باحث فرنسي يعلن أنه ولد بمصر منذ 4700 عام

رحلة في كتاب ممتع لكنه في الوقت نفسه يُصيبنا بالحزن على ماضي مدينة كانت تُعدُّ من أجمل وأروع مدن العالم، غير أن الحال تقهقر بها فوصلتْ إلى ما نراها عليه الآن. 
أكثر من عشرة ملايين فرنسي يقرأون مؤلفات الكاتب الفرنسي الشهير كريستيان ﭼاك المستوحاة من التاريخ المصري القديم
القاهرة الإسلامية القديمة تُجسِّد الصورة التي يمكن تلمسها للشرق الذي طالما حلمتُ به
فرق شاسع بين قاهرة الـﭭيلات الأثرية وبين قاهرة الهياكل الخرسانية القبيحة

في هذا الكتابِ الرائعِ حقاً والمُعنْونِ بـ "وُلدْتُ بمِصْر منذ 4700 عام" الذي صَدَرَ مُترْجماً عَن المركزِ القوميّ للترجمة منذ سنوات، يَرحلُ بنا ﭽون فيليب لوير إلى قاهرة العشرينيات، مُقارناً بين جمالها وروعتها الخلابة وبين ما وصلتْ إليه في الوقت الراهن، إذ ثمَّة فرق شاسع بين قاهرة الثمانيمائة ألفِ نسمةٍ وبين قاهرة الخمسة عشر مليون أو يزيد. فرق شاسع كذلك بين قاهرة الـﭭيلات الأثرية وبين قاهرة الهياكل الخرسانية القبيحة. إنها رحلة في كتاب ممتع إلى أقصى حد، لكنه في الوقت نفسه يُصيبنا بالحزن على ماضي مدينة كانت تُعدُّ من أجمل وأروع مدن العالم، غير أن الحال تقهقر بها فوصلتْ إلى ما نراها عليه الآن. 
ﭽون فيليب لوير
وﭽون فيليب لوير مولود في باريس في مايو/آيار عام 1902 وحصل على شهادته في الهندسة المعمارية وسافر إلى مصر للعمل في مصلحة الآثار المصرية لمدة ستة أشهر تجددت سنوياً ليبقى طيلة عمره فيها. رمَّم لوير مجموعة الملك زوسر وعاش في سقَّارة حوالي خمسة وسبعين عاماً مع عائلته في منزل صغير أطلق عليه منزل السعادة، ويصفه قائلاً: في كل مرة آتي فيها لأسكن هذا المنزل البهيج بضلفته الكوبالتية الزرقاء، أتذكر منذ سنوات عندما ارتحلنا جميعاً، الأسرة كلها، معنا متاعنا وأطفالنا والمرضعة والخدم ووصلنا أعلى سلم منحدر من الحجر، وكنا سعداء أن نجد أنفسنا في هذا العالم الهادئ والعظيم الذي أحببناه تماماً. وقد ساهم لوير في العديد من الاكتشافات الأثرية بسقارة، مُعْتبراً نفسه شاهداً على تاريخ مصر المعاصر إذ يقول: "كنتُ رغماً عني شاهداً على التاريخ المعاصر لمصر، رأيتُ ما مرَّ من أحداث وما كانت عليه خلال خمسة وسبعين عاماً وهذه ميزة لا يتمتع بها الكثيرون. كانت هناك مرحلتان من الأحداث الكبيرة مرَّتا بمصر وفي كل مرة كنت أعتقد أنني لن أرى هذا البلد مرة أخرى، وكنت أجد أملاً عندما تأتيني هذه الفكرة، ليس لأنني أحب مصر وحسب، ولكن لأنني لم أنتهِ من العمل الذي استغرق كل عمري". 

إيماني لا يمنعني من الخوف من الموت. هذا الأجل بالنسبة لي بارز، مما يقودني للصلاة كثيراً. إن فكرة مغادرة هذا العالم وإغلاق الباب نهائياً ليست من اليسير تقبلها، حتى وإن بلغنا من العمر مائة عام، تبقى الحياة ممراً قصيراً جداً

إيـﭽيبتومانيا
 في مقدمة هذا الكتاب يقول المترجم حسن نصر الدين إن أكثر من عشرة ملايين فرنسي يقرأون مؤلفات الكاتب الفرنسي الشهير كريستيان ﭼاك المستوحاة من التاريخ المصري القديم، وإن فرنسا عرفت ما يسمى بـ "إيـﭽيبتومانيا" أو الهوس بمصر، ولم يكن هذا الولع والافتتان وليد اليوم، لكنه له جذور ممتدة عبر عدة قرون من الزمان. كما يضيف أن الامبراطور فرانسوا الأول كان لا يذهب في أي رحلة من رحلاته إلا وهو معه حقيبة جلدية صغيرة مملوءة بمسحوق اسمه مومياء، يُفترض أنه مُستخرج من المومياوات المصرية وقيل عنه أنه يُعالج أمراضاً لا حصر لها. وكانت مصر في القرنين السادس عشر والسابع عشر هي بلاد العجائب. ولهذا كانت ماري أنطوانيت ملكة فرنسا (1755-1793) مولعة بمصر حتى أنها كانت تملأ غرف نومها بثماثيل عديدة لأبي الهول، وفي العصر نفسه ازدهرت نماذج الأهرام والمسلات المصرية القديمة. فيما جاء لوير ـ مؤلف الكتاب ـ إلى مصر في بداية القرن العشرين ليعيش بها باقي سنين القرن مشاركًا في أفراحها وأتراحها، ويكون بحق شاهداً على مصر في القرن العشرين. 
جروبي والفيشاوي
يبدأ لوير حديثه عن ذكرياته في مدينة القاهرة بالحديث عن جروبي واصفاً إياه بأنه مكان التقاء الطبقة البرجوازية في مصر، ثم يتحدث عن مقهى الفيشاوي في الثلاثينيات ذاكراً أنه كان في مقدمة زبائنها شاب صغير اسمه نجيب محفوظ، اعتاد المجئ إلى المقهى ليكتب رواياته في هذا الجو الحالم، وبفضله أصبح هذا المكان مكاناً تاريخياً. وبعد أن استلم لوير عمله في منطقة سقارة كتب يقول: ابتداء.. لم تكن لديَّ الرغبة في العودة حياً إلى فرنسا. أما في وصفه للقاهرة يومئذ فيقول لوير: على الرغم من أن مصر منذ عام 1926 تغيَّرت كليَّةً ولحسن الحظ أن الهرم كان لا يزال هنا ولكن التغيرات كانت متسارعة.. حقاً لقد فقَدَ هذا البلد الكثير من بهائه والقاهرة بخاصة، فالمدينة التي لم تكن تأوي سوى مليون نفس تضم الآن خمسة عشر مليون ساكن. وفيما مضى كانت ضفاف النيل خلابة تحف بها منازل وحدائق غنَّاء، في الوقت الحاضر لم يعد موجوداً إلا مبانِ خرسانية، وما أثار غضبي هو بناء مدينة حول أهرام الجيزة، فلا يوجد مكان واحد نتمكن من خلاله من رؤيتها معزولة في الصحراء.
مملكة الرمال 
ثم يُكمل لوير سرد ذكرياته عن القاهرة قائلاً: عندما وصلتُ في عام 1926 كانت مصر بلداً شاعرياً، كانت مملكة الرمال والسكون والغموض، حديقة هائلة حيث ينمو كل شئ بغزارة وأن تطأ قدماك أرض هذا البلد المدهش في وقت الفيضان وتحت الأشعة الجميلة لهو حلم. ثم يتعجب لوير قائلاً: لم أكن أتخيل أنني سآتي يوما لزيارة مصر وأنني سأمضي بها أربعة وسبعين عاماً من عمري.  
وفي مقارنة بين باريس الماضي والقاهرة في ذاك الوقت يقول لوير: بعد المَحَال الخالية والشوارع الحزينة لعدم وجود بشر فيها في باريس، ها هي القاهرة بشوارعها البهيجة وضوضائها الكثيرة. وحزناً منه على مقهى الفيشاوي بعد هدمه يقول لوير: هذه المشكلة متكررة في القاهرة، فهم يهدمون المباني الراقية الجميلة ليشيدوا بدلاً منها أخرى قبيحة وكم من ﭭيلات باهرة اختفت الآن وعددها بالمئات لتقوم مكانها عمارات أسمنتية!
وحين يصف القاهرة لحظة وصوله يقول لوير: لم يكن بالقاهرة سيارات ولكن حناطير تجرها الخيل، هكذا كان الحال في عام 1926، ودَعْكَ من المشاة وعربات النقل الصغيرة ذات المظلة والحمير، فقد كانت الشوارع فسيحة ذات أرضية من البلاط، الأشجار تحفها من الجانبين وتتنفس في هدوء عفى عليه الزمن، لعل الانطباع الأول الذي تُعطيه العاصمة المصرية في الحال هو أنها بابل مسلمة، مزيج من الأصوات والألوان، الطرابيش الحمراء والعمائم الزرقاء والقفاطين والكوفيات ذات الألوان العديدة تتداخل كالطيور داخل مطيرة.

تراجع ملحوظ
ثم يقول لوير عبارة مهمة إلى أقصى مدى تحتاج منا الآن إلى دراستها والوقوف عليها طويلاً، يقول لوير: كانت مصر تسبق جيرانها من البلدان بحوالي قرن من الزمان. ونتساءل هنا ما الذي أدَّى إلى هذا التراجع الملحوظ، إننا لم نعد نتساوى مع بعض جيراننا بل ـ للأسف ـ تراجعنا عنهم وتقهقرنا إلى الوراء وقد كنا نسبقهم بقرن كما قال لوير!
وتحت عنوان "ألف ليلة وليلة" يقول لوير: تُجسِّد القاهرة الإسلامية القديمة الصورة التي يمكن تلمسها للشرق الذي طالما حلمتُ به، فلقد اكتشفتها قبل الآثار الفرعونية. وبعد أن غادر القاهرة لفترة قصيرة وعاد إليها كتب يقول: أحسست أن القاهرة تغيرت مع بداية الخمسينيات وتبدل الجو وأثناء تنزهي عبر شوارع المدينة كنت ألاحظ أن حيا جديدا قد زرع وأن منازل عتيقة قد أزيلت وبدا لي أن المدينة تعاني من تشويه خطير. وعندما أعدت الرؤية كانت القاهرة قد أصبحت ذات سمات أشبه بهوليود، على النيل مبان متلألئة وسط أحياء حديثة جدا والتي جعلت الأحياء القديمة الوطنية تتراجع واختفى الكثير من التقاليد مع قدوم جمال عبدالناصر إلى السلطة.
كذلك يتحدث لوير في كتابه الشّيِّقِ هذا عن طبيعة عمله والعمر الطويل الذي قضاه مع الآثار في سقارة، وفي غيرها من المناطق الأثرية الأخرى. إنه يتحدث عن عمله كعاشق متيم بهذا العمل: منذ الأيام الأولى من يناير/كانون الثاني عام 1927 حزمت حقائبي وغادرت سقارة الجنوبية لأستقر على بعد ثلاثة كيلو مترات إلى الشمال بجوار هذا العالم وهو الذي أحياه منذ تلك اللحظة وحتى يومنا هذا.
مثلما يفخر بما توصَّل إليه من اكتشافات أثرية: كانت هذه فرصة أن أشارك في إحراز مثل هذه الاكتشافات غداة وصولي تقريباً وهو الأمر الذي لا يحظى به الكثير من الآثاريين. أما حين يصف مهارة القدماء المصريين في العمل فيقول: لدى المصريين تاريخ طويل من استخدام الأدوات والوسائل المتنوعة في استخراج الأحجار وقطعها وصقلها بما فيها الأحجار الأكثر صلابة، ودليل ذلك صناعة الأواني الحجرية التي بلغت قمة النضج والمهارة في الفترة النقادية من الأسرة الأولى. ومنبهراً بيوم زواج الملك فاروق يقول: كنا محظوظين إذ شاركنا من بعيد في زواج الملك فاروق والشابة فريدة عام 1938، مشهد لا ينسى، مشهد أسطوري، موكب فخم يعبر القاهرة المتلألئة والزوجان الشابان متألقان جالسان في العربة الفاخرة الخاصة بالكونت دوشامبورد. إنني عندما أعيد التفكير في هذا الحماس الجنوني في ذاك اليوم لا أستطيع أن أمنع نفسي من رؤية هذا الشعب نفسه ثانية يكاد يموت حزناً بعد ذلك بعدة عقود أثناء الموكب الجنائزي الفخم عند موت جمال عبدالناصر.
مصر لا تزال فاتنة
وفي ختام كتابه يقول لوير: أحس باضطراب كبير عندما أرى الناس اليوم. من الواضح أن القرن العشرين كان قرن تطور كبير، كذلك انقلبت الإنسانية بتطور العلم. لقد ولدْتُ وسط عربات تجرها الخيول ورأيت الإنسان يمشي على القمر! استحواذ هذه الفكرة العلمية على الإنسان أفرغه من الدين والروحانية. يا له من اختلاف مع الحضارة المصرية القديمة التي تَرْجعُ في تفاصيلها كلها إلى الدين، وحتى أدق التفاصيل في الفن تستقر على قاعدة الخلود الدينية! 
هناك هُوَّةٌ بينهم وبيننا وربما من أجل هذا لا تزال مصر فاتنة. 
أما عنه هو ـ لوير ـ فيقول: إيماني لا يمنعني من الخوف من الموت. هذا الأجل بالنسبة لي بارز، مما يقودني للصلاة كثيراً. إن فكرة مغادرة هذا العالم وإغلاق الباب نهائياً ليست من اليسير تقبلها، حتى وإن بلغنا من العمر مائة عام، تبقى الحياة ممراً قصيراً جداً.