بشار برازي يسعى لتأنيث الذاكرة وتفعيل الإنجاب

الفنان السوري في أعماله الأخيرة يلجأ إلى الحركة الدلالية كشكل من أشكال ممارسة الحياة ردّاً على الغبار الذي التهم الكثير منه ومن البلاد.
عشق البدايات والإشتغالات على أساطير أو حكايات شعبية
الفن أكثر حرية من أن يقيد بأسلوب أو أن يحاصر بمدرسة

"الفن أكثر حرية من أن يقيد بأسلوب أو أن يحاصر بمدرسة". هذه العبارة التي قالها بشار برازي (1961) يوماً ما وفي حوار ما، قد تلخص رؤيته بماهية الفن والأفق المفتوح الذي يعيش فيه، ويسير إليه، فهو منذ البدء يدرك بأنه إما أن يكون بشار برازي أو لن يكون، يرفض أن يلبس عباءة أحدهم، أو أن يخرج من معطف ما، فهو يأخذ في الحسبان وقع اختياراته بما فيها مفرداته في التعبير أو مجازياته في التقويض، أو حتى مفاهيمه في تفسير العالم الجمالي، والمشاركة بقوة في صنعه، فبرازي يعمل على ترسيخ الإنسجام بين مجمل مفاصل نتاجه التي تخضع لإستجابات تجربته، تلك التجربة التي تعود لسنوات طويلة وناجحة مع الكتلة والحجم، قبل أن ينعطف في السنوات الأخيرة نحو بحار اللون، فكما نجح هناك وبتمايز، أثبت هنا بأنه عوّام ماهر، وهو موجود هنا كما كان موجودا هناك بحكم وقائع استدعاء الذات كخضوع لا كإقصاء، كقوة إيحائية توافق فضاءه اللا محدود، لا كوقاية من قلق داهم قد تحيل وضعه إلى ما يشبه إطلالة ممزوجة بالوقاية ذاتها.
برازي - ووفق موقعه داخل منتجه - ينسج أشياءه القادمة من منحوتاته على نحو ما بطاقة تذهب به إلى داخل متاهة الضوء بخيوطه التي تشبه الموسيقى المنسابة من ناي عبدالرحمن دريعي أو من كمان دلشاد، أو من حنجرة أبي صلاح فلا يمكنه الهروب إلا إلى ممارسة الرشاقة التي تلاعب النسيج الذي يجعله يضع صياغاته في ضفاف أشبه بحس عازف للقيثارة، وبتعبيرية خفية تتجاوز دوائر نمطياته، ويمكن تعميم ذلك على مجمل نتاجه النحتي منها واللوني وفق تسلسل بصري، بدءاً من تلك التي تمنح ذاتها من النظرة الأولى لمتلقيها، وليس إنتهاءً بتلك المليئة بالإيحاءات والتي حولها تتأسس الكثير من الدلالات.
ورغم يقيننا أن برازي لا يستغل كل مهاراته ولا يوظفها جميعاً في خطابه، ففي داخله من الحريق ما يكفي دهراً وأكثر، أقول رغم يقيننا بأن ما ينجزه برازي يليق به كفنان كبير، لكن سنبقى ننتظر منه الأجمل والأميز، فهو يستهل خطابه وبخصوصية لا غرابة في مقاصدها، ولا امتعاض في كشوفاتها، بل عناية في طرحها، والإحتكام إلى لا مركزية بؤره، لأنه يعي تماماً أن كل ذلك ما هو إلا إجراءات تحويلية في سيرورة نصه والإمساك بها . 

fine arts
لم يستكن

بشار برازي رغم أنه من خريجي قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق (1986) فأنه لم يمارس النحت إلا بعد عقد من الزمن لأسباب حياتية، وما إن تمكن منه وحلق في فضائه، وأصبح من الأسماء المهمة في النحت السوري المعاصر حتى تركها مرغماً والمصاعب أجبرته على ذلك على عكس ما كان يتمنى وما كان يردده "أتمنى ألا تجبرني المصاعب على فراقه".
نعم أجبرته المصاعب على الطلاق، إذ تم اغتيال ورشته الفنية من قبل الحرب التي أكلت الكثير من حلب، ومن أهلها، بل أكلت البلاد على امتدادها، كما أن وضعه الصحي في عينيه جعله يقرر الإبتعاد عن النحت مرغماً، وصحيح أنه ترك المنحوتات لكنه لم يستكن، بل انعطف انعطافاً جميلاً تليق بقامته الفنية، انعطف نحو الريشة واللون، فكما أبدع في النحت وحجز لنفسه جزءاً مهماً من فضائه، ها هو يفاجىء الوسط التشكيلي ودون عجز ببراعة بلوغه الطافح بالحنكة الماهرة، فالإحتفاء بالجمال هو خياره الأهم، ويكاد يشكل رؤيته المركزية للأشياء، ويطمح إلى فك شيفرات كثيرة منطلقاً من اللعب بالحضور الغائب أو من العودة إلى عشق البدايات والإشتغالات على أساطير أو حكايات شعبية لتكون أعماله تعبيراً فنياً، حياتياً، إجتماعياً، درامياً، تاريخياً، فلا شيء يردعه لقول الحقيقة الغائرة فيه حيث الإنسان في ذروة إنحطاطه، مع توسيع زاوية الرؤية، والتي تساعده في الإقلاع بإمكانياته دون أي تحديد في تجسيدياته الغنية والكثيرة، والتي تلعب دوراً مهماً في إبراز ملامح تجربته والدالة على خصوصيته كفرد.
وفي المقابل يسيج برازي قلقه من خوف داهم لكل من الخارج والداخل بتطلع نحو توافق بصري وفق ما يتم توزيعه ضمن ترسانة الفضاء الإنساني، وببلورة رؤياه وفق تصور دقيق لجميع حالات التعيين والتحديد التي تلخص معطياته الجمالية والتي تتصل بالزمن والتاريخ .
برازي في أعماله الأخيرة يلجأ إلى الحركة الدلالية كشكل من أشكال ممارسة الحياة ردّاً على الغبار الذي التهم الكثير منه ومن البلاد، فهو الذي يرسم مداره الفني والذي هو بحد ذاته عودة للأصول، وإلى حوارات بين الوجوه من جهة، وبينها وبين الأمكنة من جهة ثانية، وعلى أهمية ذلك، فهو يحيلنا بقوة نحو السعي لتأنيث الذاكرة وتفعيل الإنجاب، فالأحداث كانت طارئة، وما حدث حدث، فنحن بالنتيجة متهمون بالسير في سياق زمني واحد جله وحشية الإنسان وجمال الحياة .