تحولات الشرق تنادينا

ثمة إشكالية في أن يكون لبنان حياديا فيما كل مكون لبناني قائم بأعمال دولة غريبة.

حين تأسست دولة لبنان سنة 1920 واستقلت سنة 1943، كان محيطها الحدودي المباشر سنيا بين فلسطين وسوريا، وكذلك محيطها الأوسع مع الأردن والعراق والخليج ومصر. لذا فضل المسيحيون، وتحديدا الموارنة، تركيز صيغة الحكم اللبناني على الثنائية المارونية/السنية رغم الدور التاريخي للدروز والموقف الوحدوي للشيعة. مفارقة الموارنة أنهم يؤمنون بالشراكة مع العرب من دون الذوبان القومي في العروبة، ويحبون الدروز والشيعة ويترددون في الشراكة الدستورية معهم. هكذا وقع الموارنة منذ البداية في أربعة أخطاء: ديمغرافي، دستوري، عقائدي، وتاريخي.

سابقا، لم يكن حول لبنان، في المشرق، دولة إسرائيلية وحكم علوي وثورة إيرانية ويقظة شيعية. كانت سوريا أموية والعراق عباسيا والأردن هاشميا وفلسطين مسيحية/إسلامية. ولا كان شيعة لبنان استفاقوا على وجه إيران الخمينية. أقصى امتحان كان يقدمه اللبنانيون (المسيحيون والشيعة ضمنا) أن يختاروا في المنطقة بين محورين سنيين عربيين، وفي لبنان بين زعيمين سنيين من بيروت أو من طرابلس.

بعد نحو مئة سنة تغيرت الديمغرافيا السياسية بشكل استراتيجي ودراماتيكي وجذري وحاسم. مخطط الصهيونية اغتصب أرض المسيح والعرب وأعادنا إلى "العهد القديم"، وصارت إسرائيل ناطقة باسم الديمقراطية. انتفاضة العلويين طفحت في الساحل السوري وصبت في دمشق وسالت في بيروت، وصار العلويون ناطقين باسم العروبة. ثورة إيران فاضت في أرض بغداد والشام ولامست اليمن والبحرين وحلت في بلاد بشارة والبقاع، وصارت إيران ناطقة باسم فلسطين. ومشروع الأقليات استعاد نبضه في كل هذا المشرق الآرامي - الكنعاني - الفينيقي - السرياني - العربي وصولا إلى ثغور الخليج، وصارت كل أقلية ناطقة باسم حقوق الإنسان. وفي لبنان تقدم الشيعة بين المكونات المسلمة بالرغم من مكاسب السنة في "الطائف"، وصار حزب الله فيلقا عسكريا عابر الحدود وناطقا باسم جميع حروب المنطقة…

امتقع وجه السنية السياسية في الشرق وتجعد. خسر السنة، أصدقاء لبنان التقليديون، سوريا والعراق واليمن، وترنحوا في لبنان، وتضايقوا في الأردن، وهددوا في الخليج، وتقاتلوا في ليبيا، وانقسموا في مصر، وخرقت اعتدالهم موجة تكفيرية إرهابية. وما زاد قلقهم أنهم أكيدون من أعدائهم ومتوجسون من حلفائهم، وبخاصة من أميركا. وما نقص من خلافاتهم، أكملته تركيا في دخولها على خطي النزاع السني/السني، والعربي/ الفارسي، وفي دعمها "الإخوان المسلمين" المرفوضين في غالبية دول العالم العربي.

واختر يا لبنان…

الدولة اللبنانية، بل الصيغة اللبنانية، وجدت نفسها وسط شرق هجين ومريب، محتار ومذهول. لا يعرف فيه الثابت من المتحول. المعطى الوحيد الأكيد أن من خرجوا من القمقم لن يعودوا إليه؛ لكنهم عرضة للتحجيم لأن بعض مكوناته تعدوا المس باستقرار العالم السني - وهو أمر يتقبله الغرب وإسرائيل - إلى تهديد المجتمع الدولي عسكريا ونوويا وإرهابيا - وهو سلوك يعاقبه الغرب وإسرائيل. وجدت الدولة اللبنانية أيضا واقعا جديدا يناقض كل ما راهن عليه المسيحيون خصوصا، واللبنانيون عموما، مذ ساروا في تجربة التعايش المسيحي/الإسلامي من جهة والانتماء إلى العالم العربي (السني عموما) من جهة أخرى. خياراتها الأساسية تخطتها الأحداث، مرتكزاتها هزت وبطلت صالحة، وانقساماتها الداخلية تعطل اتخاذ خيارات جديدة جامعة. إنه مأزق وجودي. وما ضاعف الارتباك اللبناني أن كل التقدم الوطني الذي أحرز بعد الحرب اللبنانية، لاسيما بعد تحرير الجنوب سنة 2000 وبعد "ثورة الأرز" سنة 2005، لم ينعكس على الحالة الاستقلالية، فتراجعت نسبة المناعة في الجسم اللبناني.

هل يستطيع لبنان أن يختار رهانا جديدا؟ وهل سيعطى بعد حق الخيار؟ وأصلا، من هو المؤهل اليوم في لبنان لأن يختار ويقرر مصيرنا؟

الخيار الجديد مزدوج: اختيار الذات (أي لبنان نريد؟) واختيار المحيط (أي انتماء نريد؟) ما جرى في "اتفاق الطائف"، على أهميته، لم يتعد تسوية عاجلة تعثرت آجلا لأنها راعت المتغيرات المرحلية في لبنان، وتجاهلت المتغيرات العميقة في الشرق الأوسط.

بالنسبة لاختيار الذات، إشكالية أن يكون لبنان موحدا مركزيا فيما محيطه يتجه بخطى ثابتة نحو الفدراليات. إشكالية أن يكون لبنان تعدديا فيما مجتمعات المنطقة استسهلت الأحادية. إشكالية أن يكون لبنان حياديا فيما كل مكون لبناني قائم بأعمال دولة غريبة. إشكالية أن يكون لبنان نموذج الاعتدال والانفتاح فيما التطرف الديني ينمو شرا، ورفض الآخر بلغ نكران الذات. للخروج من هذه الإشكالية باب واحد: الوحدة الوطنية… لكن هذه هي الإشكالية الحقيقية. فلنبحث إذن على لبنان آخر.

بالنسبة لاختيار المحيط، المسألة ليست رقمية واقتصادية تخضع لمعايير حسابية. تاريخيا ليس الشرق ثنائيا: أسود أو أبيض، سنة أو شيعة. هنا الوجدان يسبق العقل، والجغرافيا تنافس التاريخ، والغريزة تتحدى المنطق، والطائفة تصد الوطن. خيار لبنان بين التعدديات المشرقية والعربية والإسلامية لا يشبه خيار الولايات المتحدة الأميركية بين كندا والبرازيل، أو خيار فرنسا بين سويسرا وبلجيكا. إنه خيار معقد يضع لبنان في مواجهة عبثية بين "العهد القديم" و"العهد الجديد"، بين الفرس والعرب، بين علي ومعاوية، بين العباسيين والفاطميين، بين أكثرية مستجمة وأقلية ناشطة، وبين عروبة جامدة وعثمانية مقنعة. وما يعقد خيار لبنان هو أن في محيطه المشرقي المباشر حصلت التغييرات الكبرى الديمغرافية (النقل السكاني) والإسلامية (التمدد الشيعي) والتاريخية (انحسار الوجود المسيحي). فلنبحث إذن عن شرق آخر.

نحن. ومن نكون نحن؟ نحن مدعوون إلى التعاطي مع واقع الشرق الجديد من دون التكيف معه والتشبه به. مدعوون إلى اختيار الحضارة لا الأنظمة. لكن، أين الحضاريون اليوم ليحددوا هذا الخيار ويسحبوا لبنان من عصر الانحطاط، ومن محيط هرب من وجه الظلم فوقع في قبضة الجاهلية؟