بغداد بين الجد والهزل

عادل عبدالمهدي وعد بما يحوله إلى موضوع للسخرية في ساحات التظاهر التي سحبت منه شرعيته قبل أن يستقيل.

سيكون من المؤسف القول في هذا الظرف العصيب إن المضحكات كثرت في العراق. وهو أمر حسن. فهو يؤكد أن آلة الشر ما عادت قادرة ولو مؤقتا على صنع المبكيات. هناك شيء ما لجمها وحجم قدرتها على الحركة.

السر في ذلك يكمن في "اميركا" الماركة المسجلة التي صارت جزءا من تجارة إيران في غسل العقول وتنشيط جرثومة الولاء الطائفي لدى ضعاف النفوس والوطنية والنوايا الحسنة.

أميركا ضربت إيران وأتباعها في مكان غير متوقع فقتلت رجلين، كان استعراضهما في الحياة يقوم على فكرة الموت المقدس. لقد حققت أميركا رغبة معلنة لدى الرجلين في أن يكونا "شهيدين" بالمقاييس الإيرانية.

تلك خدمة جليلة. بدلا من أن يستمر الرجلان في القتل والترهيب والتخريب حصلا على أعظم هبة حين تحولا إلى شهيدين، مشت الالاف في جنازيتهما اللتين دارتا حول ضريح سيد الشهداء الامام الحسين.

ليس في كل ذلك ما هو غير متوقع.

فالمسألة لا تتعدى الحكاية التقليدية. بطل تقليدي نذر نفسه للموت فلقاه.

المضحك في أن عادل عبدالمهدي وهو رئيس وزراء مستقيل وعد في أن يقوم بإخراج القوات الأميركية من العراق ردا منه ما اعتبره عدوانا أميركيا على العراق. المضحك أكثر أن تلك القوات قد تستجيب صوريا لما طلبه عبدالمهدي.

ولكن هناك ما يجب مراجعته والوقوف عنده.

أولا إن عبدالمهدي لم يعد رئيسا للوزراء بعد استقالته.

ثانيا إن الرجل الذي تعلم في فرنسا لم يقرأ الاتفاقية الامنية التي تم توقيعها بين العراق والولايات المتحدة عام 2009 فعالج سياسيا مسألة قانونية تتضمن كثيرا من الصفحات السرية.

ثالثا إن عبدالمهدي نفسه لا يحظى باحترام زعماء الكتل السياسية في مجلس النواب، لا لشيء إلا لأنه كان كسلفه حيدر العبادي رجل تسوية أميركية ــ إيرانية. وكان متهما دائما بميوله الأميركية.

الرجل وعد بما يحوله إلى موضوع للسخرية في ساحات التظاهر التي سحبت منه شرعيته قبل أن يستقيل. فهو اليوم رئيس وزراء غير شرعي. كما أن مجلس النواب هو الآخر قد فقد شرعيته نتيجة الاستفتاء الشعبي المستمر منذ أكثر من ثلاثة شهور.

ذلك يعني أن الدولة العراقية برمتها ورميمها لن تكون قادرة على أن تلغي معاهدات واتفاقات كانت قد وقعتها الحكومات السابقة. لا لشيء إلا لأن سلطة معترفا بشرعيتها ليس لها وجود في العراق.

تبدو الفكرة في جوهرها فكاهية.

ولكي تكتمل المزحة فقد صوت أتباع إيران في مجلس النواب وهم جهلة في القانون على قرار يلزم الحكومة التي لا وجود لها بطرد القوات الأجنبية. المقصود هنا القوات الأميركية.

الجميل في الأمر أن إيران مثلت دور الجهة السعيدة بالقرار. بالرغم من أنها تدرك أنه قرار لا قيمة قانونية له. لقد كشفت الأحداث أن إيران في حقيقتها هي مجرد كذبة. لذلك كان اقبالها على الأكاذيب مدهشا.

لقد علمت إيران أتباعها الكذب وصارت تصدق أكاذيبهم.

ذلك أمر في غاية الظرف.

ولكن هل ستفعلها الولايات المتحدة وتنسحب لتمارس نوعا من العقاب في حق العراقيين وليكون ذلك العقاب بداية لعهد جديد من العلاقة الأميركية ــ العراقية تكون العفوبات قاعدته؟

حتى لو قررت القوات الأميركية الانسحاب فإن قرارها سيكون سياسيا.

اما التبعات القانونية لإلغاء الاتفاقية الأمنية المبرمة عام 2009 فلا أستطيع هنا أن أدخل في تفاصيلها، غير أن الرئيس ترامب سبق له وأن تحدث عن مليارات، كانت الولايات المتحدة قد أنفقتها ويتوجب على العراق دفعها.

المضحك أن أحد النواب المتحمسين للقرار أشاد بقدرة الشعب العراقي على التعايش مع الحصار. وهكذا سيكون على الشعب العراقي أن يلقي بستة عشر عاما من العيش في الجحيم في سلة مهملاته ليعود شعبا محاصرا.

فما الذي فعلته الولايات المتحدة حين أسقطت نظام صدام حسين الذي كان ذريعتها لفرض الحصار على العراقيين؟

لا شيء سوى أنها سلمت الحكم العراق للأميين الذين صوتوا من أجل قطع صلتها به. هل هو الجد الذي يتشبه بالهزل أم هو الهزل الذي يبدو جادا؟

كانت هناك مسرحية كتبها قاسم محمد بعنوان "بغداد الأزل بين الجد والهزل" هي اليوم أشبه بالنبوءة.