بعثرة أوراق إيران في المنطقة

دلالة كبيرة في أن تسقط الهيبة الإيرانية في كربلاء.

لم يتخيل أشد أعداء إيران في العالم أنها ستواجه مأزقا بهذه الحدة في الدول التي تباهى أحد قادتها بامتلاكها نفوذا كبيرا في كل من بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء، فاليوم تواجه طهران بعثرة خطيرة في أوراقها داخل العواصم العربية الأربع، قد تنتهي بخروجها خالية الوفاض بعد انفاقها أموالا باهظة لتثبيت نفوذها.

تعرضت إيران لضربة سياسية قاصمة عقب حرق قنصليتها في كربلاء مساء الأحد، وهي مدينة من المعالم الشيعية المهمة في العراق. وأسقط غضب المواطنين في هذه المدينة واحدة من المحرمات الرئيسية في العلاقة بين طهران وبغداد، والتي تعتمد على المكون الطائفي لزيادة التغلغل، والاحتماء برديف كبير من القوى والأحزاب الشيعية التي تتعرض حاليا لموقف لا تدري كيف تتعامل معه، فاستقالة رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي لم تعد كافية في نظر المتظاهرين، فالمطلوب التخلص من طبقة حاكمة رهنت مصير البلاد والعباد بإيران.

تغافلت طهران عن قراءة المعاني الرئيسية للأزمة واستمرت في الدفاع عن مصالحها، وتصمم على بقاء عبدالمهدي الذي لن تطفيء استقالته الغضب الجماهيري، فقد استقال رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري ولم تتوقف المظاهرات في الشوارع والميادين في لبنان من شماله إلى جنوبه، لأن سقف المطالب يرتفع مع كل تأخير في التجاوب مع المطالب. وتسعى إيران لبقاء عبدالمهدي أكبر فترة لتحميله الوزر والخطايا السياسية والأمنية والاقتصادية، ويتحول إلى كبش فداء في مرحلة لاحقة، فأي حكومة جديدة من الصعوبة أن يكتب لها النجاح.

رمت القيادة الإيرانية بثقلها في العراق وتعلم أن سقوطها هناك يشبه أحجار الدومينو، يؤدي إلى سقوط نفوذها في أماكن أخرى، لذلك تقوم بتباديل وتوافيق سياسية بين القوى الشيعية لتقريب وجهات النظر، ولجأت للاستعانة بوجوه من خارج الجماعة الحاكمة مباشرة كي تضمن عدم انفراط عقدها، وخوفا من حدوث انعكاسات سلبية على الداخل الإيراني الذي أصبح مهيأ لانتقال عدوى المظاهرات إليه. وقتها لن تجدي الآلة الأمنية نفعا، كما كان في السابق.

قمع الاحتجاجات في العراق باستخدام القبضة الحديدية لن يفيد هذه المرة. فالأجواء الإقليمية تمنح جرأة عالية للمواطنين لإطلاق العنان لطاقات الغضب المكبوت. كما أن سقوط مئات القتلى وآلاف المصابين من العوامل التي تغذي المظاهرات، وليس العكس. وتضاعف من حرج الكتائب المسلحة والميلشيات التابعة لإيران وتضعها محل استهداف على الدوام، لذلك ضاقت الخيارات أمامها، ولم يعد العراقيون يستمعون لمرشد أو فقيه في قم أو النجف، وأصبحوا على استعداد لمزيد من التضحيات طالما استمر الحكم الطائفي جاثما على صدورهم.

تجاوزت التهديدات حدود العراق، وباتت إيران القاسم المشترك في كثير من التحركات الإقليمية. فلبنان يعيش على فوهة بركان، وتفجرت داخله طاقة غضب ضد كل ألوان وأشكال التوازنات القديمة، وفي مقدمتها المحسوبة على طهران. وسوريا يعاد ترتيب أوضاعها، وتشير الكثير من التطورات إلى أن إيران عائقا في تقدم التسوية المنتظرة، بالتالي من الضروري التخلص من نفوذها الأمني والسياسي. وبعد توافق الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي في اليمن يتعرض الحوثيون، حلفاء إيران، لموقف غاية في الحساسية، فلم تعد طهران مشغولة بهم ونيران العراق ولبنان تقف على أبوابها.

تكاتفت مجموعة من العوامل ضد إيران، حيث تعرضت لحزمة من العقوبات الأميركية شلت الكثير من أدواتها الاقتصادية في الداخل والخارج، وطالت عددا من الأشخاص والمؤسسات والكيانات والأذرع السياسية. ناهيك عن موقفها المثير منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي قبل عام، وتعرضها لانتقادات قد تجبرها على تقديم تنازلات والرضوخ للجلوس على طاولة مفاوضات لتعديله، بما يتماشى مع أهداف الإدارة الأميركية الراهنة.

توحي هذه المعطيات أن القيادة الإيرانية تعيش أزمة معقدة، تتداخل فيها العوامل الدولية والإقليمية والداخلية، وتثبت أن الطموحات لها حدود منطقية، وإذا لم ترتكن على قواعد صلبة معرضة للزوال، والتغول في النفوذ والهيمنة يفشل ما لم يعتمد على ركائز أساسية، والتمدد والانتشار مسألة خطيرة إذا قامت على الاستغلال، والاستمرار يستوجب تعاملا غير تقليدي، فمن الصعوبة أن تستخدم أدوات نمطية مع مستجدات تتحرك كل يوم ولها طقوسها وأساليبها، ووكلاء يستطيعون تطوير إمكانياتهم بسهولة، فقد ارتاحت إيران إلى أن نفوذها أضحى عابرا للقارات من دون أن تملك الوسائل اللازمة لإدارته.

تناثرت الأوراق الإيرانية في مواجهة طوفان سياسي يمكن أن يحرق معه الأخضر واليابس. يحمل من المعاني ما يعزز قناعات من راهنوا أن الطريقة التي تتعامل بها طهران مع قضايا حيوية في سبيلها إلى زوال، بعد أن اعتقدت في نجاح سياساتها وفقا لتصورات لا يأتيها الباطل، ولم تظهر القوة التي تستطيع ملاحقتها وكبح جماحها، وتضخمت بشكل زاد من جموحها وجنوحها، فوقعت في مجموعة من الأخطاء قادتها إلى فقدان ما استثمرت فيه وبنته على مدار أربعة عقود كاملة.

تكمن خطورة التشتت الذي تعيشه إيران في تقويض أحد أهم أركان نظامها، والخاص بالثقة المفرطة في منهج تصدير الثورة، وقدرتها على تكوين امبراطورية عبر جماعات وأحزاب وقوى وميلشيات حليفة. كل ذلك أصبح في مهب الريح، ما لم تجد الوسيلة التي تمكنها من الخروج الناعم من الأزمات التي تلاحقها في مناطق عدة، وربما تصل إلى عقر دارها، فالغضب الذي يعتمل في صدور المواطنين وكثافة المشاكل التي تلاحقهم تمثل قنبلة موقوتة، تنتظر التوقيت المناسب للانفجار في وجه الجمهورية الإسلامية. وهي الحلقة المفقودة في الحصار الذي يواجه إيران من الخارج.

يقلل حشر القيادة في زوايا ضيقة من مساحة المناورة التي اعتادت عليها طهران عند مواجهة أزمات متشعبة، كما أن فقدان الآلة العسكرية لكثير من قوتها يجعلها تفكر ألف مرة قبل تفعيلها على نطاق واسع، فالموقف تخطى الشغب الذي اعتادت على كبته هنا أو هناك، وتجاوز لعبة التفاهمات الضمنية التي أجادت التعامل معها فترة طويلة، وعليها أن تدخل تعديلات إستراتيجية وليست تكتيكية، فالطوفان الذي يحيق بها لن تصلح معه مراوغات، يحتاج إنحاءة وتجميعا للأوراق المتفرقة، والحصار الذي يطوق رقبتها في المنطقة قد يفضي إلى خنقها.