تاريه تفايت يعيد استكشاف 'النيل.. نهر التاريخ'

أستاذ في قسم الجغرافيا بجامعة بيرجن بالنرويج يأخذنا في رحلة نيلية تمتد من مصبِّ نهر النيل وصولًا إلى منبعه في محاولة لسرد تاريخ النهر والتعرف على تنوعه الهيدرولوجي والثقافي والسياسي.

 يقدم أستاذ في قسم الجغرافيا بجامعة بيرجن بالنرويج، والأستاذ السابق في التاريخ والعلوم السياسية في جامعة أوسلو تاريه تفايت، لهذا الكتاب "النيل.. نهر التاريخ" كرحلة نيلية تمتد من مصبِّ نهر النيل وصولًا إلى منبعه. فما من سبيل للكشف عن أسرار النيل ودوره وأهميته فيما يتعلق بالتنمية المجتمعية وفهمها دون تتبع حركته باتجاه الأعلى، من مكان إلى مكان بصبر وبوتيرة منتظمة تشبه دقات قلب النهر.

يقدم تفايت في كتابه الذي ترجمته منة الخازندار وصدر عن دار العربي، محاولة لسرد تاريخ نهر النيل والتعرف على تنوعه الهيدرولوجي والثقافي والسياسي. كما أنه يأتي كـ "رسالة حب" أيضًا موجهة إلى النيل. ويقول "كان الهدف من وضع هذا الكتاب بسيط: وهو وصف الدور الذي يلعبه النيل في التاريخ والدور الذي يلعبه في الماضي والحاضر بأكبر قدر ممكن من التكافؤ والحيادية. على المدى الطويل، فإن الفهم الكلي والشمولي لأهمية النهر، كما أعتقد، كان شرطًا أساسيًا لجعل النيل الأكثر إثارة للاهتمام تاريخيًا، مستمرًا في لعب دوره المهم والإيجابي في التنمية الحضارية. بالنسبة لي، عددت ذلك أيضًا دراسة لتاريخ العالم، لأن النيل هو نهر ذو أهمية عالمية حقيقية".

ويضيف تفايت "في الطابق الرابع بمتحف أثري متواضع يبعُد قرابة 35 كيلومترًا عن روما، ستجد العمل الفني "فسيفساء النيل" (Nile Mosaic). وهو عمل فني عمره 2000 عام، يبلغ عرضه ستة أمتار ويتخطى ارتفاعه الأربعة أمتار، ويصوِّر النيل ومظاهر الحياة على ضفتيه بشكل إبداعي، ويتناوله من مناظير مختلفة ومتعددة. يصوِّر الجزء العلوي من "فسيفساء النيل" عناصر إفريقية، ويحاكي الجزء السفلي مناظرَ خاصةً بالحياة على شواطئ البحر المتوسط. على الرغم من ضرورة مشاهدة الأعمال الفنية المصنوعة من الفسيفساء من مسافة لتبين تفاصيلها، وضرورة الالتزام بالوقوف خلف الحواجز الموضوعة لحماية الأعمال الفنية من اقتراب المتفرجين الذي قد يُلحِق بها ضررًا، فإن الرسوم الكاملة والزاهية بشكل استثنائي التي تكوِّنها الأحجار الملوَّنة الملتصق بعضها ببعض بواسطة الملاط، تظهر جلية من جميع المسافات. ولكنَّ الأمر الإبداعي حقًّا في "فسيفساء النيل" في بلدة بالسترينا هو تصوير النيل وتصوير الشعوب وهي تمارس حياتها بنظرة حديثة تمامًا، كما لو كان الفنان الذي أبدعها قد نظر إلى النيل وهو على متن طائرة. ويُعَدُّ أيضًا هذا العمل الفني مصدرًا تاريخيًّا تعبيريًّا مثيرًا للإعجاب: فهو يؤكد بقاء النيل كشريان حياة المجتمع ومحور اهتمامه إلى أبد الآبدين، كما رُسِمَ البحر الأبيض المتوسط كمحتضِنٍ لتاريخ القارة الذي سطرته المياه.

ويشير إلى أن "فسيفساء النيل" تصوِّر المكانة المحورية التي يشغلها النيل في حياة أولئك الذين يعيشون على ضفافه، كما تنقل لنا كذلك كيفية تشكيل النيل جزءًا من تاريخ أوروبا الثقافي والديني. وتُذكرنا بماضٍ سحيق كان يُعبَد فيه النيل كنهر مقدس، ولم تقتصر عبادته على الكهنة بالمعابد الضخمة المنتشرة على ضفافه في مصر، بل امتدَّت أيضًا إلى أوروبا. جاءت "فسيفساء النيل" وليدة العهد الذي انتشرت فيه عبادة النيل والإلهة إيزيس من مصر إلى العالم الهليني والروماني. مثَّلت عبادة النيل مذهبًا جديدًا ومستقلًّا، دينًا غامضًا اهتمَّ بفكرة الموت والبعث، وتمحور حول المواكب والشعائر المهيبة التي أدت فيها مياه النيل دورًا رئيسيًّا.

ويوضح تفايت "فسيفساء النيل" ابتُدِعَتْ منذ مئات من السنين، قبل أن تصبح عبادة النيل والإلهة "إيزيس" منافسًا قويًّا للمسيحية، الدين الجديد الذي انبثق من الشرق الأوسط. استمرَّت عبادة النيل وآلهته مدةً طويلة إبان الحقبة المسيحية، وقيل إن أتباع الإلهة "إيزيس" هم مَن كانوا وراء إعدام القديس "مرقس" الإنجيلي الذي استُشهِد في مدينة الإسكندرية في أحد أعياد الفصح بعد بضعة عقود من حادث موت المسيح: فقد وُضِعَ حبلًا حول عنقه وسُحِلَ خلال بوابات المدينة ثم قُطِعَ رأسه. ولم يُقْضَ على عبادة الإلهة "إيزيس" والنيل سوى بعد أن أضحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. وتحولت دلتا النيل إلى معقل للمسيحية المبكرة بعد أن كانت مهدًا لدينٍ غامضٍ حظي بانتشار واسع.

ويرى أن "فسيفساء النيل" الموجودة بأحد المتاحف خارج مدينة روما تُمثِّل تاريخًا طويلًا وممتدًّا، جعل من الفروق والحدود التي رُسِمَتْ لاحقًا بين القارات والشعوب غير واضحة المعالم. فاسم النيل يرتبط بأوروبا بفضل الشاعر الإغريقي "هسيودوس" الذي عاش في المدة بين عامي 700 و600 قبل الميلاد، عندما اشتركت مصر والدلتا واليونان في الانتماء إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط المشتركة. فقد أطلق "هسيودوس" على النهر اسم "نيلوس"، إذ إن القيمة العددية لتلك الحروف الإغريقية هي 365 - وهذه القيمة تعني الكلية - كما لو كان لتأكيد أن النهر كان يُنظَر إليه على أنه يمثل كل شيء. وتُذكرنا "فسيفساء النيل" بأن وادي النيل كان أحد الطرق الرئيسية الذي انطلق خلاله البشر خارج إفريقيا وعمروا الأرض، وأن أحد أقدم المجتمعات الزراعية التي نعرفها تطورت على طول ضفافه، وأن أكثر الحضارات القديمة تأثيرًا وعظمة قد بزغ فجرها بفضله. فـ"فسيفساء النيل" هي تصوير طوبوجرافي لأحد المراسم الدينية، لكن يمكن تأويلها أيضًا على أنها احتفاء بالنيل باعتباره جزءًا من ثقافة البحر المتوسط. تنضح "فسيفساء النيل" بافتتان مبدعها بالنهر. هذا الافتتان أيضًا هو ما سيطر على الإمبراطور الروماني "يوليوس قيصر"، إذ قيل إنه أعلن أنه سينزل على الفور عن مُلك مصر بأكملها لمن يخبره عن مكان منبع النيل. فمن أين تأتي كل تلك المياه، التي تفيض كل صيف - حالما تعاني مصر أشدَّ الأوقات حرارةً وجفافًا - على الصحراء الحارقة، لتكوِّن أحد أكثر الأقاليم خصوبةً على وجه الأرض؟.

ويقول تفايت أن هذا الكتاب ينتمي إلى الأسلوب ذاته الذي ترمز إليه "فسيفساء النيل" في بلدة بالسترينا" فهو كتاب تاريخي يتناول تطور الحضارة، كما ينتمي إلى أدب الرحلات السردي الذي يحكي عن قصص يرويها لنا أطول نهر في العالم. وفي الوقت ذاته، يُعَدُّ أيضًا دراسة عن السياسات المائية الحديثة والتنمية الإفريقية ومتغيراتها، فضلًا عن الطريقة التي أظهرت بها هذه المتغيرات العديد من خصائص التنمية بالعالم الحديث. لكنْ في المقام الأول، يُعَدُّ الكتاب سردًا تاريخيًّا لشريان حياة يربط قرابة نصف مليار شخص معًا بمصير مشترك.

ويلفت إلى أنه سبق أن كتبت عن تاريخ النيل، من الحقبة التي كان النيل يقع فيها تحت سيطرة الاستعمار البريطاني (النيل في عصر البريطانيين)، وخلال حقبة ما بعد انتهاء العهد الاستعماري (نهر النيل في عصر ما بعد الاستعمار). ونشرتُ كذلك العديدَ من الاستطلاعات الببليوجرافية المتعلقة بالمنطقة (خمسة أجزاء) بالإضافة إلى نشر مجموعة من الكتب التي تتناول زمن المساعدات الدولية في الإقليم. يتميز كتاب "النيل: نهر التاريخ" بمحور اهتمام مختلف وبمنظور طويل الأمد بشكل أكبر، وهو يسعى إلى ربط كل شيء تعلمته بعد قيامي بعدد لا يُعد أو يحصى من الرحلات، قاطعًا النيل جيئةً وذهابًا، وبعد خوض مناقشات لا نهائية حتى ساعات متأخرة من الليل على طاولات مقاهٍ امتدت من مدينة الإسكندرية حتى مدينة كيجالي، وبعد إجراء حوارات عدَّة ومطوَّلة مع الخبراء وقادة الدول والوزراء، وبعد قضاء أعوام داخل دوائر مخطوطات ثلاث قارات، بحثًا عن مصادر تتحدث عن تاريخ النيل وإقليمه.

ويؤكد تفايت إن ما يحدث بشأن النيل وعلى طول ضفافه الآن، وما سيحدث في الأعوام القادمة ستكون له تداعيات وخيمة تؤثر في سياسات الإقليم وفي السياسات العالمية. في أثناء كتابتي هذا الكتاب، يمرُّ النيل، متدفقًا خلال الطبيعة ومتضافرًا في المجتمع، بأكبر تحول شهده على مدار تاريخه الطويل. وفي مثل هذه الأوقات المأساوية والانتقالية ومبهمة العواقب على وجه التحديد، تصبح المعرفة التاريخية بالغة الأهمية، فلن نتمكن من تفسير ما يحدث في الوقت الراهن على نحو صحيح ما لم نفهم أحداث الماضي.

يذكر أن تفايت يبدأ كتابه بسرد مفصَّل عن بداية النيل ونشأته وكيف تطورت صورته في عيون البشر الذين عاشوا حول ضفافه على مر التاريخ، والحضارات التي نشأت وازدهرت بسببه، ثم يذكر أشهر من تأثروا بالنيل وقوته، مثل الإسكندر الأكبر، ورحلة فرار السيدة العذراء والمسيح إلى الدلتا، ثم انتشار الإسلام ورسالة الخليفة عمر بن الخطاب إلى النيل، ثم حملة نابليون، والصراع بين فرنسا وإنجلترا على مصر، واهتمام المستشرقين والرحالة الأوروبيين باكتشاف منابع النيل، وقد مات كثيرون منهم دون أن ينجحوا في مسعاهم ذاك.

ثم يتطرق لأسباب وأصول كل المشكلات التي يواجهها من يعيشون على ضفاف النيل اليوم، بدءًا من دولة المنبع، إثيوبيا، وحتى دولة المصب، مصر. فمنذ البداية، هدفت بريطانيا لشيء واحد فقط، وهو حماية مصالحها الاقتصادية في مصر، ومن هنا بدأت تتقدم لاحتلال أو السيطرة على الدول الواقعة على النيل.

وينتقل تفايت بعد ذلك إلى إثيوبيا، والدول المحيطة بها مثل السودان، وكينيا، والكونغو، وتنزانيا، وإريتريا، ليشرح لنا تاريخ الصراعات التي أشعلت تلك الدول والتي بشكل أو بآخر كانت أيضًا بسبب الإستعمار البريطاني. ومن جانب آخر يتساءل: أليس من حق الدول التي تقع على روافد نهر النيل بأن تستفيد منه كما استفادت مصر عندما بنت السد العالي مثلًا؟ - مع تأكيده على نقطة أنه في حواراته التي أجراها مع مسؤولين بالدول الأفريقية التي وقعت على اتفاقية النيل عام 2011، بأن سد النهضة لن يضر مصر بأي شكل من الأشكال، وأنه بالعكس سيصب أيضًا في مصلحتها ومصلحة السودان بالأخص. بالطبع، هذه رؤية لم تتشاركها مصر معهم خصوصًا وأن تلك الدول قد استغلت انشغال مصر بأحداث ثورة عام 2011، ووقعت تلك الاتفاقية دون الرجوع إليها.

وبالنهاية يمكن أن نستخلص من الكتاب أن موضوع نهر النيل، هو موضوع شائك للغاية، لكن أساس كل تلك المشكلات والانقسامات التي تحدث حتى يومنا هذا هو الإستعمار وسعيه الحثيث لحماية مصالحه مهما كانت التكلفة التي ستتحملها شعوب النيل. هذا لا يعني أن المسؤولية لا تقع الآن كذلك على عاتق تلك الشعوب التي يمكنها أن تتوقف وتتخلص من هذا الثقل بأن تبدأ بالنظر إلى فكرة التعاون بدلًا من الاقتتال من أجل التفكير في استغلال النهر بطرق لا تضر بأي ممن يعتمدون بشكل أساسي عليه ليعيشوا.