"تأويليات العنف" قراءات متقاطعة لباحثين عرب

الباحثون يؤكدون: الإرهابيون يدفعون بالخلط بين الديمقراطية والاستبداد إلى حده الأقصى.
مادة أدبية للكتابة والإبداع يمكن مقاربتها بمنهج فينومينولوجي يحاول وصف وفهم آليات العلاقة بين الضحية والجلاد وتقلباتها اللامتناهية
السّعي إلى الفهم، وطلب المعنى، وتقصّي الدلالة في الوقائع والأشياء، وتفسير ما يمكن تفسيره منها بالأسباب أو بغيرها

يقدم الباحثون العرب المساهمون في هذا الكتاب "تأويليات العنف" قراءات عميقة لظاهرة العنف ومشتقاتها كالتعذيب والإرهاب والقسوة والرعب، تم توزعها على محاور ثلاثة: الإرهاب وما يطرحه من تحديات على الإنسانية وعلى النظام السياسي العالمي، والعنف السياسي المباشر على الأفراد والجماعات من جانب أجهزة الدولة، وأخيرا العنف كظاهرة إنسانية يمكن وصفها وتأويلها في تجلياتها المباشرة "القسوة، العداوة، الحرب..." وفي أشكالها الفردية والجماعية. ومجمل المساهمات تدور بشكل أو بآخر على أحد هذه المحاور، أو على ما بينها من التداخل والتفاعل. فالظاهرة الإرهابية تمثل مجالاً مشتركاً للتفكير في العنف، من جهة مصادر التطرف التي تغذى منها تاريخياً، ومن جهة العوامل التي وفرت له مرئية كونية قاهرة صنعتها الدولة الحديثة تحديداً وصارت ضحيتها الأولى تحاول مقاومتها وإيجاد مخارج قانونية لذلك. 
وأما العنف في شكله السياسي المباشر فتقع معالجته من خلال ممارسة الدولة وأجهزتها لأصناف القهر والتعذيب والتنكيل بالمعارضين، وهو ما يمثل مخزوناً رمزياً لذاكرة الشعوب ومادة أدبية للكتابة والإبداع يمكن مقاربتها بمنهج فينومينولوجي يحاول وصف وفهم آليات العلاقة بين الضحية والجلاد وتقلباتها اللامتناهية؛ لنخلص إلى أن العنف يبقى ظاهرة إنسانية متصلة ببنية النفس وعلاقتها الغامضة بالشر وإضمار نوايا السوء والإيذاء.
الباحث التونسي د.فتحي إنقزّو في تقديمه للكتاب الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود قدم رؤية متكاملة لمقارباته انطلاقا من العنوان "تأويلياتُ العنف" حيث رأى أنه عنوانٌ يوحي بما يوحي به أيّ تأويل، أعني: السّعي إلى الفهم، وطلب المعنى، وتقصّي الدلالة في الوقائع والأشياء، وتفسير ما يمكن تفسيره منها بالأسباب أو بغيرها. هو عنوانٌ جامعٌ لمجمل هذه المطالب التفهمية، السّاعية وراء تدبير عقلي لما يندّ عن العقل، ويتجاوز حدوده، أو يعارضه كل المعارضة، وهو كذلك لا يكاد يُخفي حيرةً تنتابه؛ الحيرة من تفشي العنف والعسر في الإمساك بناصيته أو السيطرة عليه، أو، في أدنى الأحوال، الحد منه والتقليل من خسائره على الناس.
يلفت إنقزّو إلى أن الحال قد ينقلب وتتبدل الأدوار بين الضحايا والجلادين، كما نشهد ذلك في عالمنا اليوم، ولعله يكون من نتائج هذا الاصطفاف الحاد والانقسام الذي اخترق الوعي الأوروبي في القرن العشرين، وأفضى إلى مظالم كبرى، بل انتقلت المظلمة إلى شعوب تورطت بغير إرادة منها في هذا النزاع الكبير، وصارت هي التي تدفع ثمنه مقابل لعبة للأمم تتلهى بالموت اليومي للناس ولا تبالي.. صار العنف مشتركاً ويوميّاً، بل رتيباً إلى حدّ الملل، وصارت تبعاته من أنباء الصحف، ووسائل الإعلام بأنواعها، بل صار نشاطاً مربحاً للجميع: من الأطراف القائمة به من الجانبين، جلادين وضحايا بمقادير ونسب متفاوتة، من المجموعات التي تحترف القتال في أصقاع الأرض ولا ترضى بديلاً له، وصولاً إلى الآليات الضخمة لإنتاجه وإعادة إنتاجه على مستوى الكوكب، كأننا في حلم أو كابوس مستمر، تخيم على رؤوسنا علامات الساعة، ونُذُر الآخرة، ويوشك أن يأتي يوم الحساب.
ويتطرق إلى المحاولات والمقاربات التي تؤثّث الملف الذي يحمله الكتاب مؤكدا أنه لا يمكن أن يكون التقريب لظاهرة العنف مقتصراً على وجهة نظر بعينها. وقد تكون المقاربة من جهة الأصول أوْلى بالإشارة في المقام الأول، لما في تقصي المنابع التاريخية والعقدية للعنف من الدلالة والأهمية؛ حيث نجد البواكير الأولى لهذه الظاهرة مبثوثة في التاريخ الإسلامي الأول من خلال أبرز الفرق التي انتحلت هذا الخط المتشدد في التعامل مع قضايا الدين والدنيا "لدى الخوارج تحديداً"، وجعلت التطرف مقياساً لها في الحكم على سائر الفرق والمذاهب "عماد الدين إبراهيم عبدالرازق: جنيالوجيا التطرف والعنف في الفكر الإسلامي، الخوارج أنموذجاً"، ولو أن اللجوء إلى خيار العنف عام عند الفرق والمذاهب الإسلامية لدواعٍ دنيوية ومطالب قد لا تكون لها صلة بالعقائد وأركانه قدر اتصالها بالمصالح والمغانم وتوزيع السلطة واقتسام النفوذ على النفوس والثروات مما بات معلوماً لا ريب فيه. ولقد تأكد ذلك لدى الفحص عن مرتكزات الخطاب الديني "عمر بن بوجليدة: الخطاب الديني - انحباس المعنى وطغيان مخططات التدمير" بما يقتضيه من مؤسسات اعتقادية وقداسة تقاوم عمل الزمان، وتجارب وسرديات تأسيسية فوق النقد والمساءلة والمراجعة؛ فإن هذا الخطاب، بما غلب عليه من التطرف والعنف، إنما يجد منبعه في تجربة الشر التي تستحق تناولاً تأويليّاً مخصوصاً، بوصفه فكّاً للرموز والمعاني المزدوجة، وعملاً على اللغة قبل كلّ شيء بما فيها من الوسائط؛ ها هنا نجد التلازم الدائم بين العنف والمقدس في المتون التأسيسية للديانتين اليهودية والإسلامية، حيث ينشأ السياسي، ورديفه القانوني أو الشرعي، على حافة التماس مع الاقتصاد في العنف وتوزيعه والتحكم في تصريفه.
ويشير إنقزّو إن ضرباً من الثبات العابر للأزمنة يثوي تحت التقلبات والتحولات التاريخية، ويسكن أكثر الأشكال حداثةً: أليست الطبيعة الإنسانية هي هي رغم كل شيءٍ؟ أليس التاريخ شيئاً غير السرد المتصل لتصاريف هذه الطبيعة، أو التعبير عن مقاصدها الدفينة كما أبصر ذلك كانط بدهاءٍ وإحساس فلسفي مرهف؟ فكأنا نعاود أمكنتنا الأولى، ونحن نرى أهوال العنف في أيامنا في أكثر صورها مشهدية واحتفالية جنائزية؟ أمكنة البدايات، حيث فجر البشرية، وما قبل تاريخها؟ تلك الراهنية من البيّن أن الإرهاب هو تعبيرها الأخص، وهو الآية على كثافة للعنف لا نظير لها غير الانتقام الإلهي من الخلق والقضاء بالخراب، وأنواع العقاب التي لا تُبقي ولا تذر، والتي يدرك الناس أنها من اختصاص الأرباب، أو من أحكام الرب الواحد لا يشاركه في ذلك أحدٌ: فوراء الظاهرة الإرهابية، بوصفها رمزاً أعلى للعنف العولمي الراهن، ثمة "مشتركٌ إنسانيٌّ" يطلب التأسيس "محمد محجوب: تأسيس المشترك الإنساني" تشبثاً بفكرة الكوني الذي لا أمل له ولا شأن بالوحدة والتوحيد، وإنما بمخاض إنساني دنيوي ليس له أن ينسى كونيته في معمعان الفرديات والخصوصيات والأحداث والوقائع وشتات الأشياء الذي لا نهاية له ولا حد؛ فالكلي أفقٌ للإنسانية، حدٌّ معقولٌ ومعلومٌ من تقدير وجودها ومن رسم واجبات هذا الوجود. شأن الإرهاب أن يؤسس "داراً" للجميع على وزن "دار الحرب"، لا مَقاماً ولا مكاناً، وإنما هو زمانٌ مشتركٌ موحّدٌ يلتقي فيه أبناء اليوم التقاءً مأساويّاً، كلٌّ ينتظر نصيبه من موت عنيف يتربص به. كل ذلك يتطلب وعياً جديداً بآلية الإرهاب كعمل في الأذهان قبل كلّ شيء.

ما تنساه السرديات المشتركة الكبرى، هو كيان الأفراد ومصائرهم إزاء آلة العنف الجهنمية، ولاسيما تلك التي تديرها الدولة وتشرف عليها، وتتفنن في تصنيعها وتصريفها

ويتابع أن المقاربة القانونية السياسية للإرهاب، تواجهنا بسؤال "كيف يمكن أن نقاوم الإرهاب ديمقراطيّاً؟" (أنطوان غارابون)؛ أليست العلاقة بين الطرفين علاقة عداوة ظاهرة للعيان؟ أليس من مهمات الإرهابيين تحطيم الديمقراطيات وقد استعصت عليهم أنظمة القهر والجبروت والطغيان؟ أليست الديمقراطية نظاماً رخواً يسهل اختراقه؟ تلك الأسئلة التي تراود الناس في أيامنا من بعد أن تبيّن لهم أن النزاع في هذا الأمر لا يخرج عن تواطؤ مكين بين الديمقراطية والإرهاب، لا يجرؤ السياسيون على التصريح به، ولا يجد المفكرون له تبريراً معقولاً؛ ذلك أن الإرهاب يتغذى مما تتقوّى به الديمقراطيات نفسها؛ أي: مما يتقوّم به الفضاء العامّ من رأي عامّ ووسائل إعلام حرّة، ومن مقدار الحرية الذي يتمتع به المواطنون، وتبعاً لذلك ما يحتاجون إليه من أمان في حياتهم اليومية. فالإرهاب، بوصفه شكلاً من العنف الجذري المعمم، يفرض على الديمقراطيات أن تعيد تعريف نفسها، أي: تحديد أعدائها أيضاً، وربما إمكان التحالف مع نظم استبدادية لمقاومته مادام قد وُضع القائمون به في خانة العدوّ المشترك. 
إن ما تحرص عليه الديمقراطيات من ترتيب الأدوار والمجالات السياسية والقانونية وتحديد آليات الربط بينها، يعمل الإرهاب على تخريبه بيسر شديد: فلا فرق حينها بين الداخل والخارج، ولا بين الخاص والعام، ولا بين المركز والهامش، بل نراه يعمد إلى فسخ الصلة بين العنصر السياسي والعنصر الترابي أو الإقليمي الذي هو من شروطه الجوهرية؛ فالإرهابيون في كلّ مكان، وليسوا في مكان بعينه، هم يعملون على تشتيت الأمكنة وإضعاف كيانها المادي. وهم بذلك يدفعون بالخلط بين الديمقراطية والاستبداد إلى حده الأقصى.
ويرى إنقزّو أن الذي يتعين التنبيه عليه أنّه حتى باجتهادات فقهية قضائية لطيفة وجريئة، لا يكاد المرء يميّز في المواجهة المحتومة مع العنف ما يرجع إلى مصير الأمم والكيانات الجمعية الكبرى، وما يخص الأفراد بمجرد أجسادهم وأنفسهم. ففي الحالة الأولى نجد المقولات الكبرى للتنظيم السياسي، مثل مقولة الإيديولوجيا، تطغى على الجماعة والفرد في وقت واحد، وتضع الحراك السياسي وحوامله العنيفة في مساق كلي تتشابك فيه الدول وأجهزتها ومؤسساتها بالأفراد والجماعات والمجموعات التي تناهض سياساتها، وتعمل على تغييرها بالطرق السلمية أو بالمقاومة المسلحة. وليس أبلغ دلالة على هذا الحراك المعقد مما وقع في بعض البلاد العربية في السنوات الأخيرة من التحولات الدرامية "مروة يوسف محمد عرابي: العنف بين الإيديولوجيات والسياقات" حيث نجد أنّ إشكالية العنف راجعةٌ في المقام الأول إلى المسؤول عنه: أَهِيَ الدولة بآلاتها الحربية الساحقة، أم هي المجموعات المضادة لها؟ ولاسيما أن التناسب بين الطرفين غير مضمون، وأن الأدوات المتوافرة لكليهما غير متكافئة، الأمر الذي أحدث في هذا الحراك الشعبي تفاوتاً رهيباً بين طبيعة الاحتجاجات والتحركات والمطالب ودرجة العنف المستخدم للقضاء عليها. 
يُضاف إلى ذلك رسوخ التقاليد العنيفة في المجال السياسي العربي وطابعها المزمن الذي أدى بجميع الأطراف إلى وضع لا يحسدون عليه: فلا الدولة الباقية بقادرة على حفظ شرعيتها بعد حدوث الهبّات الشعبية وتناميها وافتضاح مشاهد القمع العنيف للمواطنين في أصقاع الدنيا، ولا هؤلاء بإمكانهم تحصيل مكسب سياسي حقيقي من التضحيات الجسيمة التي أقدموا عليها، مادامت شروط الثورة لم تلتئم ولم تنضج: ضعُف الطالب والمطلوب.
ويوضح أن ما تخفيه هذه المشاهد الكبرى من مسرح النزاعات بين الأمم والشعوب، وبين الدول والأفراد، وما تنساه السرديات المشتركة الكبرى، فهو كيان الأفراد ومصائرهم إزاء آلة العنف الجهنمية، ولاسيما تلك التي تديرها الدولة وتشرف عليها، وتتفنن في تصنيعها وتصريفها. ترجع بنا فينومينولوجيا الألم إلى حالة التعذيب "ماهر عبدالمحسن: ذهنية التعذيب" من حيث هي حالةٌ نموذجيّةٌ تكاد تكون مخبرية لمعاناة الإنسان في هذه التجربة القصوى بالعبارة الشهيرة لكارل ياسبرز: فالتعذيب في دلالاته اللغوية المعجمية، وفي مصادره التاريخية المتعددة، وفي المعالجات القانونية التي خضع لها، هو تجربة ما لا قبَل لأي امرئ بتجريبه أصلاً، الألم المحض، كما تصوره أحسن تصوير الروايات والنصوص الأدبية العربية المعاصرة، من خلال نماذج منتقاة، بوصفها فينومينولوجيا حية لخبرة الألم في تفاصيلها اليومية الرتيبة وفي العوالم الرهيبة التي ترسمها، ولاسيما عوالم السجون والزنزانات، وفي نمط الوعي المخصوص بالألم في مراحله كلها، قبله وبعده. يرجع التعذيب بالعنف إلى فردانيته المطلقة التي يعسر التعبير عنها والنطق بحقيقتها، لا عند القائم بها من الجلادين، ولا عند الذي وقع عليه فعل التعذيب: كلاهما في تواطؤ مكين، في ضرب من الصمت المتبادل، من الاعتراف الخجول بالأدوار، من انقلاب الوظائف أحياناً، ومما يلف ذلك كله من نظرة لا تعادلها أية نظرة أخرى؛ أليس الجلاد والضحية كلاهما شريكان في الخَلق؟ أليست المصادفات وعوارض الأمور هي التي جعلت كلّ واحد منهما في ذلك الدور الذي أُوكِل إليه، أو الذي تورّط فيه؟ ألا يحتاج كلّ منهما إلى الآخر بوجه ما؟ تلك هي رتابة الشر بلغة آرنت، أو سذاجة القسوة في فينومينولوجيتها اليومية، التي انكب على تحليلها أمثال إتيان باليبار "محاورة معه نقلها يوسف السهيلي"، في محاولة لفهم عودة الهمجية والتوحش إلى قلب الوجود المدني، التي تكاد تغني عن كلّ فهم وكلّ تأويل.