"بنت الحاوى".. متعة السخرية الداكنة

"بنت الحاوي" لصلاح معاطي تضم تسع قصص قصيرة، من أبرز ملامحها حضور الفضاء.
الفضاء له دور مشهود في القصص، حيث يجسد نبل العالم
صلاح معاطي من الأدباء المتحققين في مجال أدب الخيال العلمي عربيًا

صلاح معاطي من الأدباء المتحققين في مجال أدب الخيال العلمي عربيًا، سواء على مستوى ما تعارف عليه أهل الثقافة من حيث سعة المنجز الأدبي وتنوعه وطرافته وجديته في باب الأدب النوعي، أو على مستوى تحقيق متعة القارئ وفائدته. إضافة لإنتمائه لجيل الرواد الكبار، قنديل الأدب "يحى حقي"، وأبو الأدب النوعي عربيًا "نهاد شريف"
ونبحر حول جانب من منجزه القصصي عبر مجموعة قصص "بنت الحاوي"، والتي ضمت تسع قصص قصيرة، وأولى الملامح المرصودة نجد حضور الفضاء في رحاب القصص، حيث دارت حبكة أكثر من قصة بالمجموعة حول مجموعة من زوار الفضاء، ولقائهم بأبطال القصص والتأثير فيهم، بمنحهم عطايا ملكات فريدة. كما ضمت قصص أخرى الحياة في مدارات فضائية. 

Science fiction literature
تحقيق متعة القارئ 

والفضاء له دور مشهود في القصص، حيث يجسد نبل العالم في قصة "حدث في مدار النسيان": "يموت العالم وعينه على السماء علّه يخرج بسر جديد قبل أن يلفظ آخر أنفاسه دون أن ينتظر تصفيق الآخرين" (ص 18). كما كان الفضاء طوق نجاة من طوفان الواقع الأرضي المريض، عندما قرر رواد الفضاء المنسيين في مدارات النسيان أن يؤسسوا حضارة إنسانية جديدة على سطح المريخ. 
ونجد أيضا حضور الفضاء على مستوى القاموس اللغوي للقصص، من خلال إدراج مفردات من عالم الفلك في طيات الوصف: "احمر وجهها خجلا فبدا أرجوانيا مثل قرص الشمس".
كما جاءت قصة المحاكاة الساخرة بالمجموعة والتي تعني عملًا أدبيًا يحاكي مصدرًا، وفي ذات الوقت يعارضة بطريقة ساخرة في المعالجة، وبالقصص نجد هذا المصدر متمثلا في واقعنا الآني المعيش الإداري والإعلامي العقيم، والذي تناولته آثار أدبية واقعية كثر، لكن التناول هنا جاء مبتكرًا في ثوب أدب الخيال العلمي. ففي قصة "حدث في مدار النسيان" نجد قشور التقدم العلمي، والعقم الإداري المصاحب المشهود حول أمراض الإدارة العامة، من حيث عدم إتقان العمل، والإلتزام المريض بالقوانين واللوائح، ومقتلة روحها. حيث جرى الحدث الرئيس بالقصة حول إلغاء وزارة الفضاء الخارجي نتيجة التخبط في السياسات العامة، والإدارة بالرجل المفتاح الوحيد لا الإدارة بالمؤسسات المستقرة، مما ترتب عليه ترك أربعة من الرواد في المحطة المدارية "حياة" التي تدور حول المريخ، دون ترتيب عودتهم لأمهم الأرض، بسبب تعقيدات إدارية خطيرة. 
أما قصة "عائلة السيد رقم واحد"، فقد جرى مسرحة القصة بذات العنوان، والمسرحية صادرة في سلسلة المسرح المصري بهيئة الكتاب المصرية فبراير/شباط 1999، أي تاليه لصدور القصة بحوالي سنتين، ومسرحة القصة أمر مشروع من باب الشأن المعلوم في السرد تحت مظلة مصطلح "التنامي السردي"، لكن الأمر هنا حقق التنامي بتحويل النوع الأدبي ذاته، ولا يبدو الأمر غريبا حيث مكون النسيج الفني الرئيس في القصة القصيرة معنا يقوم بصفة محورية عبر عنصر "الحوار". وحققت القصة فكرة المحاكاة عبر جعل الحضارة الآلية في استشراف المستقبل الكئيب معادلا موضوعيا تاما للحضارة البشرية المنقرضة، ثم يحضر مفهوم "التاريخ يعيد نفسه"، أو عود التاريخ على بدء لمن لم يبصر التأسي بعبرة هذا التاريخ ودروسه القاسية. 
نموذجًا: تمثيل مشكلة التبطل في حواضر الإنسان الآلي الكونية، حيث ضاقت عليهم المجرة: "ألفين من دارسي هيئة الدراسات الهندسية في بطالة يتسكعون في الطرقات، وهم يطلقون أزيزهم السخيف، لا يجدون عملا حتى أصاب الصدأ بعضهم، أما بعضهم الآخر فلم يجدوا لهم وسيلة أفضل من مطاردة الإنسان البشري في أى مكان وتعذيبه" (ص 57).

القصص قدمت الوصف المجزي للمكان بعناصره الكئيبة التي تتوافق مع استشراف كوارث المستقبل، وحضور أنماط شخصيات مريضة ممرضة، كنابش القبور وبائع الجثث والطبيب الجزار وغيرهم

كما قدمت قصة "الضفادع" المعادل الموضوعي التام لأمراض الوظائف ودواليب العمل المتوطنه عربيا، حيث التنافس المريض، ودهس الآخر الزميل مقابل التسلق وجني المنافع، فحضر "زمان الضفادع" بالقصة، وحيث إذاعة الضفادع وجهازها الإعلامي المقلق "النقيق". وبلغت السخرية ذروتها واقعيا في القصة أن الصراع اللاهب حول "لا مغنم"، فجاء الاستهلال القصصي موضحا أن بطلها – الضفدع المستقبلى في القصة - يعمل في: "صحيفة لا يطالعها إلا محرروها وبالرغم من ذلك يحتدم الصراع بين العاملين فيها" (ص 34).
ونجد وعي القصص متيقظا لاستعمال المفردات المماثلة لبيئة القصص، وفي محاكاة موفقة لواقعنا التعيس. مثلا الإنسان الآلي تحضر عنده مفردات "قليل من التيار: في مقابل الخجل الإنساني، و"احتراق الأسلاك" في مقابل "جلطة الشرايين"، وكوكب الزهرة الذي تتلف أجهزته بسرعة في مقابل السلع الفاسدة سيئة التقليد للمنتجات المميزة، وجمعية الرفق بالإنسان البشري في الحضارة المستقبلية الآلية.
وقد أضفت المسحة الساخرة للقصص رونقا من باب "الضحك الداكن"، أو ما اسميه "وجبة مرة شهية التناول"، حيث مكونات الواقع المرة هي مرآة الأديب التي ينسج بها نسيج أدبه حلو المذاق عبر إكسير الفن. ومن هذا الأم الآلية تقول للأب رقم واحد: "لا تنس يا عزيزى أن ابننا ما زال صغيرا فهو لم يبلغ قرنه الثالث بعد" (ص 55)، أو الفتاة الآلية التى تركت خاطبها يتودد إليها، ويطرق الباب لخطبتها مئات السنين قبل أن تقر الخطبة. وذكرني هذا بما طالعته في مستطرف الإبشيهى أن أحد ولد آدم توفي وعنده مائتى سنة، فبكته الأنس والجن لصغر سنه.
ونجد القصص صريحة في كشف مواضعات الواقع و‘دانته دون مواربة أو تجميل، فنجد التقدم التقني والتخلف الأخلاقى، والضمور الإنساني في ضمائر البشر ونزاهتهم، نجد قسوة البطش، ومرارة الواقع، وخيوط العنكبوت التي تلف الذات الإنسانية، وتدعها هيكلا متدليًا في سقف الحياة، كما حدث لبطل قصة "خيوط العنكبوت". 

Science fiction literature
المفردات الملائمة في حركة الشخصيات 

وكما كان د. أسامه الشواتفي في قصة "الجمجمة" والذي مرغ الإنسانية تحت الركام في مقابل الظفر العلمي، بغض النظر عن تداعيات الكشف العلمي وتأثيرات تداوله أخلاقيًا، يقول العالم المغرور بعلمه: "العلم يلقي أمامنا كل يوم .. بل كل لحظة بالعديد من المفاجآت والاكتشافات .. هل نولي ظهرنا لهذه الكنوز المختبئة خلف جدران الزمن" (ص 82). 
لذلك قدمت القصة ذات العنوان الواضح في الدلالة "الجمجمة" مشهدا مثيرًا يضج بالعنف في استشراف القصة المستقبلي الديستوبي، حيث قتل المارة في الطرقات لنقل أعضائهم الحية للصيادين، بل حضر الباعة الجائلون الذين يبيعون القطع من أجسام المجني عليهم وهم أحياء يعانون الاحتضار.
لكن في الوقت نفسه قدمت القصص حلا ناجعا عبر رسالة الضفادع الفضائية بقصة "الضفادع" للبشرية الممزقة بالأهواء والصراعات: "يجب أن نلتقى لقاء أنيقًا، نقيم فيه أواصر المحبة والمودة والسلام"، وفي موطن آخر بالقصص جاءت فكرة "العلاج بالحب". كما جاء بعث محبة الأمل وتقدير المقاومة: "بين الموت والحياة يوجد خيط رفيع علينا أن نمسك به ... الموت ليس انعدام مقومات الحياة، وإنما فقدان الرغبة في الحياة، فمقاومة الموت أهم من وجود مقومات الحياة" (ص 16 "بتصرف).
كما توطنت القصص نغمة التعاطف مع المقهورين بسياط الطمع والدعاية الإعلامية الكذوب، نموذجًا قصة العنوان "بنت الحاوي"، وبالقصة مسحة بوليسية تطل من تساؤل الراوي الشاهد، مخرج الخدع التليفزيونية حول سر تحول الفتاة الصغيرة "نصرة" برفضها الإمتثال لأبيها الحاوي بأن تطير في الهواء، ونبع التصعيد الدرامي في القصة من هذه اللحظة، حيث اتسع مدى تسخير الطفلة المقهورة، ونقل مستوى استغلال ملكاتها الفذة إلى مستوى الفضائيات والإعلام الذي يمتص المواهب دون رعايتها إنسانيا. ويتحول الراوي الشاهد إلى بطل قصصى كربوني للحاوي على مستوى أشرس.
كما قدمت القصص الوصف المجزي للمكان بعناصره الكئيبة التي تتوافق مع استشراف كوارث المستقبل، وحضور أنماط شخصيات مريضة ممرضة، كنابش القبور وبائع الجثث والطبيب الجزار وغيرهم. 
كما حضرت المفردات الملائمة في حركة الشخصيات بالقصص بما يتفق مع مفردات عالمها القصصي، فالضفدع يبحر مع صديقه الضفدع المتحول على قارب ورقة شجرة، ولسانه يلعق مياه البركة، أما الضفدع الراوي فتهتز به الورقة ويمسك بالكاد بنصلها حتى تستقر فوق الأوحال.