تسونامي كورونا من منظور جيوبوليتيكي

الدول تعيد اكتشاف موقعها ومكانتها في العالم.

في 11 مارس، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الفايروس التاجي كورونا أو ما يعرف باسم "كوفيد -19" هو جائحة، بعد ان واصل انتشاره عبر حدود 160 دولة لحد الان، انطلاقًا من مدينة ووهان الصينية (بؤرة الفايروس)، حيث بلغت حالات الإصابة المؤكدة بالفايروس أكثر من مليون شخص في جميع أنحاء العالم، واعداد الوفيات تجاوزت 50 الف شخص. رغم ان الوباء هو أزمة صحية عابرة للقارات، الا انها تتحول تدريجياً الى ازمة عالمية "اقتصاديًا" و"سياسيًا". وقد يسرع ببناء علاقات وتحالفات جيوسياسية جديدة أكثر اتزانًا.

هكذا، تأتي تفشي جائحة Covid – 19 في وقت تشهد الخريطة العالمية تنافسًا جيوسياسيًا واقتصاديًا بين الشرق والغرب، وحربًا تجاريًا بين الولايات المتحدة والصين. من هنا يأتي السؤال: ما مدى تأثير تسونامي كورونا على السياسة الدولية؟ وهل يغير ميزان القوى من الغرب الى الشرق؟

واكب الانتشار السريع للفايروس وابل من الاتهامات وحملات دعائية وتشويه بين بكين وواشنطن، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك وتشبث بـ "نظرية المؤامرة". في 17 مارس وصف الرئيس ترامب فايروس كورونا بـ "الفايروس الصيني"، في المقابل صرح الناطق باسم الخارجية الصينية "أن الفايروس صناعة أميركية، وقَدِمَ إلى ووهان في أكتوبر 2019 عن طريق جندي أميركي". كأن القوتين العظميين في حالة صراع! لا نعرف نهايته.

كورونا والقوة الناعمة الصينية

الصين الخصم الاقتصادي والمنافس الأول للولايات المتحدة في العالم، هي قوة صاعدة في النظام الدولي الجديد، وتزاحم الولايات المتحدة على الزعامة العالمية.

رغم عيوب نظامها السياسي، والأخطاء التي ارتكبتها مبكراً - عدم الكشف عن الفايروس لشهور- أثبتت بكين للعالم ان الطريق لاكتساب القوة والمكانة العالمية والتأثير هو من خلال إدارة الازمات العالمية، واستثمار أدوات القوة الناعمة أينما وجدت.

ما ان احتوت فايروس كورونا في بلادها حتى سارعت الصين الى ارسال مساعدات وفرق طبية عاجلة إلى 89 دولة و4 منظمات دولية لمكافحة فايروس كورونا، منها بينها العراق، إيطاليا، وفرنسا، صربيا، تشيك، اليونان، النمسا، أميركا، دول الخليج وشمال افريقيا، استثمرت بكين الازمة -بعد فشل واشنطن في محاربة الوباء- من خلال استخدام الدعاية كقوة ناعمة، وتعد زيارة الرئيس الصيني في 10 مارس الى مدينة ووهان بمثابة رسالة قوية، مفادها ان بكين نجحت للحد من انتشار الوباء، ويمكن الوثوق به كزعيم عالمي.

ماذا يعني ان الصين وروسيا اول الداعمين لإيطاليا؟

بعدما أخفقت دول الاتحاد الأوربي في تلبية نداء الاستغاثة الذي أعلنته إيطاليا بسبب تفشي الوباء في البلاد، سارعت الصين الى ملئ الفراغ، بأرسال 1000 جهاز تنفس، ومليوني قناع، و100 ألف جهاز مساعدة تنفس، و20 ألف بدلة واقية، و50 ألف جهاز اختبار. رسالة مفادها، ان بكين أقرب الى روما من بروكسل وواشنطن في وقت الازمات.

وفي هذا السياق، وصف مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس غبريسوس الاستجابة الصينية لنداء إيطاليا بأنه مثال للتضامن، ليرد عليه سفير الصين لدى الأمم المتحدة قائلاً: "الصديق عند الحاجة هو الصديق حقاً".

هذه المبادرة، وان كانت محاولة لاستعادة سمعتها على الصعيد العالمي، الا انها أكسبت الصين "مكانة" في العديد من العواصم العالمية التي كانت منافساً او كانت تكن الكراهية والعداء لها.

لو نظرنا الى الدعم الصيني لإيطاليا من منظور جيوبوليتيكي، نلاحظ ان إيطاليا ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وتتمتع بموقع جيوستراتيجي مهم لجهة المشروع الصيني "طريق الحرير" او ما يطلق عليه رسمياً "مبادرة الحزام والطريق"، الذي انضمت اليه ايطاليا في اذار/مارس 2019، وتطمح بكين الى دخول أوروبا من البوابة الإيطالية، وهذا ما يربك بروكسل وواشنطن، اللتين تنظران الى طريق الحرير كخطة لتوسيع النفوذ الاقتصادي الصيني.

على خطى الصين، أرسلت روسيا تسع طائرات محملة بالإمدادات الطبية، و100 خبير الى ايطاليا. هذه المساعدات ربما تكسب ود الشارع في دول الاتحاد الأوربي خصوصاً إيطاليا، بمعنى تأجيج مشاعر الرأي العام ضد الحكومات الاوربية، رغم ان المسؤولين الاوربيين يقللون من أهمية هذا الدعم الخارجي، وانه دعاية لتحقيق مكاسب جيوسياسية خاصة.

هكذا، أعلنت الصين انتصارها في الحرب العالمية ضد وباء كورونا، بعدما وظفت قوتها الناعمة، التي تعد رهانًا استراتيجيًا من اجل الوصول الى قيادة العالم. وقدمت نفسها كنموذج عالمي في التعامل مع الازمات، مقارنة بأسلوب تعامل الديمقراطيات الغربية التي تقف حائرة حول كيفية وضع استراتيجية مشتركة للقضاء على الوباء.

كورونا يقوض صورة أميركا كقوة عظمى!

على مدى العقود السبعة الماضية استطاعت الولايات المتحدة من بسط نفوذها على العالم من خلال امتلاكها القوة والثروة والحوكمة العالمية، وقدرتها على حشد الحلفاء والاستجابة للازمات العالمية، اذ ظهر تعاون علمي ملحوظ بين الولايات المتحدة والصين في التعامل مع وباء انفلونزا الطيور في 2005 وإيبولا في 2014، لكننا لا نرى ذلك التعاون في الوقت الراهن، ما نراه هو ان الفايروس فاقم من الحرب الكلامية بين بكين وواشنطن.

لقد هزة ازمة كورونا مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى، فالأخيرة، لم تحاول حتى استخدام نفوذها في التنسيق لحملات دولية لمحاربة الوباء. بدلاً من ذلك، تعاملت واشنطن مع الازمة بشكل انفرادي لتحقيق مصالحها الخاصة، وهذا سيؤثر على الحلفاء والخصوم على حد سواء.

عَكس الصين، تثبت أميركا أن الطريق لفقدان السلطة والمكانة والتأثير هو الاعتماد على القوة الجيوسياسية من خلال التهديد والدبلوماسية القسرية والعقوبات والتدخل. خير دليل على ذلك، الأخطاء التي ارتكبتها أميركا في أفغانستان والعراق وسوريا، وطريقة التعامل مع الملف النووي الإيراني، قد اضعفت بشكل ملموس القوة الأميركية، رغم ذلك لم تتعلم شيئا من كل فشل، لان شعار "أميركا أولا" الذي يردده ترامب، قد اضرت بمصداقيتها تجاه حلفائها، وكقوة عالمية فعالة. واليوم يأتي اختبار فايروس كورونا ليبرهن للعالم، ان أميركا لا يمكنها قيادة العالم بمفردها في ظل التحديات العالمية مثل الأوبئة وتغير المناخ والهجرة.

أميركا تَخذُل حلفائها التقليديين، في قرار مفاجئ وبدون استشارة او التفكير في أثر تداعياته، أعلن الرئيس ترامب في 12 مارس ومن جانب واحد، حظر السفر من 26 دولة اوروبية من دخول الولايات المتحدة باستثناء بريطانيا وايرلندا، هذا السلوك الغير متوقع والذي ادانه اغلب القادة الاوروبيين، خلق شعور أكبر بالفوضى وانعدام التنسيق والعداء الصريح لأوروبا، الذي قد يوسع الهوة السياسية بين جانبي الاطلسي.

رغم ان البشرية تتعرض الى عدو مشترك لم تردعه الحدود السياسية ولا الترسانات النووية، يواكبه الذعر والهلع والمرض، الا ان التنافس الجيوسياسي والصراعات في الكثير من مناطق العالم المضطربة باقية على حالها بدون اجراء أي تغييرات تذكر على جدول اعمال القوى الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة. فلم يمنع فايروس كورونا واشنطن من تخفيف رمزي للعقوبات الاقتصادية على إيران، التي تحولت الى أحد المراكز الرئيسة للوباء، ولا وقف إطلاق النار في ليبيا وسوريا واليمن. هذه السلوكيات غير الإنسانية قوضت قدرة وكفاءة الحوكمة الاميركية.

كورونا يضع الوحدة الأوروبية على محك!

كشف الوباء ان القيم والمفاهيم التي قامت عليها الاتحاد الأوروبي مثل الوحدة والتضامن والتعاون الجماعي قد يهدد بنية أكبر تكتل اقتصادي في العالم، في ظل انقسام سياسي يعاني منه دول الاتحاد الاوروبي، وانعدام رؤية موحدة ومشتركة لمحاربة هذا الوباء الذي اجتاح القارة الاوربية بسرعة، وحول مدن Cosmopolitan عالمية مثل لندن وباريس الى مدن اشباح.

إيطاليا، اول المتضررين من الحرب ضد وباء كورونا، دعا رئيس وزرائها جوزيبي كونتي، في مقابلة مع صحيفة "Il "Sole 24 الإيطالية في 28 مارس، قادة الاتحاد الأوروبي الى عدم ارتكاب أخطاء مأساوية في التعامل مع ازمة كورونا، " لان التكتل الأوروبي قد يَفقد سبب وجوده". مضيفاً " إذا كنا اتحادًا، فآن الأوان لإثبات ذلك". هذا يفسر مدى الانقسام الحاد بين دول الاتحاد، لاسيما إيطاليا وألمانيا وفرنسا وهولندا حول آلية دعم الدول المتضررة من الوباء. وما عمق هذه الفجوة هو الدعم الصيني والروسي لإيطاليا. المثير للجدل، ان الدول الأكثر ثراءً في الاتحاد الأوروبي كألمانيا وهولندا اعترضت على خطة تقديم مساعدات مالية للدول الأكثر تعرضًا للوباء.

في حديثه مع صحيفة "‏كوريير ديلا سيرا" الإيطالية، في 28 مارس، حذر الرئيس الفرنسي ماكرون الايطاليين، من الحديث عن المساعدات الصينية والروسية، مضيفا "يجب علينا ان لا نَنكَب في الاستماع الى ما يقوله شركاؤنا الدوليون أو منافسونا". يقصد روسيا والصين. كما ابدى استيائه من الانقسام الأوروبي، بالقول "إذا لم نَتحد، يمكن لإيطاليا واسبانيا ودول أخرى ان تقول لشركائها الاوربيين بحق: أين كُنتم عندما كُنا في الحرب مع كورونا؟" ويختتم قائلًا "لا أريد أوروبا أنانية ومُقَسمة."

هكذا، جاء اعتذار الاتحاد الأوروبي "المتأخر" لإيطاليا، من خلال رسالة وجهتها أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الاوروبية في 2 ابريل، جاء فيها: "أقدم لكم اعتذاراتي.. نحن معكم". "اليوم أوروبا تتحرك وتقف الى جانبكم". يبدو ان وباء كورونا أثار النزعة القومية والوطنية لدى العديد من دول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ما دفعتها الى وضع المصالح الوطنية للبلد أولا؛ والنتائج جاءت كارثية.

يبدو ان الاتحاد الأوروبي أمام لحظة تاريخية! لا يمكن التكهن بالتداعيات الجيوبوليتيكية للوباء على القارة العجوز، التي تعاني من أهم عوامل نشوئها وهي التضامن والعمل الجماعي. وما نشاهده الان، هو أوروبا كولايات، وليس أوروبا كاتحاد!

لن ينسى الايطاليون الدرس الاوروبي، حتى بعد زوال الوباء، بعد ان تَركَت اوروبا روما، تُصارع الوباء وَحدَها. وسيبقى يطرحون على أنفسهم العديد من الأسئلة العَدائية: لماذا لا تُساعدنا أوروبا؟ لماذا لا تَتَدخل أوروبا؟ لماذا لا تُوفر أوروبا الأقنعة وأجهزة التنفس؟

حان الوقت، لكي تنهض القوى الكبرى وتعمل بروح الفريق الواحد للقضاء على عدو مشترك يهدد حياة كل البشرية.