تجليات العمارة الصينية من القصور الإمبراطورية إلى أكواخ العامة

كتاب "العمارة الصينية" الذي حرره وانغ يون جوان وترجمته آية عبدالله وراجعه د.أحمد ظريف، يتناول عدًدا من المحاور الأساسية.
الخيزران أصبح أحد أهم ملامح الثقافة الصينية قديًما وحتى الآن
العمارة الصينية تأثرت قليلا بالعمارة الغربية في بعض المدن

تتمتع الحضارة الصينية على مر العصور، بطرازها المعماري الفريد، حيث اعتمد الصينيون الأوائل بشكل رئيسي على الخيزران في إنشاء الأبنية والمنازل القديمة حتى أصبح الخيزران أحد أهم ملامح الثقافة الصينية قديًما وحتى الآن، كما تميزت الطرز المعمارية لقصور الأباطرة والمعابد بتصميماتها ذات الطابع الفريد سواء في الجدران أو الأسقف أو الباحات والحدائق، وعلى الرغم من أن العمارة الصينية قد تأثرت قليلا بالعمارة الغربية في بعض المدن، إلا أنها استطاعت أن تدمج بين أساليب وفنون العمارة الغربية الحديثة، بالطراز المعماري الصيني القديم بما يمثل حفاظًا على الثقافة المعمارية الصينية الفريدة.
وهذا الكتاب "العمارة الصينية" الذي حرره وانغ يون جوان وترجمته آية عبدالله وراجعه د.أحمد ظريف، ونشر ضمن سلسلة الصين في مائة عام عن مؤسسة بيت الحكمة، يتناول عدًدا من المحاور الأساسية، منها وصف السمات التقليدية للعمارة الصينية والتي تتمثل في القصور الإمبراطورية ومساكن العامة بالإضافة إلى مساكن الأقليات المتميزة ذات الطابع الخاص، كما يتناول استعراضا لثقافة الغرب في الصين فيما يتعلق بالفن المعماري، فيقدم شرًحا لُطرز المنازل الأجنبية بشكل عام، والمباني الغربية في أواخر عهد أسرة تشينغ، ثم ينتقل إلى استعراض ما تتسم به المساكن والأبنية في عهد الجمهورية الصينية وأول مراحل تطور العمارة الصينية في العصر الحديث، وظهور المساكن رفيعة المستوى بما فيها مساكن الطبقة البرجوازية الوسطى، والأكواخ في الريف والحضر.
يقول وانغ يوان جوان عن جماليات القصر الإمبراطوري في بكين وهو أكثر المساكن ذات الأفنية فخامة وعظمة، ويسمى بالمدينة القرمزية المحرمة "كان مقر إقامة أباطرة أسرتي مينغ وتشينغ الملكيتين، وشُيد في العام الثامن عشر لحكم الإمبراطور يونغ له (عام 1420)، أي أن تاريخه يعود إلى ما يقارب ستمائة عام، وبرغم ما تكرر خلالها من إعادة ترميم وتوسعات فيه، إلا أنه احتفظ بطرازه القديم، مما أبرز التقاليد الرائعة والطُرز الفريدة في الفن المعماري الصيني القديم.  
ويُبرِز القصر الإمبراطوري بداية من تصميمه الخارجي إلى تخطيطه الداخلي، الفكر التقليدي في مفاهيم نظام الهيبة العشائرية وسلطة الإمبراطور العليا. ولقد بدأت مباني الأسر الإمبراطورية الحاكمة في بكين من بوابة "يونغدينغ"، ومرت بوابة "تشيانمن" وبوابة "تيان آن من"، وبوابة "دوانمن"، وبوابة "وومن"، وقاعة "تايخه ديان"، وحديقة جينغشان، وبوابة "ديآنمن"، وبرج الطبل، وبرج الجرس، فشكلت طريق تشونغ تشو - وتعني حرفيًا المحور المركزي - البالغ طوله 8 كم تقريبًا، والذي يصل شمال بكين بجنوبها. يقع القصر الإمبراطوري في منتصف هذا الطريق، وعلى يساره معبد الإمبراطور والهيكل السلفي الإمبراطوري تايمياو - قصر ثقافة الشعب العامل حاليًا - وعلى يمينه مذبح "شهجيتان" لتقديم القرابين لإله الأرض وإله الحبوب -حديقة تشونغشان حاليًا - وقد أعادت تصميماتها الداخلية والخارجية نظام امتلاك الإمبراطور "خمس بوابات" و"ثلاث بلاطات ملكية" و"ست غرف نوم".

يصف المدينة المحرمة "يبلغ طول النهر داخل المدينة المحرمة 1200 متر، وتتجمع مياهه من خندق الحماية المائي بالركن الشمالي الغربي للمدينة، ويجري جنوبًا بمحاذاة جدار المدينة الغربي، ثم يسير شرقًا من أمام قاعة "وويينغ"، ويلتقي بعد التعرج خارج زاوية المدينة الجنوبية الشرقية بنهر جينشوي الخارجي. ولتصريف مياه الأمطار داخل القصر نظامان، جنوبي وشمالي، وللمجاري المائية ميل مناسب، يواجه خطر تكدس المياه. ويوجد بالقصر الإمبراطوري 70 أو 80 بئرًا، وتؤخذ المياه المخصصة لاستخدام الإمبراطور من جبل يويتشوانشان في الضاحية الغربية. كما صممت مهاجع القصر المستخدمة يوميًا بمعدات تدفئة، وبُني طريق ناري تحت أرض القصر للحفاظ على درجة الحرارة المحددة داخل القصر. وجُمعت معظم الأحجار المستخدمة في بناء القصر الإمبراطوري من جبل فانغشان جنوب غربي بكين، ووصل وزن الأحجار الكبيرة إلى 5000 كيلوجرام، بل وصل وزن بعضها إلى 50 ألف كيلوجرام. 
ويتوقف وانغ يوان عند القصور الغربية الستة حيث يسمى القسم الخلفي بلاط الملك الداخلي، ويضم قصر "تشيان تشينغ"، وقاعة "جياوتاي"، وقصر "كون نينغ"، والقصور الستة الشرقية والستة الغربية، وهو مقر سكن الإمبراطور الإقطاعي وقرائنه. ويشير إلى إن بلاط الملك الداخلي عبارة عن المباني التقليدية ببكين، الدار الرباعية الصينية المتمثلة في القصور الستة الشرقية والقصور الستة الغربية التي تحمي بشكل سيميتري ذات اليمين وذات اليسار، القصور الثلاثة المخصصة لاستخدام الإمبراطور والإمبراطورة: قصر "تشيان تشينغ"، وقاعة "جياوتاي"، وقصر "كون نينغ". ويتخذ تخطيط المباني نمط المساكن بالأفنية، والذي يختلف كثيرًا عن بلاط الملك الخارجي الفخم الواسع.
ويوضح أن قصر "تشيان تشينغ" يعد قصر نوم الإمبراطور، ويحتوي على 7 غرف مصفوفة بالعرض، وسقفه مزدوج متعدد الميول والاتجاهات حيث يحوي خمسة أسقف مائلة، أما قصر "كون نينغ" فهو قصر نوم الإمبراطورة، وسقفه مزدوج مسنّم متعدد الميول ذو تسعة أسقف مائلة. وشُيدت بين القصرين قاعة "جياوتاي" وفقًا لفكرة الاتحاد والسلام بين "ين" (المذكر الموجب) و"يانغ" (المؤنث السالب)، بنمط قاعات بلاط الملك الخارجي الثلاثة، باعتبارها قاعة الاجتماعات الصغيرة في البلاط الملكي الداخلي. كما توجد قاعة شرقية وأخرى غربية بجانب الرواق ذي الشرفات حول قصور البلاط الداخلي الثلاثة. القاعة الشرقية "دوان نينغ" هي مخزن ملابس وأحذية الإمبراطور، والقاعة الغربية "ماوتشين" هي مكان الإمبراطور للقراءة والاطلاع. وعلى جانبي القصور الثلاثة، تقع القصور الستة الشرقية والستة الغربية مقر سكن المحظيات والوصيفات، ومقرات تشيان الخمسة الشرقية والخمسة الغربية، وغرف أعمال خصيان القصور ونسائها. إن هذه القصور تتراصف كنجوم السماء التي تحيط بقصر "تشيان تشينغ" وقصر "كون نينغ" اللذين يرمزان إلى السماء والأرض، وتدور حولهما لحمايتهما.
ويضيف وانغ يون إلى إن القصور الستة الشرقية والقصور الستة الغربية هي مساكن الدار الرباعية الصينية التي نظمت في غاية الدقة، ولقد طرأ عليها الكثير من التغيرات بعد إعادة ترميمها وتوسيعها خلال عهود الأسر المالكة القديمة. ولا يزال في شرق القصور الستة الشرقية، قصر "نينغشو"، وقاعة "يانغشينغ"، وصالة "له شو"، وجناح "تشانغين"، وقاعة "فنغشيان"، وحديقة الإمبراطور "تشيان لونغ". 
أما في الجانب الغربي من القصور الستة الغربية فيوجد قصر "تسينينغ"، وجناح "يويهوا"، وقاعة "يانغشين". وتوجد الحديقة الإمبراطورية في شمال قصور البلاط الملكي الداخلي الثلاثة، وهي حديقة القصر الإمبراطوري الخلفية. ومن المباني الرئيسية، قاعة "تشينآن" التي شيدت في منتصف عهد أسرة مينغ، وسقفها مسطح تحاط اتجاهاته الأربعة بسنامات وزواياه الأربع بزخارف تتخذ أشكال حيوانات فاغرة الأفواه، فتعد بذلك مثالًا فريدًا على المباني الصينية القديمة.
ويلفت إلى أنه بالإضافة إلى العاصمة القديمة، هناك دارة الاصطياف الجبلية ببلدة تشنغده في مقاطعة خبي، وهي دارة الاصطياف التي بُنيت في عهد إمبراطور كانغشي، وتعرف أيضًا باسم قصر "رهخه" الإمبراطوري. بني عام 1703، وهو واسع ضخم، إذ يحتل مساحة تزيد على 5.6 مليون متر مربع، ويحيط به سور يصل طوله إلى 10 كم، وبني على سلسلة من التضاريس الطبيعية صعودًا وهبوطًا، مع حرف الجبل، فيبدو كصورة مصغرة من سور الصين العظيم. وقد بني بالتتابع على سفح شرق دارة الاصطياف الجبلية وغربها 11 معبدًا، لم يتبق منها سوى سبعة معابد، وتسمى "المعابد الثمانية الخارجية".
ينقسم دارة الاصطياف الجبلية إلى جزأين كبيرين: منطقة القصور ومنطقة المناظر الخلابة المسوَّرة، وهي مقر سكن إمبراطور أسرة تشينغ ومحظياته في فصل الصيف ومكان مناقشة الشؤون الحكومية اليومية، وتقام فيها العديد من الاحتفالات الفخمة، وبخاصة اللقاءات بنبلاء وأمراء الأقليات وسفراء الدول الأجنبية وغيرها من الأمور الحكومية. كما أن "المعابد الثمانية الخارجية"، هي مساكن مؤقتة لأمراء الأقليات ورهبانهم حينما يزورون العاصمة لمقابلة الإمبراطور. وقد بنيت "المعابد الثمانية الخارجية" بطراز قوميتي مان وهان، بالإضافة إلى المباني التي اعتمد شكلها على محاكاة طراز شينجيانغ والتبت وأقليات أخرى.
قاعة "شياو شيانغ" 
كان قصر الأمير قونغ في شارع "تشيانهاي شيجيه" بحي شيتشنغ بكين في البداية، مقر الوزير خه شن التابع المفضل للإمبراطور تشيان لونغ، وبعدما تولى الإمبراطور جياتشين زمام السلطة، أنزل عقوبته على خه شن، فصادر ممتلكاته العائلية لتعود للعامة، ومنح هذا القصر في مطلع أعوام حكم شيان فنغ للأمير قونغ كمقر سكني له. وينقسم قصر الأمير قونغ إلى جزأين: القصر والحديقة. يحتل القصر مساحة تزيد على 3 هكتار، تنقسم إلى ثلاثة طرق، شرقي وأوسط وغربي، تتشكل من كثير من الدار الرباعية الصينية التي تخترقها المحاور الثلاثة. يوجد الباب الرئيسي في مقدمة الطريق الأوسط، وبكل من الطريقين الشرقي والغربي ثلاثة أبواب جانبية، ويوجد خارج الباب الرئيسي على طول السور الجنوبي صفان من الغرف الخلفية، هي مكاتب أعمال الأمير، وعلى شرق الصف الأمامي مكتب الخدمات الداخلي، وفي المنتصف مكتب إدارة الأعمال ومكتب المزرعة، ومكتب القيادة المساعدة ومكتب القيادة الإدارية وغرفة المحفوظات (الأرشيف)، والصف الخلفي هو صومعة الحبوب والأرز الخاصة وحصة الأمير من عطايا الإمبراطور. وشُيّدت بالسورين الشرقي والغربي بوابتان خارجيتان تصلان بالشارع، ويعد كل منهما مدخلًا رئيسيًا. وهذا هو نمط بناء قصور الأمراء المعتاد في عهد أسرة تشينغ. 

بعد دخول البوابة الكبيرة، توجد قاعة الطريق الأوسط الرئيسية، وهي أهم مباني القصر، وتسمى قاعة يينآن، ولا تفتح عادة إلا في الاحتفالات المهمة. احترقت قاعة يينآن في قصر الأمير قونغ في عيد يوان شياو عام 1921 بسبب إشعال البخور، ولا يوجد حاليًا بالطريق الأوسط سوى القاعة الخلفية، وتسمى صالة جياله، وهي مكان العبادة وتقديم القرابين للآلهة والأجداد في الديانة السامانية، والقاعة الجانبية الشرقية هي مستودع قطع فنية أثرية، والقاعة الجانبية الغربية هي مخزن الفضيات، وهي أكثر ممتلكات القصر قداسة. والطريق الشرقي عبارة عن ثلاثة بيوت رباعية تشكل ساحتين. الغرفة الرئيسية من الساحة الأمامية هي غرفة الضيوف بأمير قونغ، والساحة الخلفية هي مقر سكنه. أما الغرفة الرئيسية في الطريق الغربي فهي غرفة شيجيتشاي، جمع فيها الأمير قونغ المخطوطات ومنسوخات النقش، وخلف ساحات الطرق الثلاثة صف مبانٍ خلفية من طابقين ترتفع شرقًا وغربًا 160م وأكثر من 40 غرفة، تسمى الجهة الشرقية مباني تشانجي، وتسمى الجهة الغربية مباني باويوه، وتعرف باسم "99 غرفة ونصف". 
قاعة القصر الكونفوشي 
بالإضافة إلى قصور أمراء قومية مان، فإن مكتب "يان شنغ قونغ"  الرسمي وسكنه الخاص في محافظة تشيويفو في شاندونغ يتميز بالرحابة والفخامة والبهاء. لطالما كان هذا المكان مقر سكن سلالة كونفوشيوس منذ منح رنتسونغ إمبراطور أسرة سونغ الرابع حتى عام تشي خه الثاني في عهد الإمبراطور رنتسونغ من أسرة سونغ عام 1055، الحفيد الكونفوشيوسي السادس والأربعين، رتبة يان شنغ قونغ واللقب الوراثي. يغطي القصر الكونفوشيوسي في تشيويفو مساحة تزيد على 16 هكتارًا، وبه 463 مبنى وقاعة، وتسع ساحات، فهو عبارة عن دار رباعية صينية كبيرة الحجم. تتخلله ثلاثة طرق، والجزء الرئيسي يقع في الخط الأوسط. أما القسم الأمامي فيتشكل من مكاتب حكومية، وهي ثلاث قاعات وست صالات، والقسم الخلفي مساكن، تنقسم إلى الغرفة العلوية الأمامية والمبنيين الأمامي والخلفي، وفي أقصى الخلف حديقة القصر الكونفوشيوسي الخلفية. وتوجد المؤسسة التعليمية الغربية على الطريق الغربي، وهي مكان دراسة يان شنغ قونغ، الشعر والأدب والقراءة. أما الطريق الشرقي فبه قاعة مو إن، والتي شيدت لسلالة كونفوشيوس لشكر البلاط الملكي. وقد شيدت بوابات القصر الكونفوشيوسي الكبيرة في عهد أسرة مينغ الملكية، وعددها ثلاث بوابات، وأمامها حواجز وقائية. البوابة الثانية من الخشب، ولا يتصل جانباها بأسوار، وعليها سقف كبير مزين برسومات ملونة، وتسمى بوابة تشوي هوا. وتغلق هذه البوابة في الأوقات العادية، ولا تفتح إلا بعد إطلاق 13 طلقة تحية وترحيب أثناء الاحتفالات الكبيرة، أو عند قدوم الإمبراطور، أو قراءة المراسيم، أو إقامة طقوس تقديم القرابين لكونفوشيوس، ولهذا تسمى أيضًا بوابة ييمن أو البوابة سايمن.