بيتر هندكه يرى أن الأدب يتشابه في كل مكان

إسكندر حبش يقدم لمختارات من حوارات الروائي النمساوي الحائز على نوبل بيتر هندكه برؤية شديدة العمق.
والدتي كانت تملك إيقاعا مس شيئا في داخلي
أقرأ كثيرا لكي أركز، لكي أتطهر. لكي أشعر

يقدم الشاعر والمترجم إسكندر حبش لمختارات من حوارات الروائي النمساوي الحائز على نوبل بيتر هندكه برؤية شديدة العمق قرأ خلالها ملامح وأبعاد شخصية ورؤى وآراء هندكه في الحياة والأدب وانعكاساتها على أعماله وتأثيراتها على الأدب الأوروبي، ليرسم للقارئ لوحة متكاملة تجمع بين الشخصية وإبداعها قبل أن يدخل به إلى ما اختاره من حوارات تعمق رؤية هندكه وتجلي الكثير من ذاته وعالمه الإبداعي والفكري والإنساني؛ وذلك انطلاقا من أن هندكه "كاتب كبير ومهم، بل لنقل إنه كاتب أساسي لنتمكن من فهم تاريخ الحساسية الأوروبية التي تموضعت منذ العام 1965، تاريخ نشر روايته الأولى (الدبابير). فهو مذ ذاك لم يتوقف عن الكتابة في مختلف الأنواع الأدبية".
هنا نستعرض بعض آراء هندكه التي ضمتها الحوارات التي اختارها وترجمها وقدم لها حبش وصدرت أخيرا عن دار خطوط وظلال الأردنية، ولنبدأ من الحوار الأول الذي أجرته صوفي بوجاس ونشر بمجلة "لوبوان" الفرنسية، ففي رده على سؤال حول ما الذي اكتشفه مع كتابه "رسالة حول مجنون الفطر" قال: الجمل الطويلة، القواعد النحوية، الحب والمواجهة، علينا أن ننعش دائما ما نكون نفتقده في الحياة، وبخاصة مع تقدم السنين. الرائع مع الأدب يكمن في أنه اكتشاف بدون غرض. لا يعني ذلك أنه تجريدي. إنه سيرورة من التجريدات وبفضله يصبح الكونكريتي خفيفا، مليئا بالهواء.
أهو وحي ما؟ تسأل صوفي ويضيف هندكه "الإبداع هو قيامة، بالمعنى الحسن للكلمة. نظن اليوم أن القيامة هي نهاية العالم. لكن الكلمة باليونانية تعني أمرا آخر، تعني أن شيئا سيفتح، سيبين. في الكتاب، يمكن لذلك أن يكون صورة، حلما، تناقضا، شعورا بالذنب. بالنسبة إليّ، الشعور بالذنب مرتبط بالكاثوليكية وهو المذهب الذي ولدت عليه، على الرغم من أن تربيتي لم تكن كذلك. لقد أصبت بالجرثومة.

لدي ميل لالتهام الصفحات بدلا من أن أتمهل متأملا تركيب كلمات بسيطة

ما الذي احتفظت به من هذه الكاثوليكية؟ تسأل صوفي ويوضح هندكه: أشياء ساحرة، قراءات، وبشكل خاص رسالة قيامة المسيح وفق القديس يوحنا، وهي التي تنتهي بشكل جيد، خلافا لما نظنه. في الكنيسة، زمن طفولتي، كان الأمر ساحرا؛ كانت الصلوات في القداديس ترتل باللغة السلوفينية، وهي لغة والدتي. كانت تملك إيقاعا مس شيئا في داخلي. عليّ أن أعترف لك بأمر أننا كنا مجبرين ـ بعد الحرب العالمية الثانية، في كارنثيا حيث ترعرعت (أرض نمساوية تقع على حدود مشتركة مع سلوفينيا وإيطاليا) ـ  على أن نتعلم اللغة السلوفينية في المدرسة. كثيرون رفضوا ذلك، وأنا كنت منهم. ومع ذلك حين كنت في الحادية عشرة من عمري؛ أي حين وصلت إلى المدرسة الداخلية، بدأت أبحث عن مكان ينتمي إليّ، لأني فقدت كل نقاط استقلالي. بدءا من تلك الفترة بدأت أقترب من اللغة السلوفينية. كنت غائبا لفترة طويلة عن النمسا، تجولت في العالم بأسره قبل أن أعود إليها. أنا متعلق بهذه القصة؛ لأن الخطر، اليوم، يكمن في أن الأدب يتشابه في كل مكان. إنه أدب "دولي"؛ أي أنه مكتوب بالطريقة عينها، وهذا أمر يؤسف عليه بالنسبة إلى شعب القراء.
وفي حوار آخر أجراه ألكسندر لا كروا للـ "المجلة الفلسفية" وردا على تساؤل حول ما إذا كان يعتبر نفسه كاتبا ملحميا بينما غالبية رواياته تجري في بلدان تعيش حالة السلام. تصف حياة الناس العاديين اليومية، وهذا بعيد جدا عن "الإلياذة".. أين توجد هذه الملحمية في داخل هذه الأعمال، قال هندكه: أكثر من هوميروس، فإن مثالي في الأدب هو رواية العصر القروسطي، وبخاصة سلسلة "الطاولة المستديرة" رواية كريتيان دو تروا. الحرب ليست كلية الحضور. ما الذي يجعل من هذه الروايات ملاحم؟ إنها في العمق تروي أقاصيص بسيطة جدا. في البداية نجد البطل شخصا شابا بريئا، يذهب للبحث عن الحب، فيرحل بعيدا بعيدا جدا. وذلك قبل أن يكتشف أن الحب كان موجودا هنا، حاضرا قبل الرحيل، وبأنه لم يكن يره. برأيي، العالم الراهن، وبشكل لا يصدق، قريب جدا من عالم روايات العصر الوسيط. أعتقد أن مرد ذلك يعود إلى جغرافيتنا كما إلى وسائل النقل عندنا. اليوم تستقل طائرة أو قطارا، فتصل بسرعة إلى شاطئ بحر أو على تخوم غابة. تجتاز ذلك، فتجد أنك وصلت إلى جزيرة. الإنسان المعاصر في تحركه يشبه فرسان العصر الوسيط، لا يقوم بمعارك، بالمعنى العسكري للكلمة، لكن في كل واحد من هذه الأماكن، هناك ما ينتظره من براهين داخلية، تحديات، غموض وأسرار. وهو يبحث عن الحب أيضا. فقط في أيامنا هذه، يمكن لنا أن نكتب ملحمة لا تتحدث عن شيء تقريبا لكنها وفي الوقت عينه على قدر كبير من الدراما.

حوارات مترجمة
أنا مرتبط جدا بالمكان

وفي سؤال آخر لفت هندكه إلى أن هناك تمزقا مأساويا بين المرأة والرجل. ولا يعود ذلك على مسألة الطبائع، ولا أجعل هنا من قصتي الشخصية مرجعا في ذلك. هذا التمزق أمر كوني. تحت السماء، أرى المرأة، إلا أنها تبقى مستوحدة بالرغم من كل المجهود الذي تقوم به، إنها مستوحدة وتائهة. سيكون انحداري حين تستولي عليّ فكرة التعاطف أكثر مما يستولي عليّ الحب حين أنظر إلى المرأة. وليس على المرأة إلا أن تجعل من الحب تعاطفا. بالنسبة إليّ الحب هو بين منزلتين بين "سلطة مجنحة" والتعاطف. أما فيما يخص أطفالي، فأنا أعتبرهم مثل أجدادي هم من يتمسكون بالسلطة، وحضورهم هو الذي يعلمني. تعرفون كلمة وودورث "الطفل هو أب الرجل"، يناسبني هذا القول بشكل رائع، فأنا أشعر بذلك.
ورأى هندكه في رده على تساؤل آخر لألكسندر لا كروا أن الفكر لا ينفصل عن الشكل، من المفيد جدا أن يتمثل الفكر دائما عبر إيقاع وصورة، تماما مثلما كان الأمر عند المفكرين ما قبل السقراطيين. كان هيراقليط وبارمينيد يؤلفن قصائد كثيرة الإيقاع. بالنسبة إليّ فإن ذلك يجسد المثال المطلق للفلسفة والأدب معا. فهذه الليونة في أن نذيب معا الفكر والشكل لم نعد نجدهما مطلقا عند الفلاسفة المعاصرين. فهايدغر ككاتب لا يملك إيقاعا أبدا. إنه ثقيل جدا. الفيلسوف الوحيد في القرن العشرين الذي اقترب من الكمال ما قبل السقراطي، هو لودفينغ فيتغنشتين. لقد شكلت كتبه بالنسبة إليّ اكتشافا، وكأنها أناجيل مضادة. يروي فيتغنشتين الفرق بين ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، إنه يرسم خط ظلال الفكر. اليوم وحين نجلس حول طاولة في بلاتو التليفزيون، نتظاهر أنه بإمكاننا أن نفكر بكل شيء، ولهذا السبب بالتحديد، نقول أي شيء.
وفي حواره لصحيفة "لوموند" أجراه إيميلي غرونجوري كشف هندكه عن ارتباطه بالمكان، المكان الذي يفضي السرد، قال "في الواقع أنا مرتبط جدا بالفضاء، بالمكان، بتعرجات النهر، بالأبعاد بين شجرتين. حين يتموضع المكان في قلبي، يبدأ السرد. تقريبا أغلب الأحيان عملت بهذه الطريقة. أعتقد أن الفضاء هو من يبدع الجمل ـ انظروا إلى الأدب الروسي، أو الأميركي؛ إنه يعطي الرغبة في العيش في بلد كبير.
وأضاف من زاوية أخرى: أقرأ كثيرا لكي أركز، لكي أتطهر. لكي أشعر ـ وفي الوقت عينه ـ بأني شفاف وقوي. لكي أفكر الألغاز أكثر من أن أستهلك. أهوّي دماغي عبر العمل على اللغة. في هذه اللحظة مثلا أترجم شعرا عربيا. عملت كثيرا على الترجمة. على سبيل المثال، ولكي نكتفي بهذه الأسماء الفرنسية: باتريك موديانو، فرنسيس بونج، رينيه شار، وبفضل شار كتبت التالي: "تيقنت بأنني لم أتعلم القراءة أبدا. لدي ميل لالتهام الصفحات بدلا من أن أتمهل متأملا تركيب كلمات بسيطة".
وقال هندكه في هذا الحوار أيضا "أكتب لتوسيع الرؤية، أحيانا، نرغب فقط بإيضاح مسألة؛ لذا علينا أن نلتف على الجمل، كما لو أننا نرسم مسألة ما".