بهية الجميلة التي كرهت وجهها

أصيبت مصر بدرجة عالية من عدم التصالح مع النفس فكرهت ذاتها.

صارحتني إحداهن ذات مرة أنها كانت ترتاد أحد عيادات الطب النفسي من أجل إصلاح ما دمرته ذكريات طفولتها السيئة وقد أسرت لي أنها كانت تكره وجهها وترى نفسها غير جميلة، بل لا تشعر بأنها جميلة نهائيا وأنها كلما مدح جمالها أحدهم ظنت أنها مجاملة بريئة أو فخ حقير وأنها لا تستطيع أن تواجه العالم بوجهها وحقا لقد تعجبت من كلامها لأنها فعلا جميلة وأظن أن هناك من شوه صورتها الذاتية عن نفسها حتى أفقدها ثقتها بنفسها. ومع مرور الزمن نسيت الأمر تماما حتى اقترب موعد زيارتي السنوية لوطني الحبيب مصر وكنت أرتب أن تتضمن الزيارة جولة لتفقد الآثار المصرية ليتعرف أولادي على حضارة بلدهم. وتصادف أن كانت عندي ضيفة وكان التلفزيون يذيع جانبا من برنامج عن الحضارة المصرية القديمة، فإذا بالضيفة تنتفض وتستعيذ بالله من الكفر وتطالب بتغيير المحطة. فتعجبت للمفارقة كيف أن العالم مبهور بنا وكيف نحن نكره أنفسنا. وهنا قفزت إلى ذهني صديقتي التي كانت تكره وجهها.

إذا كان الشخص لا يستطيع تقبل نفسه، فكيف يستطيع أن يواجه العالم؟ إذا كان الشخص لا يرى مزاياه بل يراها عيوبا، فكيف سيجد لنفسه مكانا وكيف سيطور من امكانياته وملكاته إذا كان لا يراها ملكات ولا مقومات أصلا؟ هذا ما فعله بنا التيار الديني في السنوات الأخيرة. 

ان لكل شعب مقومات شخصية وميزة نسبية يستطيع بها أن يجد له مكانة مميزة بين الأمم. وقد كانت من مقومات نجاح الشخصية المصرية والميزة النسبية التي يتمتع بها المصري هي الفن والقدرة على إنتاج العديد من أشكال الفنون بداية من المصري القديم الذي عبر عن هذه الميزة بالرسم والنحت والرقص وطورها في اتجاه الهندسة المعمارية والبنايات العملاقة المرصعة بالفن البديع الملغز والغامض وانتهاء بمصر التي كانت لها الريادة الفنية في العالم العربي. كان يسير إليها كل فنان يريد أن يبدع ويتألق ففيها كانت بدايات ظهور الفرق المسرحية وأول إنتاج سينمائي، فجاء إليها الفنانون من كل فج عميق منذ نجيب الريحاني وبديعة مصابني وآسيا وصباح وفريد الأطرش وغيرهم جاءوا ونجحوا وأبدعوا فيها لأنها كعبة الفن وجمهورها يقدر الفن ويتذوقه ويرفع أربابه وأصبحت مصر في عهدهم هوليود الشرق.  

منذ عدة سنوات كنت في زيارة لإحدى مدن القوقاز وأتاني أحدهم مرحبا بنا ولكن يبدو أن في نفسه شيئا من المصريين فمزج عبارات المدح بما يظنه ذما فقال لي "ماشاء الله مصر بلد المليون حافظ للقرآن وبلد المليون راقصة" فابتسمت له قائلة "هكذا تتجلى عبقرية المصري ولكنك لا تفهم ذلك".

استطاع المصري مزج الفن بالعلم بالجمال بالروحانيات وكانت هذه ميزة مصر النسبية قديما كما تظهر رسوم الفتيات الراقصات على جدران المعابد والآثار المصرية وكيف مزج المصري قديما وحديثا بين العلم والفن والدين حتى أنه يقال أن القرآن نزل بالحجاز وقرئ بمصر حيث برع كبار القراء المصريين في التلاوة باستخدام المقامات الموسيقية المعروفة. وعندما شدت أم كلثوم بـ "القلب يعشق كل جميل" في العشق الروحاني أمتعتنا بنفس القدر الذي أمتعتنا به عندما غنت "هو صحيح الهوى غلاب" وكما امتعنا عبد الحليم "بقارئة الفنجان" امتعنا "بنفضت عنيا المنام" و"أنا من تراب" وكما شدا النقشبندي رائعة بليغ حمدي "مولاي" كذلك كان يمتع سامعيه "برباعيات الخيام".

كانت مصر قبلة من يريد الصعود إلى سماء الفن حيث النجوم اللامعات ومهوى قلب كل مشتاق لسمو الروح والعين والأذن. فكيف ولماذا فقدت مصر كل ذلك وتخلت عن ميزتها النسبية إلا بسبب تشوه صورتنا الذهنية عن أنفسنا والحملات المسعورة لتشويه وتكفير كل جميل فأصبحنا نكره الفن ونكره النحت والرسم والرقص، بل أطلقنا على معاجز حضارتنا لفظ الكفر مما استلزم كراهيتها فكنا كالتي كرهت نفسها؟

أصبنا بدرجة عالية جدا من عدم التصالح مع النفس ورفض الذات وأصبحنا نعيش أزمة حقيقية حتى أن فن الضيافة لم نعد نتقنه. فالسائح الذي يقطع آلاف الأميال ليلقى نظرة واحدة على آثارنا التي نكرهها فلا نتقبله ولا نطيقه، بل نعتبره ملوثا قد أتى إلينا بأقل الثياب وبيده فتاة فحق على كل من يعمل في هذه الصناعة أن يكن له البغضاء على أقل تقدير لأن العامل في السياحة أصبح مشحونا بأن عمله حرام وماله حرام فيسقط شعوره بالذنب على كراهيته للسائح آملا أن يترك هذه المهنة في أقرب فرصة ليكفر عن ذنبه. 

وهكذا فلم نعد قادرين على إنتاج الفنون لأنه من المستحيل أن ننتج ما نكرهه ولا حتى أفلحنا في عرض ما تركه أجدادنا على الناس لأننا نحرمه. 

كرهنا أنفسنا ففقدنا مزايانا وكان آخر ما فقدناه مكانتنا وريادتنا في صناعة الفن فلن يوجد لدينا بعد الآن نجيب محفوظ ولا توفيق الحكيم ولن يعد لدينا رشدي أباظة ولا عمر الشريف ولم تعد هناك سعاد حسني ولا شادية. وفي الإخراج مات الطيب وبركات وفي الغناء لن توجد أم كلثوم ولا عبد الوهاب وفي التلحين اختفى بليغ وفي الكوميديا مات المهندس وشويكار وتضاءلت السينما بعدما نظفناها واختفى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وأما المسرح فقد هدمت المسارح ولم نعد نسمع عن فرق مسرحية محترمة. وهكذا لم تعد بلدنا تجذب النجوم، بل صارت طاردة لها ولهذا كان طبيعيا جدا أن تجذبهم بلدان أخرى ولا لوم عليهم. وأخيرا وأسفا يدمى له القلب لن يقف العزبي على المسرح ليشدو رائعته بهية وسيقف غيره يشدوها لتصبح بهية ليست مصرية.