بنسالم حمّيش من ميدالية نجيب محفوظ إلى جائزة الشيخ زايد

شهدت اللحظة التي توج فيها المفكر المغربي بجائزة نجيب محفوظ عن روايته "العلَّامة" التي بناها من ثلاثة أجزاء.
مما ساعد بنسالم حمّيش على الوصول إلى مبتغاه جمعه بين الثقافتين؛ العربية التقليدية في أصولها اللغوية والدينية، والغربية الحديثة
بنسالم حمّيش طَعَّم ثقافته العربية ليجدد فيها ما كان قائمًا وموجودًا ومعروفًا

مصطفى عبدالله

بمجرد أن تلقيت نبأ فوز الروائي والمفكر المغربي بنسالم حمّيش بجائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب في فرع الآداب عن كتابه "الذات بين الوجود والإيجاد"، حتى استعدت ذكريات فوزه في العام 2002 بجائزة وميدالية نجيب محفوظ للإبداع الروائي من الجامعة الأميركية بالقاهرة.
 وكنت قد شهدت تلك اللحظة التي توج فيها بالجائزة عن روايته "العلَّامة" التي بناها من ثلاثة أجزاء: الأول حول عقل ابن خلدون وهو يملي عمله على الكاتب الناسخ محاورًا ومناقشًا معه الأفكار والفتاوى، والثاني استكشاف لقلب ابن خلدون واستعادته لشيء من السعادة والمحبة في زواجه الثاني بعد الموت المفجع لزوجته وأولاده غرقًا في البحر، والثالث يعني بتقديم ابن خلدون كناشط يحاول التخفيف من كوارث الحرب وتوقيف الغزاة التتار عن نهب دمشق وتدميرها. 
وفي خاتمة الرواية مشاهد لسنوات العلامة الأخيرة وحيدًا منهكًا بعد أن عادت زوجته إلى المغرب، وفصل من عمله كقاض، وفشل في تحسين الوضع السياسي حتى وضعت الشيخوخة بأوجاعها ـ ومن بعدها الموت ـ نهاية له.
وأذكر أنه في كلمته لدى تسلمه الجائزة أشار إلى تأثره العميق، ودَينه الكبير لنجيب محفوظ الذي قاوم إكراهات الوظيفة والمتاعب الصحية وتحرشات فقهاء السوء بإرادة قوية في التحصيل المعرفي المواظب، والإبداع الأدبي المتعاظم؛ فلم تثنه عن أخذ نصيبه من طيبات الدنيا والتحلي بروح النكتة فضلًا عن كون اللغة عنده تعد ذخيرة الروائي الحية بها يسمي ويصف، ويصور، يقطع ويركب، يلتقط ويمشهد، يحرك ويوقع.. مثلما هي مالكة هويته وبوتقة حساسيته ووعيه بعالم الناس والأشياء. 

كتاب بنسالم حميش
لابن رشد مساحة كبيرة 

أصل الآن إلى أحدث ما كتبته عن حمّيش تحت عنوان "ليس دفاعًا عن الإسلام في المطلق" فقد قلت إنه فنان.. كاتب.. أديب مبدع.. مفكر.. مثقف كبير.. مزج بين الإبداع الأدبي والإنتاج الفكري، أعرفه منذ سنين طوال. سافرنا معًا إلى عواصم عربية في مناسبات ثقافية، ولن أنسى دعوتنا للمشاركة في إحدى دورات مهرجان "القرين" الثقافي بالعاصمة الكويتية، حيث انطلقت فجأة الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة، فأوقفت الكويت أنشطتها الفنية والثقافية، وأمضيت أسبوعًا مع بنسالم حميش نتأمل الواقع العربي من حولنا، ونستعيد فصول التاريخ العربي في الأندلس وصقلية، وربما نبتت في تلك الظروف القاسية فكرة هذا الكتاب الذي أعرض له اليوم.
لفت نظري حقل اهتمامه باستزراع المفكر في الإبداع الأدبي سواء أكان مفكرًا اجتماعيًا أو مفكرًا دينيًا.
ومما ساعد بنسالم حمّيش على الوصول إلى مبتغاه جمعه بين الثقافتين؛ العربية التقليدية في أصولها اللغوية والدينية، والغربية الحديثة بما أضافته من فلاسفة ومفكرين وعلماء وكُتَّاب وأدباء. 
بنسالم حمّيش طَعَّم ثقافته العربية ليجدد فيها ما كان قائمًا وموجودًا ومعروفًا، وهو يرى أن كل شيء يمكن أن تتم دراسته من جديد، وأن يثمر نتائج جديدة إذا تناولناه وفق أدوات جديدة، يتساوى في ذلك أن تقرأ "هوميروس" أو تقرا "عنترة"، وأن تشترك مع "شبنجلر" في الفكر، أو تستعيد "الجاحظ" على سبيل المثال.
وما فعله صاحبنا في هذا الكتاب المهم الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة تحت عنوان "في الإسلام الثقافي"، هو أنه أعاد إلى واجهة الاهتمام صورة الإسلام وعلماء الإسلام ومفكري الإسلام ودورهم في صناعة تقدم الحياة الاجتماعية والإنسانية.
وهو يصّدر كتابه بمقولتين مقتبستين من: "ابن خلدون" في مقدمته الشهيرة، و"نيتشه" في "الدجال"، فيأخذ من "ابن خلدون" مقولته "إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته، وصار مسخًا على الحقيقة"، ويأخذ من "نيتشه" مقتبسًا يقول: "لقد حرمتنا المسيحية من حصاد الثقافة القديمة، وبعد ذلك حرمتنا أيضًا من حصاد الثقافة الإسلامية.
إن حضارة إسبانيا العربية القريبة منا حقًا، المتحدثة إلى حواسنا وذائقتنا أكثر من روما واليونان، قد كانت عرضة لدوس الأقدام (وأوثر ألا أنظر في أي أقدام).. لماذا؟ لأن تلك الحضارة استمدت نورها من غرائز أرستقراطية، غرائز فحولية، ولأنها تقول: نعم للحياة، إضافة إلى طرائق الرقة العذبة للحياة العربية". 
فمن هذين المقتبسين يتحدد الموقف الذي اختاره المؤلف لكتابه ولفكره.
وكتاب "حميش" ليس دفاعًا عن الإسلام في المطلق، لأن الإسلام ليس في معرض اتهام، ولكنه كتاب يريد أن يجدد النظر والنظرة إلى ذلك الميراث العظيم الذي أبدعه مثقفون فقهاء وليس حركيين ميدانيين.

يتساءل مثلًا عن الرابط بين أعلام كبار مثل: "أبو حنيفة" الإمام، و"أبو حيان التوحيدي"، و"ابن بطوطة"، و"ابن رشد"، و"ابن خلدون" وماذا يجمعهم؟ فقيه أو فيلسوف أو رحالة أو عالم اجتماع أو رجل فكر؟
هل يجمعهم الوعاء اللغوي، أي اللغة العربية، كثقافة وتعبير، بينما تفرقهم مجالات اهتماماتهم بين فقيه وفيلسوف ورحالة ومؤرخ ومنظر؟ أم هل نتركهم بدعوى أنهم قد أشبعوا بحثًا؟
 نحن بحاجة إلى تكرار النظر وإعادة النظر في الملفات، والحفر والتنقيب إذا أردنا أن نصل إلى جديد. فنحن نستطيع أن نصل إلى الجديد من خلال إعادة قراءة النصوص، مهما قدمت، فنقرأ أعمال "هوميروس" و"ألف ليلة وليلة" و"سرفانتس" و"شكسبير" وفلاسفة اليونان، وأن نرى فيهم آراءً لم يرها من سبقونا، لأن الأدوات التي نستخدمها تجدد نفسها بتجدد الابتكار الإنساني والعقلي، فليس هناك حائل بين الإنسان وماضيه إلا لحظة التجمد التي يتوقف عندها العقل الإنساني عن الاجتهاد والتفكير، وعندئذ يتحول الإنسان إلى غريب ويبتعد عن مصادر ثقافته الأصيلة كما يبتعد عن عالمه الحديث فيغترب.
وهناك بعض المصطلحات الخادعة التي تجري على الألسنة وتذيع وتنتشر وينقلها غيرنا، وقد يكون في ذلك إساءة أو سوء إدراك لحقيقة المعنى؛ فمثلًا تسمية "الإسلام السياسي" كمصطلح منتشر في أقطار شتى من العالم الغربي، ويختزل فيه الإسلام كله: ثقافة وحضارة بين الإعلاميين الذين لا يجهدون أنفسهم في التمحيص، وبين جماعات الضغط التي تستخدم المصطلح في غير ما يرمي إليه جريمة.
 فكلمة Islamism، وتقال في العربية "الإسلاموية"، وتذاع بطريقة متعمدة على نطاق واسع على أنها الإسلام السياسي الذي يتخذ من الملل الأخرى عدوًا وحربًا، تتعمد إنكار الإسلام كثقافة وحضارة ونور وممارسة إنسانية بناءة.
والإسلام من الناحية التاريخية له سياقات ذات طبائع يغلب عليها الفكر المعمق المستنير والإبداع المطور الباني، بعيدًا عن البداوة سواء إن كانت واقعية حضارية معيشة، أم ذهنية فقيرة، أو عقلية جافة، أو أدبية خالية من الإحساس.

الإسلام أعطى المثل للحياة الكاملة وهذا ما سنجده في تحليل صاحبنا للشخصيات المهمة التي تحدث عنها في كتابه وهي: الإمام أبو حنيفة وأنسنة الفقه الإسلامي، وما قاله الإمام مالك بن أنس، والإمام إدريس الشافعي، وسهل بن مزاحم عنه، وكذلك تحدث عن أبي حيان التوحيدي وتجربة الوجود والكتابة عنده، كما في "الهوامل والشوامل"، "الإشارات الإلهية"، ثم تحدث عن ابن رشد، والشوق إلى المعرفة كأحد أمثلة الفلاسفة العرب.
 وقد أفرد بنسالم حميش لابن رشد مساحة كبيرة لكتاباته وآرائه الفلسفية لكونه أهم شارحي أرسطو. وتحدث عن ابن بطوطة الرحالة، وابن خلدون العالم الفيلسوف الذي صنعت منه مقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر" علمًا جديدًا بدأ في اللغة العربية قبل أن ينتشر في أقطار العالم شرقًا وغربًا. وكذلك تحدث الكتاب عن حقوق الإنسان ومرجعيتها في الإسلام. 
وهو بلا شك كتاب يمتاز بعمق ما قدمه، ونحن في الحقيقة وقفنا عند أعتابه لنقدم بعض ما فيه من فائدة للقارئ.
أما كتابه الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فيذكر الدكتور علي بن تميم الأمين العام للجائزة أنه سيرة ذاتية لحميش يعرض فيها شذرات من حياته روائيًا ومؤلفًا، كما يتناول من خلالها مواقف فكرية بلورها عبر مراحل من الكتابة.
ويجمع العمل بين الأبعاد الإبداعية المتكئة على خبرة فنية للمؤلف والأبعاد الحوارية المكتسبة لدى الأكاديمي الناقد، فالكتاب يحمل العمق المعرفي والحضاري الذي يقود إلى إعادة القراءة والتفاعل معه.