باحث ليبي يؤكد أن النسخ دليل على أصالة المصحف الذي بين أيدينا

عبدالرحمن هابيل: الفقه المذهبي إلى الزوال والخطورة تكمن في إحلال النصوص الفردية والفتاوى التلفيقية محله.
ادعاء أن النسخ، كما هو مذكور في القرآن، لا يعني سوى نسخ القرآن للرسالات الإلهية السابقة إنّما هو ادعاء غافل عن المبدأ الذي يؤكّده
الأدلة على النسخ متضافرة متنوعة، والوحي قد ينسخ بعضه بعضاً!

رأى الباحث الليبي د. عبدالرحمن هابيل أنّ مذاهب الفقه التقليدية نجحت في الماضي في مواجهة الإشكالية الكبرى بمناهج محدّدة للتعامل مع ظنيّة النصوص الفردية، ولمحاولة إكسابها القطعية؛ بل لعلّ المذاهب ما تميّز بعضها من بعض، واكتسب كل  منها هويته الخاصة، إلا بفعل المنهج الذي سار عليه كلّ مذهب في مواجهة ظنيّة النصوص الفردية. 
واستدرك مشيرا إلى أن العصور الحديثة ما حلّت إلا وقد أخذ الفقه المذهبي يتلاشى تدريجياً، نظراً إلى أسباب تعود في معظمها إلى الانقلابات المختلفة التي عصفت بشتى مناحي الفكر والحياة في هذه العصور، والتي لم يكن ممكناً للفقه المذهبي أن يتصدى لها، وهو فقهٌ قياسي قوامه النصوص الفردية والقياس الجزئي عليها حالة بحالة. 
وقال هابيل في كتابه "موافقات الأحكام والحكمة" الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إنّ تحولاً جذرياً قد طرأ على التفكير الإسلامي نتيجة لحلول فقه النصوص الفردية محلّ الفقه المذهبي. وبينما لا يمكن التهوين من شأن الأزمات السياسية والاجتماعية الحالية، فإنّ الانقلاب الذي أصاب منهجية قراءة النصوص على يد فقه النصوص الفردية قد أصبح أزمة فكرية كبرى لا تقلّ جسامة عن الأزمات السياسية والاجتماعية؛ بل قد غدا معلولاً وعلة في خضمّ كل أزمة؛ فتارة يبدو عرضاً من أعراضها، وتارة يشحذها بما يذكي أوارها. إن ظاهرة الانغلاق داخل آحاد النصوص ينجم عنها خلط كبير بين "الفقه" و"التفسير" في قراءة القرآن الكريم، وبين الصحة والقطعية في فهم الحديث الشريف، على النحو المبيّن في الفصل الأول. 
وأشار إلى أن ظنية الدلالة في النصوص الفردية "سواء أكانت آياتٍ أم أحاديث أحكام" لا تتضح فحسب من طبيعتها العامة والمطلقة والمجملة، وحاجتها إلى التخصيص والتقييد والتفصيل، بل تغدو في غاية الوضوح عندما نأخذ ظاهرة "الناسخ والمنسوخ" بالجدية التي تستحقها. 

الوقت قد حان لندرك أنه لا تجديد ولا إصلاح ما دمنا نتشبّث بالنصوص الفردية، ولا نقرؤها في ضوء الإجماع "المتواتر" والمقاصد "المنضبطة"

وأوضح د.هابيل أنّ الأدلة على النسخ متضافرة متنوعة، فهناك النسخ بالنقل، والنسخ بالتكرير، والنسخ داخل الآية، وغيرها من الشواهد التي يصعب ردها إلا بتعسّفٍ وتعامٍ عن الحقيقة. إنّ هذه الظاهرة لا يمكن إنكارها بمجرد المحاولات التبسيطية السطحية للتقريب بين الآيات الناسخة والمنسوخة، ولاسيما عندما يقع النسخ داخل الآية، حيث لا توجد آيتان للتقريب بينهما. يُضاف إلى ذلك أنّ الأدلّة على النسخ من داخل النصوص القرآنية تعضدها أدلّة خارجيّة من الفقه، حيث يصبح إنكار النسخ إنكاراً لأصالة الفقه، مثلما أنّه إنكار لإجماع العلماء، إذا استثنينا "الاعتذاريين" المحدثين. 
وقال إنّ النسخ دليل على أصالة المصحف الذي بين أيدينا؛ إذ إنه، لا يدعُ مجالاً للتمسك بنظرية "جمع القرآن" بعد رسول الله، كما أنّه دليل على أصالة الفقه، ولكنّ أهميته البالغة تكمن في كونه مبدأً مقاصدياً؛ إذ أنّ النسخ يصاحبه "الحفظ"، وبذلك يتجاوز "النسخ والحفظ" النصوص الفردية، ويحيلان إلى النصوص المتضافرة؛ فوجود المنسوخ محفوظاً جنباً إلى جنب في الكتاب نفسه مع الناسخ إشارة إلى الطبيعة الظرفية لكليهما، وإلى حاجة كلّ منهما إلى الآخر للإحالة إلى مبدأ يتجاوزهما كليهما.
وأكد د.هابيل إنّ ادعاء أن النسخ، كما هو مذكور في القرآن، لا يعني سوى نسخ القرآن للرسالات الإلهية السابقة إنّما هو ادعاء غافل عن المبدأ الذي يؤكّده، وهو أنّ الوحي قد ينسخ بعضه بعضاً! فإذا كانت أحكام التوراة، وهي وحي، قد نُسخت بالوحي القرآني، فما الذي يمنع من حيث المبدأ أن بعض أحكام الوحي القرآني قد نُسخت بأحكام أخرى من الوحي القرآني نفسه؟ إن الاعتذاريين الرافضين للنسخ، الذين يتوهمون أن العلماء الأوائل ابتدعوا نظرية النسخ لعدم قدرتهم على التوفيق بين هذه الآية القرآنية وتلك، إنما يغفلون عن أن أولئك العلماء لم يكونوا أسارى داخل النصوص الفردية؛ بل كانوا يقرؤون القرآن في ضوء الفقه، ويدركون أن النسخ أكبر من مجرد مسألة تفسيرية، لصلته الوثيقة بالأصالة التاريخية للقرآن والفقه كليهما. إن وجود آيات منسوخة جنباً إلى جنب مع الآيات الناسخة هو - لا شكّ - دليل على تاريخية القرآن وأصالة المصحف. 
كما أنّ ثبوت النسخ في آيات ليس معمولاً بها في الفقه إنّما هو دليل على أصالة الفقه وارتباطه التاريخي المباشر بالقرآن. إنّ إنكار نسخ مثل هذه الآيات لا يعني سوى إنكار أصالة الفقه! إن المحاولات التبسيطية الرافضة للنسخ، القائمة على وهم أن مسألة كبرى كهذه ستحل بمجرد حشد الحجج اللغوية للتقريب بين هذا النص أو ذاك، إنما هي محاولات اعتذارية تظنّ أنّها تنبري للدفاع عن القرآن من ناحية، بينما تثير إشكاليات أعمق من عدة نواحٍ أُخر. 
ورأى أنّ أهمية نظرية النسخ لا تقتصر على دلالاتها العميقة بالنسبة إلى تاريخ الفقه وبطلان دعوى جمع القرآن بعد رسول الله؛ بل تزداد بالنظر إلى مبدأ "الحفظ" المصاحب للنسخ، فالوحي قد ينسخ حكماً، ولكنه لا ينسخ لفظاً؛ بل يبقى المنسوخ وحياً يُتلى، ما يعني تجاوزاً للنصوص الفردية، وإحالة إلى النصوص المتضافرة ومقاصدها. فوجود المنسوخ محفوظاً جنباً إلى جنب مع الناسخ يشير إلى أنّ الناسخ لا يزال هو الآخر غير قطعي، ما دام نصاً فردياً ظرفياً مثله في ذلك مثل المنسوخ المحفوظ بجانبه، ما لم يعضده إجماع "متواتر" أو نصوص متضافرة أو علل مطردة تكسبه القطعية. إن إشكالية ظنية النصوص الفردية هي من أهم المسائل التي واجهت الفقه الإسلامي منذ نشأته، إن لم تكن أهم المسائل التي ما زالت تواجهه؛ وما تشكلت معالم كل مذهب من مذاهب الفقه الكبرى إلا في ضوء موقفه من هذه المسألة.
ولفت د.هابيل إلى أن الفقه المذهبي قد غدا في طريقه إلى الزوال، شئنا أم أبينا، وغدت الخطورة تكمن في محاولات إحلال النصوص الفردية والفتاوى التلفيقية محله. إنّ النصوص الفردية مصادر "أولية" لم تقم بدورها الذي قامت به في السابق إلا لأنها كانت مدعومة بما ذكرناه من مصادر "تكميلية" ومناهج وضوابط خاصة بكلّ مذهب؛ فهذه الضوابط هي التي مكنت الفقه من استيعاب النصوص الفردية، على الرغم من ظنيتها بفضل تغليب المعايير القطعية على ظواهر النصوص الفردية. 
أمّا والفقه المذهبي يغيب تدريجياً، فلم يعد ممكناً التعويل على النصوص الفردية. إن الزوال التدريجي للفقه المذهبي لا يترك لنا خياراً سوى التماس منهجية تجديدية لقراءة النصوص الفردية، بحيث لا تُقرأ هذه النصوص إلا في ضوء أصول قطعية. إنّ مثل هذه المنهجية لا بد من أن ترتكز على الأسس التقليدية الكبرى نفسها بعد إعادة قراءتها. ولعلّ ثنائية "العبادات والمعاملات" لا تزال صالحة كإحدى نقاط الانطلاق الأساسية في أيّة منهجية تجديدية. كما أنّ هناك ثنائية كبرى أخرى مقابلة لهذه الثنائية هي ثنائية "الإجماع" و"المقاصد"؛ بحيث تُقرأ أحكام العبادات في ضوء "الإجماع"، و"المعاملات" (أي ما عدا العبادات) في ضوء "المقاصد". ولكن الإجماع هنا ليس بمعنى إجماع العلماء الاجتهادي الجزئي؛ بل بمعنى الإجماع "المتواتر"؛ أي النقل المتواتر لما هو داخل بالضرورة في علم الخاصة والعامة، وأجمعت عليه المذاهب الثمانية. وكذلك "المقاصد" هنا ليست بمعنى المبادئ الفلسفية أو التعميمات المرسلة؛ بل بمعنى المقاصد "المنضبطة"؛ أي المستقرأة من النصوص المتضافرة والعلل المطردة. 

مقاصد تطبيقية
الاجتهاد المقاصدي 

وأعلن د.هابيل إنّ الإجماع "المتواتر" هو حلقة الوصل بين الكتاب والسنة من جهة والفقه من جهة أخرى، فقد انتقل عبره تفصيل المجمل وتخصيص العام وتقييد المطلق، وتميز من خلاله الناسخ من المنسوخ، فهو "القاطع لاحتمالات الأدلة"، بتعبير الشاطبي، وهو "أعظم أصول الدين"، كما قال الغزالي. وأضاف إن "البون الشاسع بين ظنية النص الفردي وقطعية الإجماع "المتواتر" يتضح، مثلاً، من مسألة قصر الصلاة في السفر؛ فبينما يبقى النص الفردي متشابهاً وموضعاً لشتى التأويلات، التي لا تستطيع، مهما توسّعت، أن تتجاوز ظاهره الذي يقصر القصر على الخوف، نجد المذاهب تتفق على جواز القصر في السفر، ما يدل على أن هذه المذاهب لم  تستند إلى النص الفردي وإنّما إلى تقليد متواتر سابق لعصر تأسيس المذاهب، وما يدل أيضاً على النسخ داخل الآية "النساء 101". 
وأوضح أن الإجماع "المتواتر" مجرد دليل إلى الكتاب والسنة، ولكنّه دليل موضوعي منضبط يدلّنا على ما تمّ الاتفاق عليه من تطبيق عملي للكتاب والسنة، وتم نقله متواتراً من عصر الصحابة إلى عصر اكتمال تكوين المدارس الفقهية؛ فلا يوجد شيء في الإجماع بهذا المعنى من خارج الكتاب والسنة. وبذلك يتضح أنّ التمسك بالإجماع "المتواتر" يستحيل أن يكون رفضاً للنصوص الشرعية؛ بل هو ضمان للتفسير الموضوعي المنضبط لهذه النصوص الذي يضمن مراعاة احتمالات التخصيص والتقييد والنسخ وغيرها من الاحتمالات التي قد لا تُراعى في التفسيرات الصادرة عن اختلافات مذهبية أو آراء فردية. 
وهكذا إنّ أيّ ادعاء للفرض أو التحريم على سبيل القطع مردود إذا لم تجمع عليه المذاهب الثمانية؛ إذ لا توجد مرجعية موضوعية منضبطة للفرض والتحريم القطعيين سوى إجماع هذه المذاهب، بصرف النظر عمّا يُساق لادعاء الفرض أو التحريم من نصوص فردية. وهذا، بطبيعة الحال، لا يعني التعطيل؛ لأنّ لأيٍّ كان حقّ الاختيار في اتباع النصوص الفردية، فيفرض أو يحرم على نفسه ما شاء، دون أن يفرض أو يحرم على غيره ما لم يفرضه أو يحرمه الإجماع "المتواتر". 
وخلص د.هابيل إلى إنّ المقاصد "المنضبطة" ليست إحلالاً للأدلة العقلية محلّ النصوص الشرعية؛ لأنّ المقاصد غير واردة في العبادات، فدورها لا يأتي إلا بعد الإجماع "المتواتر"، كما أنّ الاجتهاد المقاصدي "المنضبط" لا يمكن أن يكون استحساناً فردياً؛ بل إنّ له ضوابطه المحكمة التي تعصمه من مخالفة أساسيات الشريعة؛ لأنه لا يقوم إلا على استقراء النصوص والعلل الشرعية نفسها مادامت متضافرة على معانٍ مطردة. فالأدلة العقلية، إذا استُعملت في المقاصد، "فإنما تستعمل مركّبة على الأدلة السمعية"، على قول الشاطبي". 
وأضاف إنّ نظرية مقاصد الشريعة ستظل ترفاً فكرياً نتغنّى به بين صفحات الكتب، وندعي به عمقاً فكرياً وفلسفياً لا نملكه ما دمنا لم نخطُ بالمقاصد الخطوة الكبرى التي تجعلها فعلاً "القواعد العامة" للشريعة التي تُستقرَأ من النصوص المتضافرة والعلل المطردة. لقد آن لنا أن نواجه بشجاعة السؤال الذي ظلّ دون جواب طوال سبعة قرون بعد الشاطبي، فلم يعد ممكناً مجرّد التباهي بنظرية المقاصد دون أن نعترف لها بالبعد العملي الذي يجعلها "مقاصد تطبيقية". 
إنّ النصوص الفردية والفتاوى التلفيقية هي ما يتبقّى بعد زوال الفقه المذهبي؛ إنّ الوقت قد حان لندرك أنه لا تجديد ولا إصلاح ما دمنا نتشبّث بالنصوص الفردية، ولا نقرؤها في ضوء الإجماع "المتواتر" والمقاصد "المنضبطة"، ومادمنا لم نتجاوز الظني إلى القطعي، ولم نجرؤ على "اقتناص القطع من الظنيات".