بولتون وما بعده

إقالة بولتون مثال كلاسيكي على تطابق الاستراتيجيات واختلاف التكتيكات بين الرئيس ومساعديه.

لم يكن خروج جون بولتون المدوّي من الأبيض الأبيض أمرا استثنائيا أو مفاجئا. قليل من التدقيق يوضح بأن لا احد في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مستبعدا من الإبعاد، فسبق للرئيس، أن أقال العشرات من أصحاب المراكز الوازنة في إدارته، وغالبا دون أسباب موجبة لذلك. ورغم هذه الظاهرة الشائعة في سلوك الرئيس ترامب، إلا أن إقالة بولتون لها خلفيات وأبعاد متعددة تبدأ بسلسلة القضايا الخلافية التي نشبت بين الاثنين حول الكثير من الملفات الدولية الحساسة، ولا تنتهي أيضا بالكيمياء الشخصية بينهما وبين أطراف أخرى وفي طليعتهم وزير الخارجية مايك بومبيو.

فالرئيس ومستشاره يتشاركان بقوة تجاه احتضان إسرائيل وقضاياها الإستراتيجية، إلا إنهما اختلفا في الوسائل التفصيلية لتنفيذ ذلك في الكثير من المحطات. فعلى سبيل المثال لطالما انتهج بولتون مسارا باتجاه استعمال القوة العسكرية فيما يتعلق بالموضوع الإيراني ومختلف تفاصيل ملف برنامجها النووي. ورغم إقدام ترامب على الانسحاب من الاتفاق النووي لم يجار سياسات بولتون الذي سعى بقوة إلى جانب إسرائيل لتوجيه ضربات عسكرية قاسمة وفضَّل ولوج طرق الضغوط الاقتصادية لجر طهران لطاولة مفاوضات مفتوحة القضايا وبالنتيجة التوصل لاتفاقات مناسبة وملائمة لاستراتيجيات إسرائيل. وثمة من يجزم أن بولتون كان وراء الكثير من الوقائع التي كادت أن تدخل واشنطن بمواجهات عسكرية مفتوحة مع طهران ومن بينها التوتر الشديد الذي ظهر مؤخرا في الخليج. والأمر لا يختلف كثيرا في الجانب المتعلق بالملف الكوري الشمالي، فبولتون ظهر بصورة أكثر تشددا في معالجة البرنامج النووي والصواريخ البالستية الكورية الشمالية، حتى أنه لم يخف امتعاضه واستياءه من المسارات التي اتبعها ترامب إزاء هذا الملف وبخاصة لقائه الرئيس الكوري جونغ اون على حدود الكوريتين والذي اعتبره بولتون تنازلا أميركيا فجا في إطار علاقات أميركا الدولية وهيبتها المفترضة.

وعلى الرغم من تشدد الاثنين تجاه القضايا الأميركية واعتبارهما أميركا أولا، وكره الاثنين للبيئات السياسية الدولية المتعددة كمنظمة التجارة الدولية والأمم المتحدة وغيرها، إلا أن بولتون اعتبر حلف الأطلسي مثلا من الأحلاف التي يجب دعمها بقوة باعتباره ندا ملائما بمواجهة روسيا، الأمر الذي ظهر جليا بدفع بولتون باتجاه الانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى الذي أقدم عليه ترامب، بل لم يكتف بهذه المواجهات بل عمل على نسج علاقات قوية مع دول كانت سابقا في حضن الاتحاد السوفياتي كأوكرانيا وبولندا اللتين زارهما بدافع التحريض على موسكو. وفي السياق نفسه تعامل مع الأزمة الفنزويلية وقضايا أميركا اللاتينية بالشدة نفسها، فعمل على التدخل حتى العسكري في فنزويلا وثمة من يقول انه كان وراء محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس نيكولاس مادورو لإخراجه من السلطة في الوقت الذي كان الرئيس ترامب يتساءل عن الجدوى الإستراتيجية للتدخل الأميركي في فنزويلا، علاوة على تشجيعه لمواجهة الصين وتخطي الحروب التجارية إلى نطاقات أوسع إذا اقتضى الأمر.

في إي حال من الأحول، لقد بان للرئيس ترامب أن ثمة بعض الجوانب التي يمكن الاستفادة من بولتون وقد تمكن منذ ذلك خلال سبعة عشر شهرا من المساكنة السياسية بينهما، إلا انه في المقابل يبدو أن بولتون بات يشكل عبئا ثقيلا على الرئيس ترامب في المرحلة المقبلة وبخاصة إبان حملته الانتخابية لولاية رئاسية ثانية، وهذا ما يعززه الهامش الواسع في تحرك وزير الخارجية مايك بومبيو مستقبلا والذي سيتعزز موقعه ودوره إلى جانب ترامب والذي يعتبر المستفيد الأول من إقالة بولتون.

في المحصلة، ربما أن الاثنين سيرتاحان من بعضهما البعض، وستسمح هذه الإقالة للكثير من الوقائع والمتغيرات بالحدوث، من بينها إعادة ترسيم المسارات السياسية لاحقا مع إيران وكوريا الشمالية وروسيا وغيرها من القضايا التي نسج خيوطها جون بولتون كمستشار للأمن القومي أو في غيرها من المواقع التي شغلها.