باخموت.. القتال على حافة الجُرف

منطقياً الروس هم الأقرب إلى الانتصار، وهم الأقدر على حسم المعركة، إلا أنّ بسالة المحارب الأوكراني قادرة على قلب الموازين وصنع المعجزات.

لكلا الطرفين تعتبر معركة باخموت حاسمة ومصيرية. الروس يطمحون إلى تحقيق النصر في هذه المعركة لحسم السيطرة على كامل إقليم دونتسيك، والمضي أكثر في قلب اليابسة الأوكرانية. أما الأوكران فيرفعون شعار هاملت: "أكون أو لا أكون"، ويدافعون عن باخموت كأنهم يدافعون عن كييف؛ فهم يطمحون إلى الانتصار في المعركة من أجل التحول من الدفاع إلى الهجوم، والانقضاض على الروس في الأراضي الأوكرانية المحتلّة.
رحى القتال تدور في باخموت منذ شهور، وكلا الطرفين تكبّدا آلاف القتلى والجرحى. هذا كله يجعل الهزيمة أمراً مهلكاً ومدمراً لمعنويات الطرف الذي سيخسر المعركة. لذا يستميت الجميع في القتال، ويرفض الجميع الهزيمة. قد تكون معركة باخموت هي معركة الفرصة الأخيرة، وربما تساهم نتيجتها - إلى حدّ كبير - في تحديد نتيجة الحرب برمّتها.
إن إطالة أمد القتال في هذه المعركة يصبّ في مصلحة الأوكران ويرفع من معنوياتهم، ولا يصبّ في مصلحة الروس أبداً. فصمود باخموت لمزيد من الأسابيع أو الشهور في وجه الروس سيمثل خيبة كبيرة لهم. باخموت مدينة صغيرة، وعدد ساكنيها لا يتجاوز الـ70 ألف نسمة، ويفترض ألا يحتاج الروس كلّ هذه المدة الطويلة لأجل إخضاعها وبسط السيطرة عليها.
يؤدّي سيل الأعتدة المتدفّق من الغرب دوراً كبيراً في ملحمة الصمود التي تسجّلها باخموت لغاية الآن بوجه الروس. لكن هذا لا يقلّل من شجاعة المقاتلين الأوكران المتمترسين في داخل المدينة، فهم يقاتلون ببسالة غير عادية، بالرغم من الحصار المطبق عليهم من جميع الجهات تقريباً، وبالرغم من التفوق الروسي الواضح في التقنية والسلاح.
يشتبك المتقاتلون في باخموت من على مسافات قريبة جداً، تصل أحياناً إلى بضعة أمتار، إذ ينتقل العراك من بيتٍ إلى بيت، ومن حجرة إلى حجرة. فتلتحم خطوط القتال وتتداخل مع بعضها على نحو عجيب. يجعل كسب الأرض أو فقدان الأرض عند هذا الطرف أو ذاك يُقاس بالأمتار القليلة، وربما بالسنتيمترات! لذا يغدو المشهد ضبابياً، ويصعب معه التكهن بالنتيجة النهائية للمعركة.
منطقياً الروس هم الأقرب إلى الانتصار، وهم الأقدر على حسم المعركة، إلا أنّ بسالة المحارب الأوكراني قادرة على قلب الموازين وصنع المعجزات. والأخطاء الروسية الكارثية - التي تكرّرت كثيراً منذ بداية الحرب - من شأنها أن تخلط الأوراق وتُفقد أيّة أفضليّة روسيّة جدواها.
يُثير الأداء القتالي الروسي كثيراً من العجب وعلامات الاستفهام، سواء في هذه المعركة، أو في باقي معارك الحرب الدائرة منذ أكثر من عام. بغضّ النظر عن الجبهات التي يقاتل عليها عناصر مجموعة فاغنر، فإن وحدات الجيش الروسي المنغمسة في القتال تسجل أداءً باهتاً، ربما ينمّ عن نقص في التدريب والخبرة أو خلل في التخطيط والقيادة والسيطرة.
مسألة نقص الكفاءة والخبرة لدى المقاتل الروسيّ ربما تجد ما يؤكّدها ويبرهن عليها. فلو وضعنا الجيش الروسي والجيش الأميركي - مثلاً - موضع مقارنة، فسنرى أنّ الأول لم يخض تقريباً أية حرب حقيقية أو نظامية من بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أما الثاني فقد خاض في العقود الأخيرة عشرات الحروب، كحروبه في الخليج العربي، والبلقان، والصومال، والكاريبي، وأميركا الوسطى.
لقد تفوق السلاح الروسي على المقاتل الروسي، فقد أثبت السلاح كفاءة عالية لم يُثبت مثلها المقاتل. هذا ما نقرأه في أحداث الحرب الدائرة الآن. وتبقى الأنظار معلّقة على باخموت، فمعركتها الشرسة هي أمّ المعارك، أم البدايات لأحد الطرفين، وأمّ النهايات للطرف الآخر.