باحثة يمنية تتقصى 'سيميائية الجسد في الشعر الجاهلي'

د.أمل قاسم الزمر ترى ان الجسد في الشعر الجاهلي علامةً سيميائيةً في تجلياته وعلاقاته المختلفة مشيرة إلى أنه 'مسكونٌ بالثقافي والاجتماعي والجمالي، مُلاءٌ بالعلامات ومنبعٌ للدلالات، دالٌ في حركته وفي سكونه منفتحٌ على ما يتجاوز حدود طبيعته المادية ممتدٌ إلى ما يشكل معناه ولذا ليس له حدود'.

تعددت جماليات الإبداع الشعري الجاهلي حتى أصبحت محل اهتمام واسع من الأكاديميين والنقاد، الذين لم يتركوا شارة ولا واردة تخص جمالية من جماليات هذا الشعر إلا تعرضوا لها بالكشف والدرس والتحليل، انطلاقا من الطبيعة ورموزها والمكان وتفاصيله والفلسفة أفكارها ورؤاها، حتى جمالية القبح طالها الدرس والتحليل، وهذه الدراسة التي صدرت حديثا للباحثة اليمنية د.أمل قاسم الزمر "سيميائية الجسد في الشعر الجاهلي" تتبع الجسد في القصيدة الجاهلية.

وترى الباحثة ان الجسد في الشعر الجاهلي علامةً سيميائيةً في تجلياته وعلاقاته المختلفة، مشيرة إلى أن "الجسد مسكونٌ بالثقافي والاجتماعي والجمالي، إنه مُلاءٌ بالعلامات ومنبعٌ ثَرٌّ للدلالات، دالٌ في حركته وفي سكونه، منفتحٌ على ما يتجاوز حدود طبيعته المادية، ممتدٌ إلى ما يشكل معناه؛ ولذا ليس له حدود، هو في تغير دائم بتغير محيطه وعلاقاته مستجيبا إليه ومتمردا عليه في الوقت نفسه إنه دائم التشوّف إلى التحول والتشكّل وإلى خلق أنساق جدلية، وقد فرض نفسه على أغلب موضوعات الشعر الجاهلي؛ إذ لا تكاد تخلو منه قصيدة".

وأكدت الزمر في دراستها الصادرة عن مؤسسة أروقة للنشر إن الشاعر الجاهلي قد صاغ الجسد وشكّله بوعي جمالي، متأثرًا ببيئته التي تكشف عن علاقته بها، كما يكشف الجسد عن علاقته بالآخر؛ فبدا بتشكيلات متنوعة ارتبطت بموضوعات مثلت تأملات الإنسان الجاهلي وتصوراته وكيفية قراءته الكون والمصير والآخر، وكان الجسد خير معبر عن ذلك، وقد حاول الشاعر الجاهلي - وهو متلبس ذلك الجسد الصغير - الامتداد إلى الكون "الجسد الكبير" منتشرًا فيه، ومتشكّلًا من عناصره مماثلًا لها أو نائبًا عنها؛ وهي عناصر لها فاعلية مهيمنة ووظيفة سيميائية وقيمة جمالية، فكان جسدًا كونيًا بامتياز، ونظر إلى أدواته ووسائله فامتد فيها وبها لتمثيل الثقافي والاجتماعي، وقد شكّل بوعي جمالي امرأة شعرية لازمنية؛ ليتوافر لموضوع الجمال والخصوبة والأمومة معنى التجدد والبقاء".

وقالت "بدا من تمثيلات الجسد السيميائية؛ أن هناك ثالوثًا سيميائيًا فاعلًا في تشكيل الجسد علامة سيميائية؛ يتكون من: الشاعر برؤية جمالية وجودية قيمية، والمجتمع برؤية قيمية، والزمن بهيمنة فاعلية تدميرية، وهو ثالوث جدلي له أثر كبير في تمثيلات الجسد وتأويله، وقد استثمر الشاعر هيئة الجسد ولونه ومرحلته العمرية، كما استثمر أعضاءه من حيث موقعها على خارطة الجسد وكيفياتها، ووظيفتها في تمثيل الموضوع السيميائي الذي يتصل بالنسق الثقافي للمجتمع الجاهلي؛ فكانت القوة والمروءة والشيب والشباب والجمال والأمومة والقيمة الاجتماعية والحياة والموت و موضوعات دارت حولها أغلب تشكيلات الجسد في الشعر الجاهلي".

وكشفت الزمر أن مفردة الجسد مثّلت الأنموذج الأوضح في تمثيل الإنسان متضمنًا معنى وجوده "مبنى ومعنى"، أما بقية مفردات مرادفات الجسد في دلالاتها المعجمية فإنها تطلق على الإنسان وغير الإنسان، ما شكَّل لها خصيصة دلالية تَمَثلتها كل مفردة وتميزت بها، وقد توافرت ـ سيميائيا ـ على قيم دلالية فتحت الجسد على دلالات عدة لموضوعات مباشرة ودينامية لتجليه الشكلي والوجودي؛ لذا يمكن القول: إن المفردات التي شكّلت معجم مرادفات الجسد ـ ابتداء بالجسم وانتهاء عند الجثة ـ في تشَكلها السيميائي لا تمثل المعنى الكلي للجسد؛ وإنما تمثل وصفًا لتجلٍّ من تجلياته مستجيبة لمؤثر ما يصف حالةً وهيئةً من الجسد، وتميز بعده الدلالي بامتزاجه بأبعادها الدلالية المستمدة من مجمل معانيها المعجمية التي تمثل الخلفية الإحالية التي استند إليها المؤول في ربط العلامة بموضوعاتها، فكانت كل مفردة ممثلًا سيميائيًا له إمكانات دلالية مثلت كيفيات الجسد في تجليات مختلفة، وأضفت عليه طابعا دلاليا مستمدا من قيمها الجمالية وإمكاناتها الدلالية المعجمية والنصية؛ وهذا ما شكَّل جمالية مرادفات الجسد".

وأضافت أن تشكيلات الجسد في الشعر الجاهلي احتواها فضاء سيميائي مكاني وزمني "المعركة/الحرب" فاعل ومؤثر، وقد تشكّل الجسد بوساطة اليد مرتكنه في بناء مكونه البطولي المادي سيميائيًا، وتمثيل القيم الأخلاقية موضوعًا، والعضو الذي يمتد به إلى أدواته لتفعيلها والتماهي بها تشكيلًا وتمثيلا، وصل به إلى المقدس السماوي مجاورًا ومماثلًا لممثلات صورت فاعلية البطل، ووظيفته وهويته وقيمته الجمالية، وقد تجلى الجسد كلًا وأجزاء معبرا عن قيم البطولة؛ فكان لليد الحضور الأوفر في تمثيل موضوع البطولة، يتبعها الوجه بصفة لونية ضوئية كشفت عن هوية البطل ووظيفته، ثم الأنف الذي مثّل شمما موضوعات الإباء والعزة والمنعة مقترنا بارتفاع الرأس الذي يمثل هوية البطل ونسبه، ثم بقية الأعضاء بتشكيلات سيميائية تمثل موضوع البطولة، وقد تجلت مظاهر السيطرة على الجسد بفاعلية الدربة والمهارة والقيمة البطولية والأخلاقية متأثرا بفضائه السيميائي "الحرب" الذي احتواه فارسا.

ورأت الزمر أن معظم التشكيلات الجسدية للبطل الكريم تتوافق والتشكيلات الجسدية للبطل الفارس؛ وذلك بجامع القيمة الأخلاقية التي تقترن بالفعل البطولي، مع اختلاف الأدوات والمؤثر والفضاء الحاوي للتشكيل، فالجسد من البطل الكريم احتواه الدهر وعناصره "الشتاء والرياح والليل المظلم" فضاءً سيميائيا فاعلا ومؤثرا، وقد تشكَّل الجسد سيميائيا بعناصر ضوئية ومائية ونباتية لها فاعلية في قهر ذلك الفضاء، فكان الهلال والبدر والزُّهرة حين يدلهم الظلام، والمطر والندى حين تجف السماء، والحليب حين تجف الضروع، والربيع والزهر والسَبِط حين يحل الجدب، وقد كان الكرم القيمة الأخلاقية الأوضح في الإحالة إلى فاعلية الدهر، ثم قهرها بتشكيل مائي غلب على تشكيلات الجسد في بعده الأخلاقي، وقد كان لليد والوجه الحضور الأوفر في تمثيل القيم الأخلاقية؛ اليد بكيفية الطول والبسط وتشكيلها المائي، والوجه بصفته اللونية "البياض والوضاءة"، يليهما البطن الذي اقترن في بعض تشكيلاته باليد؛ فكلما كانت اليد طويلة ومفتوحة كان البطن ضامرا والعكس، فكانت هندسة البطن ضمورًا أو امتلاء علامة فارقة لتمثيل قيمتي الكرم والبخل، ثم بقية الأعضاء التي تمثل موضوعات الشرف والحكمة والعفة وكف الأذى عن الآخر المجاور، وقد بدت مظاهر السيطرة على الجسد؛ فتجلى كلًا بكيفية النحول والشحوب لقيمة العطاء والإيثار والعفة والتضحية والوعي بالأنا والآخر.

إن تشكيلات الجسد في كلا البعدين اقترنت بالفاعلية الجسدية ومثلت الجسد معنى بمؤول شبه نهائي.

وأشارت الزمر إلى أنّ أبرز الموضوعات الاجتماعية لجسد المرأة موضوعُ الحجاب مظهرا اجتماعيا مثّل، سيميائيا، امتدادا للخباء والخدر والهودج  وهو فضاء سيميائي خص المرأة دون الرجل في الخارج، وامتد بها إلى الشمس المغطاة بالغمام، ومثّلها بالدرة المغلفة بالصدف، والبيضة التي يحوطها الطائر، ممثلات سيميائية للجسد المصون، ومثّل ـ أيضا ـ رمزا سيميائيا لرجال القبيلة بوصفهم الغلاف الذي يحوطها بالصون والحماية، وهو غلاف يؤثر فيها ويتأثر بها؛ فالمرأة الحَّرة تمثل الواجهةَ الجمالية والقيمية للقبيلة، وقد توصلتُ من خلال الشواهد الشعرية وتحليلها إلى أن الحجاب عادة أصيلة في المجتمع الجاهلي ارتبط عبر مؤول شبه نهائي بموضوع الحرية؛ إذ بدا مرتبطا بالحرائر دون الإماء والقيان، فضلا عن ذلك أن سفور الحرائر تمثَّل في ظروف وطقوس خاصة، ما تلبث أن تنتهي لتعود إلى الاحتجاب، فالحجاب مظهر اجتماعي وعادة من عادات الجاهلية؛ تمثلتها الحرَّة للصون والعفة، ورمزا لمكانتها بين قومها.

وقالت أن من أبرز الموضوعات الاجتماعية لجسد الرجل موضوع النسب والانتماء المهيمن السيميائي على سيرورة التأويل لتشكيلات جسد الرجل في بعده الاجتماعي، وقد تبين في علاقة الفرد بقبيلته أن الجسد مثَّل علامة أيقونية لها بجامع النسب والانتماء بوصف القبيلة الغلاف الذي يحويه بفاعلية تأثيرية، والجسد بوصفه ممتدا منها ولها بدوره يؤدي وظيفة الحماية والصون لغلافه من أي تهديد خارجي يمس قيمته، وقد مثَّل الرأسُ والأنفُ واللسانُ الموضوع السيميائي للقيمة والهوية الاجتماعية لأنا الشاعر المتصل بالنحن القبيلة مرتبطا بها قيميا ووجوديا، أما في علاقة الفرد بقومه؛ فقد تمثلهم جزءا من جسده؛ فكانوا ـ سيميائيا "اليد والكف والبنان والأنامل والمناكب والعضد والساعد والعظام والصدر والرحم والثدي والساق والقدم"ـ من الجسد، أعضاء اعتمد اختيارها على قدرتها السيميائية وظيفيا وحركيا، في تمثيل الأهل معتمد الفرد الذي سعى لحماية تلك الأعضاء من أي فعل ذاتي يمسها بقطع أو أذى، ما يدل على أن الفرد مرتبط بقومه وجوديا.أما في غياب النسب الصريح والانتماء إلى قبيلة؛ فقد بدا الجسد ناقصا مبنى ومعنى وفق التصور الاجتماعي لفاعلية النقص النسبي، فتجلى مقطوع اليد والساعد والعضد والثدي؛ أعضاء تمثل الفعل والحركة والتواصل والأصل، وغيابها دل على أن ليس له غلاف يحويه قوة وحماية، ولا أصل يفعِّل قيمته وانتماءه".

وتناولتُ الزمر تشكيلات الجسد وتجلياته السيميائية من خلال اللون والزمن والطبيعة، وأوضحت أن "اللون الأسود ذو معنى سلبي في الوعي الجاهلي، مثّل موضوعات أخلاقية سلبية، بمقابل الأبيض ذي المعنى الإيجابي في الوعي الجاهلي، مثَّل علامة سيميائية لقيم البطولة والأخلاق والنسب والانتماء، وقد مثلا متجاورين بالمبنى قيما جمالية، أما في جدليتهما؛ فقد مثّل الأبيض السلطة والقوة، ومثل الأسود العبودية والعجز مؤشرا إلى موضوع النقص النسبي الذي مثل ـ اجتماعيا ـ سببا للعجز الجسدي عن تناول العظائم، وسببا لامتلاك الجسد وامتهانه وتحديد فضائه، ومن ثم حصاره مكانا ومكانة ووظيفة، فضلا عن أن السواد في جسد الرجل العبد لونا مشوِّها يشعره بالنقص ويهدم علاقته بالمرأة، فكان الوعي بالجسد خارج إطار الوعي الاجتماعي، وتفعيله بطوليا مجالا للتعويض عن النقص الجمالي والقيمي، واستعادة الجسد من التملك الغيري إلى الملكية الذاتية، ومن ثم تطويعه من أجل الجماعة انتماء إليهم واحتماء منهم".

ورأت أن الشاعر الجاهلي شكّل جسد المرأة في إطار الطبيعة بالخصب والجمال والمقدس؛ فبدا الجسد مشكَّلًا من عناصر نباتية ومائية وترابية وحيوانية وسماوية؛ هندستْه مبنى ومثلته مبنى ومعنى لمؤول الوظيفة والشباب، وحاجة الشاعر إلى الجمال، أما جسد الرجل فقد شُكِّل في إطار الطبيعة بالخصب والمقدس؛ فبدا مُشكَّلا من عناصر نباتية ومائية وحيوانية وسماوية؛ مثلت الجسد مبنى من أجل المعنى، ومثَّلته مقترنا بالزمن.وأن الطبيعة هندست جسد المرأة وهو في تجل جمالي ووظيفي، ومثلتْ جسدَ الرجل وهو في حالة فعل وحركة وزمن، وفي تجل للقيمة والمعنى موضوعا سيميائيا لعلامة المبنى شكلا سيميائيا؛ فالتمثيل بعناصر الطبيعة كشف أن جسد المرأة هندسةٌ لموضوع جمالي، وجسد الرجل شكلٌ لموضوع المعنى والقيمة والزمن.لقد مثَّلت الطبيعة مؤولًا شبه نهائي لعلامة دالة على ديمومة شباب المرأة المطلق؛ لوظيفة الخصوبة والأمومة التي تعني التجدد والاستمرار، وشيب الرجل وزواله لوظيفة الحماية وتوفير عناصر الحياة مُتعرِّضا للمخاطر؛ لذا حين مُثلت المرأة بالنخلة المثمرة؛ مُثل الرجل بجذوع النخلة المقطوعة، وحين مُثلت المرأة بالشمس في حضورها الدائم؛ مُثل الرجل بالقمر الذي يولد ويكتمل ثم يموت، وكذلك الشهاب الذي يولد ليموت، وحين مُثِّل شَعرها بالنبات؛ مُثِّل بثمر التنوم الذي تدوم خضرته بالقيض علامة لديمومة الشباب، أما الرجل فمُثل شَعره بياضا بالثغام حال يبوسيته وانتهائه للشيب والزوال.