بريطانيا وفرنسا... ازمة قيادات

لا يمكن ان تترك قيادة الدول الكبرى بأيدي رجال مال ومدققي حسابات وحالمين او مغامرين.

عندما تمر ديموقراطيتان عريقتان هما بريطانيا وفرنسا بما تمرّان به، لا يعود شكّ بانّ هناك ازمة قيادات في هذا العالم. فما يحدث في بريطانيا حيث ضياع كامل مستمر منذ ما يزيد على عامين نتيجة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي، أي ما يسمّي "بريكست"، يعكس قبل أي شيء آخر حال الفراغ السياسي في بلد كان في الماضي امبراطورية لا تغيب عنها الشمس.

تولت تريزا ماي موقع رئيس الوزراء كي تلملم الاضرار التي خلّفها سلفها ديفيد كاميرون الذي دعا، لاسباب ما زالت مجهولة، الى استفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي او البقاء فيه.

كان في استطاعة بريطانيا تفادي مثل هذه الكارثة التي لم تعد تعرف كيف الخروج منها، خصوصا ان كاميرون نفسه كان مع البقاء في الاتحاد الاوروبي. اذا به يسقط في فخّ نصبه له مزايدون من نوع بوريس جونسون ونايجل فراج. لا يعرف جونسون، الذي حاولت ماي استرضائه لاحقا، من السياسة غير الانتهازية. لذلك توارى بعد فشله في إدارة وزارة الخارجية وترك رئيسة الوزراء تغرق في المصائب الناجمة عن "بريكست". اما فراج، اليمني المتطرف، فكان اوّل ما فعله بعد تحريضه على الخروج من الاتحاد الاوروبي ان وضع نفسه على الرفّ في انتظار فرصة أخرى يلحق بها الضرر بموقع بريطانيا في أوروبا والعالم. مثل هذا الموقع مهدّد لاسباب عدّة في مقدّمها ان رئيسة الوزراء التي تنتمي الى حزب المحافظين لم تعد تعرف ماذا تريد. لم تجد امامها للهروب من المأزق الذي تواجهه سوى تأجيل التصويت في مجلس العموم (البرلمان) على الاتفاق الذي توصّلت اليه مع الاتحاد الاوروبي. تفادت بذلك هزيمة اكيدة كانت ستؤدي الى تخليها عن موقع رئيس الوزراء.

الأخطر من ذلك كلّه ان الازمة التي تعاني منها بريطانيا صارت ازمة حزب المحافظين أيضا. هذا يعني انّ ماي ستجد نفسها عاجلا ام آجلا مضطرة الى التخلي عن رئاسة الوزارة... او الدعوة الى انتخابات مبكرة. مثل هذه الانتخابات يمكن ان تأتي في الظروف الراهنة بجريمي كوربين زعيم حزب العمّال الذي يمكن وصفه، في افضل الأحوال، بانه يساري حالم من النوع الذي جلب على بريطانيا كلّ ذلك البؤس في ستينات القرن الماضي واوائل السبعينات. لا يذكر كوربين بافكاره البالية سوى بالطلاب اليساريين الذين تظاهروا في باريس في العام 1968 وطرحوا مطالب غير معقولة عبر شعارات من نوع "المخيلة في السلطة".

الحق الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي اضرارا لا تحصى ببريطانيا. صوتت أكثرية مع "بريكست" من دون أي سبب وجيه. تبيّن ان كلّ الأرقام التي قدّمها الداعون الى الخروج من الاتحاد الاوروبي لا علاقة لها بالواقع. لم يعرف كاميرون، رئيس الوزراء وقتذاك، كيف يدير معركة البقاء في الاتحاد الاوروبي. انتظر الأسبوع الأخير، قبل الاستفتاء، ليشرح للمواطنين الأسباب التي توجب على بريطانيا التمسك بالاتحاد الاوروبي، خصوصا ان الاتحاد قدّم لها تنازلات كثيرة. من بين هذه التنازلات البقاء خارج منطقة العملة الموحدة (اليورو) واتفاق شنغن في شأن التأشيرة الاوروبية الموحّدة.

باختصار شديد، تبدو ازمة بريطانيا ازمة غياب القائد الذي يستطيع اتخاذ قرارات جريئة من نوع القول للبريطانيين ان الاستفتاء كان خطأ وان المملكة المتحدة غير قادرة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. اين العيب في العودة عن الخطأ عبر الدعوة الى استفتاء جديد في غياب القدرة على تنفيذ "بريكست"، إضافة بالطبع الى الكلفة العالية لاي خروج بريطاني من الاتحاد؟

ما تعاني منه بريطانيا من ضياع تعاني منه فرنسا أيضا. هنا أيضا، هناك معاناة من غياب القيادات. ارادت تيريزا ماي تقمّص شخصية "المرأة الحديد" مارغريت تاتشر، فانتهت الى امرأة تبحث فقط عن كيفية البقاء في موقع رئيس الوزراء. ما ينطبق على تريزا ماي، ينطبق الى حدّ كبير أيضا على ايمانويل ماكرون الذي أراد بدوره تقليد مارغريت تاتشر التي غيّرت بريطانيا ونقلتها من بلد ذي اقتصاد فاشل الى قوّة اقتصادية عالمية ومكان يقصده كلّ من له علاقة من قريب او بعيد بحركة الاقتصاد العالمي. حوّلت تاتشر، عبر سياسة حازمة، اقتصاد بريطانيا الى اقتصاد قابل للحياة. خفضت الضرائب واقرّ مجلس العموم في عهدها قوانين اقتصادية ليبيرالية تسهل على المستثمر الأجنبي العمل في بريطانيا. فوق ذلك كلّه قضت على نفوذ نقابات العمال. كان همّ القائمين على هذه النقابات تأمين اكبر مقدار من المكاسب للعمّال في مقابل أقلّ جهد يبذلونه في المكان الذين يعملون فيه. استفادت تاتشر من التجربة الاميركية حيث ممنوع ممارسة الكسل والاتكال على التقديمات التي توفّرها الدولة. أبعدت بريطانيا اكثر ما تستطيع عن الاشتراكية وكلّ مخلّفات اليسار. كانت النتيجة نجاحا منقطع النظير لتجربة انتهت بفصل حزين بعدما بالغت "المرأة الحديد" في احتقار السياسيين الآخرين، بما في ذلك خصومها داخل حزب المحافظين.

لم تستطع ماي تقليد تاتشر. فشلت في ذلك تماما كما فشل ماكرون الذي كانت ولا تزال تنقصه الخبرة السياسية التي تجعله قادرا على مقارنة نفسه بشارل ديغول او فرنسوا ميتران او جاك شيراك.

ما هو مطروح في فرنسا حاليا، بعد نزول ذوي "السترات الصفر" الى الشارع، هو مستقبل الجمهورية الخامسة التي أسسها ديغول. لا يمكن لشخص جديد على السياسة القيام بالإصلاحات المطلوبة في غياب قاعدة شعبية واسعة قادرة على التصدي لتلك الفوضى واعمال الشغب التي ارتكبها مرتدو "السترات الصفر". فمن تصدّى للطلاب الذين ثاروا على ديغول في ربيع العام 1968 كان الشعب الفرنسي. نزل الفرنسيون الى الشارع في تظاهرة ضخمة ليقولوا ان كفى تعني كفى وان لا مكان للخراب في فرنسا. اين الشعب الفرنسي الآن؟

ثمّة حال ضياع في بريطانيا وفرنسا. لم تستطع تيريزا ماي ان تكون مارغريت تاتشر ولم يستطع ايمانويل ماكرون ان ينقل تجربة "المرأة الحديد" الى فرنسا. كان فرنسوا ميتران على حقّ، الى حد ما طبعا، عندما قال في احدى المرات: "اني آخر الرؤساء الكبار في فرنسا، بعدي سيأتي رجال مال ومدققو حسابات". اخطأ في مكان واحد. جاء بعده جاك شيراك الذي عرف كيف يجد لفرنسا مكانا على خريطة العالم. جاء بعد ذلك صغار من مستوى نيكولا ساركوزي او فرنسوا هولاند... فيما كان صعود ماكرون مفاجأة المفاجآت. هل يستطيع ان يكون شيئا آخر غير رجل مال ومدقّق حسابات؟

الايام القليلة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة الى مستقبل الرجل الذي عليه انقاذ ما يمكن إنقاذه من بقية عهده. اما بالنسبة الى تيريزا ماي، فالأكيد ان مستقبلها بات محسوما. كانت قادرة على ان تكون الشخص الثاني في ايّ حكومة ناجحة. لم تستطع ان تكون مارغريت تاتشر أخرى في ايّ وقت من الاوقات. انها ازمة غياب القائد قبل ايّ شيء آخر.