بيروت .. هي المصير

الفكر لا يصادرُ في بيروت، ولا تعلن فيها قائمة بكتب محظورة.
في بيروت ليس المطلوب من المبدع  مدح الحكام والسلاطين ليتوجَ بالألقاب
بعض الأمكنةِ تمتازُ بخصائص لا توجدُ في غيرها

تمتازُ بعض الأمكنةِ بخصائص لا توجدُ في غيرها، ومن الصعب أن تصادفَ ما يماثلها في التكوين والطبيعة والموقع، هذا إضافة إلى فرادتها في احتضانِ كل جديد، والإنفتاح على الإتجاهات والأطياف المختلفة بدون التحفظ والحساسية. طبعاً تزيدُ هذه المرونة من جاذبية المكان إلى أنْ يصبح بيئةً لنشوء ثقافة التواصل والحوار، فبالتالي لا يكونُ تأثيرُ المكان منحصراً فيمن يعيشُ على كنفِه، إنما يطالُ إلى خارج حدود جغرافيته ويكتسبُ رأس مالاً رمزياً ودورهُ يفوقُ على ما تخطهُ محددات تجارية وسياسية وعسكرية، فما يعطي القيمة التاريخية لمدينة أثينا ليس ضخامة الترسانة العسكرية ولا الصفقات التجارية بل  ما شهدتهُ من السجالات الفكرية التي أدت إلى وثبات معرفية وفلسفية.
أكثر من ذلك فثمةَ مدن لم يقدرْ لك أنْ تولد فيها ولا اندمجت بمناخها، وقد لا تعرفُ شيئاً عن مزاج أهلها ومذاق أطعمتها، وهي ليست موطن ذكريات الطفولة ولا مرابع الصبا، وما داهمك حب عنيف في أجوائها، لكن تقيمُ معها علاقة روحيةً، وهي تتحولُ إلى فضائك الأرحب تحررك من جفاف المخيلة بما تمثلهُ على المستوى الرمزي من قوة الإختراق والتحديث، لذلك تعتبرُ نهوضها مؤشراً للتعافي من السقم الفكري والإنطلاقة نحو مستقبل جديد ولن تكون بعيداً مما تمرّ به المدينة الحلم من الأزمات المضنية، ويستحيلُ الرهان على غيرها حتى لو طال الإنتظار قبل أن ينجلى ليلها عن الضوء ويخلفُ حزنها موسيقى ينعكسُ فيها حبُ الحياة والتحدي.

بيروت هي الحد الفاصل بين التنوير والتزمت والعقلانية والظلامية

وبيروت هي مدينةُ حاضرةُ في المخيلة لها امتداداتُ في مرويات شعرية وأدبية، وبذلك تسربت إلى ذاكرة من لا يسكنُ في جغرافيتها، ونادراً ما تصادفُ مكاناً بهذه المواصفات  يصبح ُحاضنةُ للتنوع ومأوى لمشاريع فكرية حديثة، وهي أرض للمخاضات. ومن المعلوم أن حركة الحداثة العربية ارتبطت منذ بداية الخمسينات بـ"بيروت"، ولك أن تتخيل ما يحل بالحراك الثقافي من الضمور والتراجع والإنكماش بدون بيروت، إذ وفرت هذه المدينة مجالاً لخروج المبدعين من النطاق المحلي ومن ضيق المساحة إلى رحابة الفضاء.
لا يصادرُ الفكر في بيروت، ولا تعلن فيها قائمة بكتب محظورة وليس المطلوب من المبدع  في هذه المدينة الضوئية مدح الحكام والسلاطين ليتوجَ بالألقاب، إنما يكفيه أن يكونَّ حراً وحاملاً لقنديله لتعانق كلماته الأبدية. 
وهي استثناء من بين كل المدن حيثُ لا يعلو في بيروت صوت على صوت الكلمة، حتى ولو كان الزمن هو زمن الرصاص. يقولُ نزار قباني في سيرته الذاتية المعنونة بـ "من أوراقي المجهولة" مستعيداً ذكرياته أيام الحرب الأهلية في بيروت "فقد كان الشعرُ هويتي التي يعترف بها كل المتحاربين. وكانت مجموعاتي الشعرية موجودة خلف أكياس الرمل، وبين البنادق، والخراطيش، والمعاطف الكاكية". 
ويردفُ معلقاً على هذه الذائقة الشعرية المنداحة في جسد المدينة "أن لبنان الحقيقي هو لبنان الذي يقرأ الشعر لا لبنان الذي يحمل الكلاشينكوف". 
وبدوره يشيرُ أدونيس إلى دور بيروت المفصلي في مسيرته الإبداعية، ولولا عبوره الحدود بلحظات قبل إغلاقها ماضياً نحو مدينة حلم لربما لم يتمكن من إنجاز إختراقاته الشعرية والفكرية. كذلك الأمر بالنسبة لرواد الشعر الحر في العراق، فكان لمجلة الشعر الصادرة من بيروت دور كبير في إيجاد قنوات التواصل بينهم وبين جمهور أوسع. 
ضفْ إلى ذلك فإنَّ هذه المدينة قد آوت كثيراً من الشعراء والأدباء الهاربين من اختناق أمكنةٍ موبوءةِ بطاعون الإستبداد والقهر. زيادةً على ما سبق فإنَّ بيروت هي ملتقى الثقافات. إذ بادر مثقفوها إلى إقامة ورشاتٍ لنقل الأعمال الفكرية والأدبية إلى لغة الضاد. وبذلك أصبحت بيروت حسب تعبير لطفية الدليمي مدينة ً"لا تتعبُ من الجدل ولا تغيبُ من الرؤيا إلا لتضيء حلماً ولا تستفيق من الحلم إلا أسطورة حريتنا العتيقة". 
وفي هذا السياق من المناسب طرح سؤالٍ من أين تستمد بيروت خصوصية هويتها؟ هل يصحُ أن تفترضَ لها بديلاً؟ 
فيما يتعلق بالشق الأول فإن خصوصية بيروت تكمنُ في إنفتاحها وتجاور الأطياف في بيئتها، وإمكانياتاها التي لا تستنفدُ في التجدد، وعن وجود بديل لهذه المدينة فإن الإنسياق وراء هذا الإختيار ليس إلا وهماً فكل مدينة قدمت نفسها بديلاً لبيروت لم تكن إلا سراباً لأن رأس المال المادي لا يعوض التاريخ، ولا يصنعُ سوى باراديغمات هشة. 

إذاً هل أدرك الجميعُ قيمة هذه المدينة؟ طبعا من الصعب الإجابة بـ"نعم" وهي متشحة بالحزن وتنوء بالأزمات، فبعدَ انفجار المرفأ يوم 4/8/2020 لم يعدْ هناك متسعُ لكيل الإتهامات بين الأطراف الداخلية والإقليمية، فالجميعُ يتحملون مسؤولية توريط المدينة في دوامة الموت والصراع.
وهذا ما يدركه المواطن اللبناني، لذلك فإن المقصود بشعار "كلكن يعني كلكن" ليس التيارات السياسية في لبنان، إنما تشملُ المطالبة الجهات الخارجية بالكف عن التدخل بالشؤون اللبنانية أيضاً، وهذا المطلبُ يتعمقُ بعد تسونامي المرفأ. وتؤكدُ عليه كل شرائح لبنانية. 
ويفهم المواطن اللبناني بأنَّ استهداف بيروت هو محاولة لفتح الباب على الظلام الكاسح. يذكرُ أن الإعجاب الشديد ببيروت يقابله خوف من تلك المدينة كونها مناقضة بطبعها لأيدولوجيات متزمتة وشعارات متعصبة وعقائد إصطفائية، من هنا يتم فهم المساعي المستمرة لإستدراج المدينة إلى دائرة التناحر وتحويلها إلى حلبة للصراع لأنَّ نهوض المدينة فكرياً يزيدُ الوعي بضرورة الحرية وترسيخ مفهوم الديموقراطية.
ويفهمُ من التاريخ أن هذه المباديء والمشاريع المستنيرة تتطلبُ وجود بيئة حاضنة لها قبل أن تمتد على نطاق أوسع عليه فإنْ غابت هذه البيئة فلن تكون الديموقراطية وحرية الرأي سوى عناوين لبرنامج تلفزيونية. 
لذا لا مبالغة في القول بأن بيروت هي المصير والحد الفاصل بين التنوير والتزمت والعقلانية والظلامية.