بول أوستر وكوتزي يقدحان شرر الحياة والفكر والإبداع

الجانب الأقبح في مسألة استرزاق الصحفيين على حساب الأدب هو الحقد والنفاق والغيبة وما إلى ذلك.
لم أضطر قط إلى الاعتماد على كتبي في كسب لقمة عيشي
يبدو لي الزعماء الذين أفرزهم الفلسطينيون حتى الآن أقزاما
رتشارد فورد بصق في وجه روائي شاب كتب عن أحدث كتبه مقالا دنيئا ينم عن روح وضيعة

حين يتواصل كاتبان بحجم الروائيين بول أوستر وجي. إم. كوتزي، حتما يقدمان عصارة رؤيتهما الإبداعية في الرواية والنقد والفن والسياسة والفلسفة والعلم والحياة الإنسانية من حب وزواج وأبوة وغيرها، ليشكل ما بين سطور تواصلهما تجليات لعمق ما يحملانه من ثقافة ومعرفة وما عايشاه من حكايات في العالم المحيط بهما أو قاما بزيارته. 
وهذا الكتاب "هنا والآن.. رسائل 2008 ـ 2011 بول أوستر وجي إم كوتزي" لا يؤشر فقط إلى أهمية التواصل والحوار والنقاش وتبادل الآراء والأفكار بين الكتاب ومدى قيمة أن تكون العلاقة بينهم عميقة ومتميزة. 
أوستر وكوتزي يكشفان هنا ـ وهذا هو الأهم ـ عن الانشغالات الفكرية والإبداعية والحياتية التي تعتمل في عقلهما ووجدانهما وتنعكس على رؤيتهما لما يقرأن ويشاهدان ويتابعان. وبالتأكيد كان لهذه الرسائل بينهما تأثير متبادل على كل منهما سواء في الكتابة أو خارجها. والمهم أن الكتاب الذي ترجمه الروائي والمترجم أحمد شافعي يحتوي على فكر هذين الروائيين المدهشين ويعد نموذجا متميزا في أدب الرسائل. 
بول أوستر وكوتزي من أهم الكتاب في وقتنا المعاصر، كتب كلاهما أعمالا روائية تعد من أبرز ما كتب في السنوات الأخيرة، وليس عمل أوستر الملحمي "ثلاثية نيويورك" ورواية "العار" لكوتزي إلا اثنتين فقط من تلك الروائع. وبرغم من أنهما ظلال ـ كما أشار المترجم ـ يقرآن أعمال بعضهما البعض لسنوات، فإنهما لم يلتقيا إلا في فبراير/شباط 2008 خلال مهرجان أدبي بأستراليا، ولم يمر وقت طويل حتى تسلم أوستر خطابا من كوتزي يقترح فيه أن يبدأ الاثنان تبادل الرسائل بشكل منتظم لـ "يقدح، بإذن الله، شرر بعضنا" كما كتب كوتزي.

      أتابع أخبار إسرائيل/ فلسطين بمشاعر فزع واشمئزاز، لدرجة أنني أحيانا أكافح لكي لا أسب كلا الطرفين وأنصرف عنهما معا. ظلم هائل تعرض له الفلسطينيون وكلنا ندركه. دفعوا دفعا إلى تحمل عواقب أحداث في أوروبا لم تكن لهم أي مسئولية من أي نوع عنها.

"هنا والآن" الصادرة ترجمته عن دار الكتب خان هو نتيجة هذا الاقتراح، حوار رسائلي بين كاتبين عظيمين أصبحا صديقين، وعبر ثلاث سنوات تناولت رسائلهما كل الموضوعات: الرياصة، والصداقة، ومهرجانات السينما والقضية الفلسطينية الإسرائيلية والفلسفة والسياسة والكارثة الاقتصادية والفن والزواج والعائلة والأبوة والحب، الأمر الذي يؤكد أن الكاتب الحقيقي لا يمكن له أن ينفصل عن أي من تفاصيل الحياة وشئونها وهمومها حتى السياسية منها.
ولنتوقف عند رؤيتهما للنقاد ففي إحدى رسائل أوستر إلى كوتزي قال "النقاد. عندك حق: هلاك الروائي في رده علنا على هجمة كارهة. غير أنني سمعت في السنوات الأخيرة عن واقعتين من هذا النوع ـ لم تطو أي منهما على تبادل للرسائل ـ واقعة نورمان ميلر ذي الثمانين عاما الذي قرص ناقدا في بطنه لكتابته مقالا سلبيا عن كتابه. وبصق رتشارد فورد في وجه روائي شاب كتب عن أحدث كتبه مقالا دنيئا ينم عن روح وضيعة، وكان تعاطفي مع القارص والباصق ـ ربما لأنني شخصيا أكثر تهذبا من أن أقرص أو أبصق ـ بقدر ما أشعر أحيانا بالرغبة في ذلك. ولقد سنحت لي فرصتي قبل عشرين عاما فلم أنتهزها. 
فقد كتب ناقد أدبي في نيويورك تايمز عرضا متطرف العدائية لـ "قصر القمر" ولا يكفي القول أنه كان سلبيا بل هجوم علني. وبعد قرابة من عام من ذلك، كلفني محرر مسؤول عن صفحة الرأي في نيويورك تايمز أن أكتب قصة للكرسماس وهو التكليف الوحيد في حياتي والقصة القصيرة الوحيدة في حياتي التي تحولت إلى فيلم "دخان" بعد سنوات قلائل. كانت أول عمل قصصي ينشر لي في التايمز، وكان المحرر فخورا بنفسه لهذه الفكرة التي خطرت له، وسعيد بالنتائج وتعليقات القراء المحابية فدعاني إلى الغداء وأوشكنا على الخروج، لمح ناقد لوس أنجلس تايمز، زميله السابق في نيويورك تايمز. قال "انظر، ها هو س. تعال نسلم عليه". لم يتح لي الوقت فأخبره أن س هذا كتب عرضا مقززا لروايتي وأنني لا أرغب في مقابلته. فلما أعلن محرر صفحة الرأي عن اسمي لـ س، ابيض وجهه ورأيت الخوف في عينيه. بدا أشبه بشخص يتوقع قرصة، أعترف أنه لوهلة أغراني بذلك، لكنها وهلة عابرة، بدا الأفضل بكثير أن أتظاهر وكأني لا أعرفه أصلا، ولم أسمع باسمه قط ولم أقرأ عرضه بالمرة، وعليه صافحته بأدب وقلت إنني سعيد بمقابلته. بدت عليه الصدمة والارتياح في آن واحد".
 وتأتي رسالة كوتزي "أعرف أنك لست من مرتادي الصالونات الأدبية، لكنك تعيش في حاضرة ثقافية ومن ثم مكتوب عليك أن يتقاطع طريقك بين الحين والآخر مع أولئك الذين يكتبون عن كتبك. أما أنا في المقابل فلا مخاطرة تذكر عندي بأن أقابل تلك الفئة من الناس الذين يتكسبون لقمة عيشهم من قولهم أشياء حذقة على حساب غيرهم، وعليه فإنني ـ خلافا لك ـ لم أحتج قط إلى أن أكبح نفسي عن قرص أي من هؤلاء في أنفه".
وفي موضع آخر من الرسالة يقول "من الأسباب التي تجعلني أو تمكنني من أن أكون سميك الجلد مع النقاد أنني لم أضطر قط إلى الاعتماد على كتبي في كسب لقمة عيشي. فلقد كان لدي حتى تقاعدي من التدريس راتب أكاديمي كاف تماما. كان يمكن أن يلعنني كل من على وجه الأرض من النقاد، وتتهاوى مبيعات كتبي إلى الصفر، ولا أجوع. الجانب الأقبح في مسألة استرزاق الصحفيين على حساب الأدب ـ الحقد والنفاق والغيبة وما إلى ذلك ـ إنما يأتي أحيانا من حاجة ماسة إلى اختلاس لقمة العيش. على أية حال، برافو عليك لأنك صبرت، ولأنك خوفت الناقد المعني لعجزه عن الاقتداء بك".

حققوا السلام، لا الحب
من أهم الكتاب في وقتنا المعاصر

وشغلت القضية الفلسطينية الإسرائيلية عددا من الرسائل بين الكاتبين، أطلقها أوستر في رسالة أشار فيها إلى الصراع في الشرق الأوسط وأن دمار إسرائيل سوف يتسبب في ألم لا براء منه لكل شخص تقريبا على وجه الأرض. حرب عالمية ثالثة، أعداد لا حصر لها من الموتى، كارثة تستعصي على التصور. وأضاف فيها "أعتقد أن أفضل خططي هي أحدثها. إخلاء إسرائيل من جميع سكانها الإسرائيليين وإعطاؤهم ولاية وايومنج. وايومنج هائلة الحجم نادرة السكان داعمة للسلام العالمي، وبوسع الحكومة الأميركية ببساطة أن تشتري المزارع والمراعي وتعيد توطين سكان وايومنج في ولايات أخرى. لم لا؟ أعظم الأخطار التي تهدد الإنسانية سوف تنتهي".
ويرد كوتزي "تفتتح الكلام في إسرائيل، وأجد الكلام في شأنها صعبا، لكن إذا كنت ستحتملني فسأحاول تنظيم أفكاري المتشابكة. أتابع أخبار إسرائيل/ فلسطين بمشاعر فزع واشمئزاز، لدرجة أنني أحيانا أكافح لكي لا أسب كلا الطرفين وأنصرف عنهما معا. ظلم هائل تعرض له الفلسطينيون وكلنا ندركه. دفعوا دفعا إلى تحمل عواقب أحداث في أوروبا لم تكن لهم أي مسئولية من أي نوع عنها. وكان من الممكن حلها ـ كما تشير في فنتازيا وايومنج لليهود ـ بنصف درزينة من الطرق التي ليس بينها طرد الفلسطينيين من أراضيهم. لكن ما حدث قد حدث، ولا سبيل إلى إبطاله. إسرائيل موجودة وسوف تكون موجودة لوقت طويل. أعرف أنه يحلو للساسة الإسرائليين أن يتلاعبوا بصور الجيوش العربية في احتشادها عبر الحدود، وذبحهم واغتصابهم النساء وتبولهم العهد. لكن الحقيقة أن نصف قرن بذل فيه العرب أقصى ما في وسعهم لم يثمر عن استرداد متر مربع من الأراضي الفلسطينية".
وأضاف كوتزي "ما يحتاج إليه الفلسطينيون هو أن يظهر شخص على قدر كاف من الأهمية فيقول "لقد خسرنا وهم كسبوا فلنضع السلاح ولنتفاوض على أفضل شروط الاستسلام واضعين في أذهاننا، لو أن لنا في هذا عزاء، أن العالم كله يرى" بعبارة أخرى هم بحاجة إلى عظيم، رجل ذي رؤية وشجاعة، يخرج من بينهم ليتصدر المشهد. ولسوء الحظ عندما يتعلق الأمر بالرؤية والشجاعة، يبدو لي الزعماء الذين أفرزهم الفلسطينيون حتى الآن أقزاما. وإن شاءت المصادفة أن يظهر المخلص أخمن أنه سرعان ما سيضرب بالنار.. أما وقد قلت ما قلت عن الفلسطينيين لابد أن أقول إن هناك شيئا شديد القبح في تصرفات الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، الحكومة المنتخبة ديمقراطيا التي تعمل وفق دستور ردئ ردئ لن يتغير إلا بمزيد من العمل الدستوري، قبح يوشك أن يقلب معدة المرء. 
وليس ثمة إلا كلمة واحدة تصف ما جرى أخيرا في لبنان وغزة، هذه الكلمة schrecklich وهي كلمة قبيحة قاسية ـ كلمة هتلرية ـ وتعني معاملة الناس بطريقة قبيحة قاسية عديمة القلب. ولكل من يميل بيننا إلى الترويج عن نفسه بالفكرة التقدمية في جوهرها، والتي تذهب إلى أن تاريخ الإنسانية يلقننا دروسا علينا أن ننتبه لها إن شئنا أن نكون بشرا أفضل، فإن السؤال الذي لا بد أن نتوقف عنده هنا هو هذا: أي نوع من الدروس لقنه التاريخ لإسرائيل؟".
وفي سياق رسالته التالية يقول أوستر "حلي الهزلي بإعادة توطين الإسرائيليين في وايومنج ليس إلا مثالا آخر على التفكير المتشابك، وهو كذلك تعبير عن اليأس المطلق والقناعة التامة بأنه لن يحدث أن يتفق الطرفان يوما، وكما قال عاموس عوز "حققوا السلام، لا الحب" لكن حتى ذلك لا يبدو أنه لا يزال محتملا".