تأملات في كلمات هوكينغ قبل الوفاة

ألا بورك في رفاتك يا هوكينغ، لقد أعدت للإنسان قيمته وكانت قد غرقت في زهو الإنسان وغروره وتغوله على الآخرين.

"كان وقتا عظيما أن أكون حيا وأقوم بالبحث في مجال الفيزياء النظرية. لقد تغير تصورنا للعالم بشكل كبير في الخمسين عاما الأخيرة وأنا سعيد لو كنت قد أسهمت بشكل بسيط في هذا التغيير. حقيقة أننا البشر ونحن أنفسنا عبارة عن مجموعة من الجزيئات الأساسية في الطبيعة، قد نجحنا في الاقتراب بهذا الشكل من فهم القوانين التي تحكمنا وتحكم الكون الذي نعيش فيه. حاول أن تفكر منطقيا فيما تراه وتتساءل عما نجح فيه الكون، كن فضوليًا، ومهما بدت الحياة صعبة فهناك دائمًا أمر ما يمكنك النجاح فيه، من المهم ألا تستسلم ببساطة. أنا اعتبر الدماغ حاسوبًا سيتوقف عن العمل حال تعطّلت أجزاءه، ولا توجد جنة أو حياة للحواسيب المُعطّلة، فقط إنها قصة خرافية تُقال للناس الذين يخافون من الظلام".

لم يؤمن ستيفن هوكينغ بالحياة بعد الموت وقد عاش حياة سعيدة باعترافه، على الرغم من إعاقته التي لم يوجد مثلها في الحياة، ولكن تألق نجمه يجعل الإنسان يعيد التفكير مرات ومرات في حقيقة هذه الحياة، بلا صوت وبلا حركة، هل يعقل أنه كان سعيدا؟ إن طريقة فهم هوكينغ للحياة سر سعادته، فهو لم يبك أو ينوح على قدره، لأنه لا يؤمن بالقدر أصلا، ولا يؤمن أن ثمة خالقا ابتلاه، لا لأنه يحبه ويحب أن يسمع رجاءه ودعاءه، ولا لأنه يكرهه فقرر أن يعطل جسده، فإعاقته كانت مجرد صدفة طبيعية وخلل بيولوجي أصاب بعض أعضاء جسده وتركت له دماغه ليصنع به العجائب. فاستغل هوكينغ هذا الجزء السليم من جسده ليخوض في الفيزياء الفلكية، ويتعامل مع كافة الأمور في الحياة على أنها مجرد قوانين صماء تعمل وفقا لأسسها، فلا مجال لمحاسبتها أو مساءلتها، وكل ما على البشر هو أن يفهموها ويستفيدوا من هذا الفهم لتطوير أسلوب الحياة وفلسفتها.

قبر العالم هوكينغ في كنيسة ويستمنستر إلى جانب عظماء التاريخ البريطاني
قبر صغير لعالم كبير 

لم يرد عن هوكينغ أنه عبر عن كراهية لشعب أو لأصحاب ديانة، بل أنكر وجود الخالق، ولم يشهر أحد السيف في وجهه، فعاش حرا يرود الآفاق أكثر من بقية البشر الأصحاء، قانعا بما لديه ومستثمرا لقدراته، وتنبأ بأن هناك أكوانا غير كوننا وكائنات أخرى كثيرة، فلا كوننا فريدا ولا حياتنا فريدة ونحن لا قيمة لنا لأننا سنتوحد بالتراب ونغدو سمادا له لكي تخرج أشكال جديدة من الحياة طالما أن الظروف البيئية تسمح بذلك. وطالما أنك أيها الإنسان تعيش مرة واحدة فخفف الوطء ولا تهلك نفسك في أفكار ومشاعر هدامة، وعش ودع غيرك يعيش ويستمتع برحلة الحياة ولا تجعلها كابوسا ثقيلا عليه. لا فرادة في حياتك ولا قداسة ولا تكريم، أفق من نومك وافتح نوافذك للشمس، واستنشق هواء الصباح النظيف.

المؤمنون يعتقدون أنهم خير من باقي البشر، ويحق لهم قتلهم واحتلال بلادهم واستثمار ثرواتهم والانتفاع بها بمفردهم، وأن الله خلق الناس متفاوتين وجعلهم طبقات فوق بعضهم البعض، وهذه سنة الخلق وفلسفته، ولا يجوز معارضتها والخروج عنها، والقاعدة الأساس في هذه الحياة أن الكائنات تتغذى على بعضها البعض، ويجب أن يكون المؤمنون هم الآكلون وغيرهم المأكولون، ويجب أن تفتح البلدان أبوابها لمنتجاتهم، وتقدم لهم أرزاقها لأنهم فُضلوا على العالمين، وهم كذلك مغفورة ذنوبهم مهما تكن لأنهم مؤمنون وهناك أنبياء يشفعون لهم.

ألا بورك في رفاتك يا هوكينغ، لقد أعدت للإنسان قيمته وكانت قد غرقت في زهو الإنسان وغروره وتغوله على الآخرين، فسواء أكنت قاتلا أم مقتولا، فأنت مجرد حاسوب وعندما تتلف أجزاؤك ستتوقف عن العمل، كسائر الكائنات، ولا توجد روح وجسد للحاسوب، لأن روح الحاسوب هي ذاتها أجزاؤه وأسلاكه، وعندما تنطفئ، لا تغادر روح الحاسوب إلى صانعها في كوريا أو في اليابان. أين تذهب الروح؟ بحسب هوكينغ فإن الروح هي وعي الإنسان بذاته طالما أن عقله يعمل، فإذا انقطع عنه الأوكسجين، فإنه يتوقف عن العمل، ولا يشعر بوعيه ولا ذاته وبالتالي، فليس هناك روح منفصلة بذاتها تغادر الجسد عندما تتوقف أعضاء الجسد عن القيام بالعمليات الحيوية.

هذه فلسفة مريحة، وتنقذ الإنسان من هلوسات الطيران في عالم مجهول، لم يكن يعرف حقيقته وأبعاده، ويجب أن تتغير النظرة للحياة طالما أنه تبين أن هناك أكوانا وأن هناك ملايين الكواكب التي يرجح أنها تحتضن حياة، ربما تكون شبيهة بحياتنا أو مختلفة، وعلى جميع الأحوال، ليس هناك آدم وحواء على كل كوكب فيه حياة، ولم تبدأ الحياة بأكل تفاحة، وليس هناك شعب مفضل على بقية الشعوب، وبالتالي يحق لهم استعبادهم.

هكذا رأى هوكينغ الحياة والكائنات، وهكذا كانت وصيته: استمتعوا بالحياة وتغلبوا على الصعاب لأنها رحلة واحدة، تأتون إليها ثم تغادرون لأن الكفاءة البيولوجية ستنتهي يوما ما، فلا يوجد حاسوب يعمل للأبد. لذا لا تجعلوها جحيما. وكأنها رسالة محبة عصيت على رجل الفيزياء أن يعبر عنها بلغة الشعراء، فشبه الإنسان بالحاسوب من وحي مهنته، ولكن كنهها هو المحبة والسلام، فطالما أنكم حواسيب، فلا تطغوا في الأرض، وليكن انتماؤكم لهذا الكوكب، وليس لبقعة صغيرة منه، وطالما أنكم تتلفون وترجعون سمادا للأرض، فلا تصنعوا آلاما تفوق حجم الأرض، وطالما أنكم لا شيء في هذا الكون الواسع، فاجعلوا رحلة الحياة معقولة وضمن احتمال البشر.