تحولات الكتابة وخلاص اللغة
في سعي جاد لتأسيس موقف وجودي من الحياة، استخلاصا من لغة تشابه الحياة، حركة لاتستقر، هدم وبناء، يقظة وذهول، ثبات في الظاهر وحركة دائمة في الواقع، يكون قيصر عفيف قد اخذ بتلابيب الحرف الى مديات البوح، ووهج الكلمة الذي اوصله لحافات التبتل.
فها هي رؤية الشاعر تقف حائرة امام اللغة "الأم والتاريخ والحضارة والخلاص"، فهو مشدود اليها حد الصْلبْ.يرواغها كمعشوقة ويحتال عليها بدّل، وفي لحظات التجلي يحاول كسر نطاقها عابرا للأمتناهي، انه صراع الذات الشاعرة في احتدامها مع الأشياء والزمن والوقائع. لذا يحاول الشاعر في واحد من اقانيمه ان يعلن تمرده على القوانين والسنن الجامدة، من هنا يعتصر اللغة ويحطم اشكالها ثم يعيد ترتيب اشياؤه ورؤاه من رمادها.
فالعالم سيظل يحتفل بالقصيدة، لذا كان الرهان على الشعر مساحة لاتحد، وفضاء لايسبر له غور، ويظل الشاعرابدا هو"الرائي".
يرى ريكوران البحث الأساسي للأنسان بوصفه مركبا من اللوغوس والحياة في ثلاث محطات "لحظة التملك ، لحظة القدرة، لحظة الرغبة"، من هنا يكون اندماج هذه اللحظات في الذات الشاعرة المتفجرة احساسا قد تمثلت تجربتها الوجودية شعرا عبر نصوص قيصر عفيف المعنونة "للشعراء فقط"، والتي يشي عنوانها بخصوصية جسورة، لكنها ترمي الى الأبعد للفهم المباشر للعنوان وصولا لفك مغاليق نصوص المجموعة والتي تنفتح على مديات تحاور الذات والطبيعة والأشياء وحركة الوجود في تحولاتها وتغايراتها، ، عبر مستويات تتوزع بين الوصف التقريري والتعبيرية الشعرية والترميز المخاتل!
نصوص المجموعة تشتغل على محوراللعب في اللغة، وهي من امكانيات الحداثة الشعرية ومساحتها المضطردة، مع نسائم التأثير للنص الغربي، فبمقدار انزياح الجملة الشعرية او المفردة لوحدها احيانا عن قاموسيتها، فانها لاتفقد دلالاتها، لذا فهي توحي ولا تؤكد، تشيرولا تقول.
نصوص للشعراء فقط لقيصر عفيف تعِرج صوب منطقة تستشرف رؤى العالم الباطنية، وجاءت معتملة بمناخ شعري يمتاح من المتصوفة طرق تعبيرهم ونحتهم المفردة الشعرية، وشحنها برمزية عالية واشارية معمقة مثالها نص "الفوز العظيم" حيث الجملة الشعرية مشحونة بتعبيرية عالية مستندة لنسوغ عالم الأدراك الصوفي وصولا لتشكيل معمارها الشعري المكتنز بالأيحاء والوضوح على السواء.
في نص"الحكواتي" نجد ان حرف "الحاء" قد تكرر 99 مرة، متوزعا الكلمات التي شكلت جسد النص، من هنا يظهر لنا شديد الأعتناء في استخدام الحرف، واستثمار طاقاته عبر توليده المفردات الدالة المنتجة مناخا يتوائم في حضرة التصوف في مراتبه ودرجاته في الشطح والحلول وشق الحجب.
انها الذات الشاعرة وهي تتوزع بين اقطاب السائل الأثيري"الزمن" في مساراته، الماضي، الحاضر، المستقبل، تشدها قوى وهمية ، تارة تخترقها كرمح، وتارة تجس نبضها كحلم شفيف، انه البحث الأبدي عن خلاص، حينما لايكون للشاعرمن وطرق خلاص، سوى العودة مجددا للشعر كطاقة خلاقة، مشحونة الرؤى والأفكار، لتبقى الكلمة المكتوبة والجمل الشعرية ذات قدرة ايحائية، عبر نصوص تشربت دفقات اشارية تنتمي لنبع الشعر في تدرجاته واحواله، ساعية لكسر نمطية الاستخدام اللغوي في التعامل مع المفردة ومن ثم الآتيان بمعمارية اكثر جدة لرسوخ القصيدة التي يريدها الشاعر.
للشعراء فقط.، مدونة هصرت تجربتها الإنسانية بكل نزوعها الحتمي للامساك بانتمائها الصميمي لـ"اللغة" حاضنة وجود الشاعر ومصيره.، ومن ثم زوغانهاــ كفعل حركي ــ قابل لهدم العناصر القديمة، وتحطيم صنمية الواقع، ومن ثم اعادة تشكيل عوالمها برحابة اكبر وحرية اشد.