدود ما يستطيع هذا اللوبي عمله لها. سيكون الشهر المقبل في غاية الاهمّية بالنسبة الى معرفة هل ستقبل ايران أخيرا فكرة انّ عليها الاهتمام بشعبها ومشاكلها الداخلية اوّلا وأخيرا... مع ما يعنيه ذلك من تصالح مع الواقع!